إيران بين الممارسة والنظرية

الشيعة الإمامية الإثنى عشرية كنموذج للتطور فى نظريات الحكم ؟

لماذا الشيعة الإمامية الإثنى عشرية من دون الفرق الشيعية المتعدِّدة كنموذج للتطور فى نظريات الحكم؟

لأنٌَ نظرية الحكم التى أبدعتها هذه الفرقة الشيعية أفلحت بالفعل فى إنشاء دولة كبرى هي جمهورية إيران الإسلامية.

ولماذا كانت الكتابة في هذا التوقيت؟

ذلك لتلك الموجة الاحتجاجية التي احتفى بها الإعلام ما بين نافخ في كيرها و ما بين مقلِّل من شأنها، ولأنٌَ الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاعب إقليمي ودولي من الوزن الثقيل، فلن تسمح توازنات السياسة العالمية بانفراط عقدها، كما حدث في غيرها من الدول الصغرى منعدمة التأثير.

إنَّ انفراط نظام دولة إيران يعني زلزالًا عالميًا غير مأمون العواقب، كما أنَّ للنظام الإيراني من المرونة والقدرة على المواءمة الفائقة بحيث تسمح له بتفادي الأزمة وإرضاء كافة الأطراف، ولأن هذه الدولة قائمة على أصول فرقة قد أبدت قدرة فائقة فى تطوير نظريتها السياسية بمرونة منقطعة النظير؛ فكلما بدا لها تناقضًا واقعيًا، عالجته نظريًا فأضفت عليها حيوية وحياة جنبتها الدخول في متحف النظريات السياسية، ككثير من نظريات الحكم التي أصبحت مجرد نظرية لا نصيب لها من التطبيق الواقعي. ولأنها وظفت التاريخ للحشد خلف رؤيتها في تثوير الواقع والانتصار لدم المظلومين المستضعفين وتأطير كل ذلك في إنشاء دولة -وهو موضوع مقالنا في محاولة لتفسير الواقعي بالأيديولوجي والعملي بالفكري، مستعينًا بما أتيح من مصادر ورقية وإلكترونية متاحة.

إعلان

مختارنامه و القوى الناعمة

تفترق الإمامية عن بقية النظريات الإسلامية السياسية وتنفرد بكون “الحكم (الإمامة) ركن من أركان الإسلام كالصلاة والزكاة والحج لايكتمل الإسلام بدونه*1” وهنا ولأول مرة نرى هذا التماهي الشديد بين الإسلام السياسي والإسلام الشعائري التعبدي، ويقربنا ذلك جدًا من مفهوم الحاكم المعصوم الذي هو ظل الله في الأرض، بل الإمام هو ذلك بالفعل ونصوص عصمة الإمام الحاكم تزخر بها أدبيات الفقه والحديث الإمامي الإثنى عشري “فكلام الأئمة تشريعي يعتبر بمثابة الحديث الشريف في تفسير حديث النبي الذي يكون منقولًا على ألسنة الأئمة أو أحاديث الأئمة أنفسهم أيضًا *2″، وتذكر المصادر الإمامية أن مصدر التلقي عند هؤلاء الأئمة من مصدر الهي وهو الوحي (ليس بوحي الشريعة لأنه مختص بالأنبياء فقط ، وإنما هو علم لدني).*3

وتفترق أيضًا في(النص) “الذي يعين المؤهلين الذين لهم حق الحكم بالاسم و بالمواصفات *4”. وتكون البيعة بذلك مجرد تحصيل حاصل تمكن المنصوص عليهم من النهوض بالحكم فعلا.

“وإذا كان الإمام معصومًا فتكون الشورى أسلوب ممارسة الحكم من الحاكم فيما لا نص فيه…*5”

نقترب بذلك جدًا من مفهوم الدولة الثيوقراطية فإذا كان الإمام معصومًا منصوصًا عليه بنصوص مقدسة فهل ستتوفر المكنة الحقيقية لمعارضته؟

والأئمة هم علي والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ومحمد ابن الحسن العسكري(عليهم جميعا السلام).

“ولو ألقينا نظرة على تاريخ الإمامية خلال القرن الثاني والثالث الهجري لوجدنا النظرية الإمامية ممتدة ومفتوحة إلى يوم القيامة ولم تكن محصورة فى هذا العدد من الأئمة..*6 ” ولكن الحقيقة أن السلسلة بالفعل قد انتهت عند الإمام الحادي عشر “الحسن العسكري” وأن محمدًا ابنه -بحسب المراجع الإمامية- ولد واختفى فى ظروف غامضة.
ونظرًا لوصول النظرية الإمامية إلى طريق مسدود بوفاة الحسن العسكري واختفاء ولده الذي هو فى الاعتقاد الإمامي في غيبة وسوف يظهر ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا، ونظرًا لطول الغيبة حدث تطور في النظرية الإمامية وذلك فى القرن الرابع الهجري في صفوف الجناح المتشدد من الإمامية وهم الموسوية الفريق الذى كان يعتقد في قانون الوراثة العمودي “ولا يقبل فيه أي مساومة وقد قال بوجود قائمة مسبقة من الأئمة محصورة في اثني عشر إمام، أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم ..*7″، فكانت نظرية الإثنى عشرية “التى أفرد لها الكليني في كتابه( الكافي) سبعة عشر رواية*11”

ولقد أدى غياب الإمام الثاني عشر إلى إشكالية كبرى؛ فبغياب الإمام تغيب الدولة وتتعطل سلطاتها مما أدى إلى فقدان النظرية الإمامية الإثنى عشرية للمعنى السياسي والثوري.

