عن الحرب الباردة

اعتدنا عند قراءة التاريخ اكتشاف أحداث معيَّنة أدَّت إلى إعلان دولةٍ ما الحربَ على دولةٍ أخرى. وقد كنت فى الماضي متيقنًا أنَّ مثل هذا الإعلان يتمّ قبل اندلاع الحروب الساخنة التي تقوم بها الجيوش ضدّ جيوش معادية لها. ثمّ وجدتُ أنّ هناك حروبًا اندلعت دون إعلان صريح، مثلما حدث فى حرب يونيو 67 لما هاجمت القوات العسكرية لاسرائيل كلًّا من مصر وسوريا، مع ادّعاء أنَّ قرار مصر بإغلاق الملاحة في خليج العقبة يُعتَبر إعلانًا للحرب.

في الواقع، كانت الحرب لا تزال قائمة منذ عام 1948، تخللتها فترات من الهدنة وفترات من المعارك، ولم تنتهِ إلا بعد توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1978. ولكنَّني تساءلت: وهل تمّ إعلان للحرب الباردة بين دول المعسكر الغربيّ ودول المعسكر الشرقيّ، والتي استمرّت خمسين عامًا في النصف الثاني من القرن الماضى؟ وإن لم تُعلَن تلك الحرب الباردة، فلماذا سمّيت بالحرب؟ فرأيت أهمية إظهار الواقعة العجيبة التي أتت بالرد على هذا التساؤل، لِما تمثُّله كدرسٍ تاريخيّ يساعد على فهم بعض من أوضاع العالم اليوم.

من المفيد علمنا أنّ أكبر مجهود حربيّ خلال الحرب العالمية الثانية قام به الاتحاد السوفيتي. ولننظر نظرة سريعة للأرقام: تحمّل الاتحاد السوفيتي 88% من الخسائر البشرية العسكرية لقوات الحلفاء، فى حين تحمّلت الولايات المتحدة 2.2% وانجلترا 3% وفرنسا 2.3%. أما أرقام الخسائر البشرية من المدنيين، فقد تحمَّل الاتحاد السوفيتي فقدان 15 مليون و760 ألف شخص مدنيّ، في حين تحمَّلت الولايات المتحدة فقدان 1700 شخص وانجلترا 67100 شخص وفرنسا 350 ألف شخص. ونفس تلك النِسب هي خسائر الحرب العالمية الثانية لدى الحلفاء في العتاد والمنشآت والثروات. طبعًا يمكن استكمال الأرقام بإدراج خسائر الجنسيات الأخرى التي شاركت في الحرب إلى جانب الحلفاء. لذلك نحن نجد أنَّ الاتحاد السوفيتي تحمَّل أكبر قدْر من خسائر تلك الحرب التي قُتل فيها ما بين 60 و80 مليون شخص.

مع انهيار ألمانيا النازية بنهاية الحرب العالمية الثانية، تدافعت أطماع ساسة الدول الغربية لنيل أكبرِ قدر ممكن من المكاسب على أنقاض ألمانيا وحلفائها من دول المحور. فبدأ التسابق لاحتلال كلّ ركن من أركان ألمانيا والبلاد المنهزمة، متجاهلين في ظلّ نشوة الانتصار الدورَ الهامّ والأساسيّ للاتحاد السوفيتي في هذا النصر.

بدأت انجلترا تتزعَّم حركة توزيع الغنائم وتُحرِّض الولايات المتحدة على ضرورة السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أراضي البلاد المنهزمة. وكان رئيس وزرائها “وينستون تشرشل” أكثر المتحمّسين لتلك السياسة الاستعمارية الجديدة، رافضًا أن يكون للاتحاد السوفيتي -أو حتى لفرنسا- دورًا في إدارة دفّة ألمانيا وحلفائها السابقين.

إعلان

غير أنَّ “جوزيف ستالين” لم يكن بالسياسيّ الساذج، فسارَع بإرسال قواته لاحتلال عدة دول محيطة بألمانيا، واحتلَّ نصف ألمانيا ونصف عاصمتها برلين. وكان هذا ردّ الفعل من قبل زعيم الاتحاد السوفيتي سببًا في إثارة تشرشل الذي وجد أمامه من يحدّ من أطماعه الاستعمارية.

ترك تشرشل رئاسة وزارء بريطانيا بعد الحرب عام 1945. ولكنّه ظلّ على علاقة بهاري ترومان، رئيس الولايات المتحدة، وظلّ يذكره في كلّ مناسبة بضرورة الانتباه لتحرُّكات الاتحاد السوفيتي وخطورة توجهاته الشيوعية على النظم الديمقراطية في الغرب. إلى أنْ دعاه ترومان لإلقاء محاضرة بإحدى الجامعات الأمريكية، بمدينة فيولتون في ولاية الميسوري. وكان ذلك فى مارس من عام 1946. انتفض الأسد العجوز (72 سنة) فى محاضرته، وقال جملة شهيرة دخلت التاريخ:

“من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكى، سقط الستار الحديديّ.. فأيًا كانت النتائج المستخلصة من ذلك، فإنها بالقطع ليست هذه أوروبا التي حاربنا من أجل تحريرها، وإنها ليست أوروبا التي تحمل بداخلها بذور السلام الدائم… أنني أدعو الشعوب المتحدثة بالإنجليزية للتوحد لخلع أي محاولة للطموح أو المغامرة”

وكانت تلك الجملة في نظر الاتحاد السوفيتي وحلفائه، بل وفي نظرِ كثيرٍ من المؤرخين، بمثابة إعلان حرب؛ إعلان قيام الحرب الباردة. وقد استطاع تشرشل بذلك أن يضمّ لآرائه الدول الغربية، والتي أعلنت سنة 1949 قيام الحلف الأطلنطي لمواجهة معسكر الشرق، وردَّ عليها