فكان التطور الأهم والأخير على الإطلاق في الفكر الإمامي الإثنى عشري هو اجتهاد مفهوم ولاية الفقيه، ثم إعطاء صاحبها العصمة والسلطة المطلقة دينيًا وسياسيًا، نقل هذا المفهوم الذي أحدث فى عهد الدولة الصفوية جماهير الشيعة من الانتظار للإمام الغائب إلى الحركة الثورية الدؤوبة، فكل ما كان منوطًا بالإمام أصبح منوطًا بالفقيه “وكان محمد بن مكي الجزيني العاملي المتوفى في عام 786 هجريًا صاحب أول تطوير حقيقي في الفقه الشيعي فيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه، فبعدما كانت علاقة رجال الدين بالمجتمع قاصرة على الفتاوى الفقهية وعلى ما يحصلونه من نسبة الخمس، وسع الجزيني نطاق عمل الفقهاء ووسع تأثيرهم فى حياة الشيعة مستندًا إلى نظرية (نيابة الفقهاء العامة)*8”

“ولايتعدد الولاة الفقهاء فى العصر الواحد بتعدد الفقهاء وإلا كان هذا هرجًا ومرجًا. فيقول محمد حسن النجفى (ولا يتوهمن أحدٌ أن ولاية الفقيه في بعض الروايات أن كل الفقهاء هم ولاة الأمر الفعليون في وقت واحد، فإن هذا غير معقول لأنه يؤدي بالضرورة إلى التفتت والتفرقة، وإنما المراد أنهم أهلٌ للولاية فلهم شأنية الولاية، فإذا تصدى أحدهم أو اختير صار ولياً فعلياً وعلى الآخرين أن يطيعوه)، فتكون نظرية ولاية الفقيه هي (ولاية وحاكمية الفقيه الجامع للشرائط فى عصر غيبة الإمام الحجة، حيث ينوب الولي الفقيه عن الإمام المنتظر فى قيادة الأمة وإقامة حكم الله على الأرض*9)  -تعريف أحمد بن محمد مهدي كاشانى كتاب (عوائد الأيام فى بيان قواعد الأحكام).

“ومن لوازم هذا التعريف أن الفقيه الجامع للشرائط تنقل له كل صلاحيات الإمام الغائب بما فيها المنصب السياسي إلى حين ظهور المهدي*10”. وأثبت فقهاء الشيعة بذلك مرونة حيث “أنه بغياب الإمام الحجة كانوا بين خيارين إما توقف مسيرة الدولة، وإما الغوص فى بطن النصوص لإخراج هذا الاجتهاد الكفيل بعدم تعطل المسيرة الثورية المقدسة فكانت نظرية “( التقية والانتظار) كلازمة من لوازم ( الإمامة والغيبة). تحرم إقامة الدولة أو الثورة أو ممارسة أي نشاط سياسي إلا بقيادة الإمام المعصوم المعين من قبل الله تعالى؛ فكانت نظرية ولاية الفقيه هى المخرج من ذلك وكان ذلك نتاج بحث عقلي، تراكمي ساهم فيه فقهاء وساسة الإمامية من عهد الجزيني المتوفي فى عام 786 هجرية إلى عهد الخميني الذي لعب دورًا هامًا في تطوير الفقه السياسي الشيعي حيث حمل راية ولاية الفقيه وكانت الظروف السياسية التى تمر بها إيران – الشاه، والدور الذى لعبه الخميني فى تحريك الاحتجاجات منذ عام 1963، ثم نفيه إلى الخارج حيث استقر بالنجف، وتلك فرصة كبيرة له لتطوير أفكاره وصوغها فيما يتعلق بإطاحة سلطة الشاه الدنيوية، وإقامة جمهورية إيران الإسلامية على أساس نظرية ولاية الفقيه.

وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف، فإننا لا نستطيع إنكار تلك العبقرية العقلية الجمعية التراكمية فى تطويع النصوص لخدمة الأيديولوجية فى تطوير مذهل للأفكار عرضناه فى مراحله الثلاثة، وذلك باختصار أرجو أن لا يكون مخلًا.

—————————–

المراجع:
*1 ،الكافي. محمد بن يعقوب الكليني، طبع طهران – *2،3 إيران، 1388 هـ، منشورات دار الكتب الإسلامية.
كشف الغمة بمعرفة الأئمة. ابن أبي الفتح الإربلي، طبع بيروت – لبنان، 1405 هـ / 1988 م، منشورات دار الأضواء.
*4، 8 عقائد الإمامية. محمد رضا المظفر، طبع قم -إيران .
*5 ، 10 الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه روح الدين موسوي خميني، دار الفكر ، بيروت ،لبنان 1981.
*6،9 يسألونك حسام الدين بن موسى عفانه ج 16 .
عوائد الأيام ، مهدي كاشاني ذكرت الإحالات في متن المقال.

 

إعلان

اترك تعليقا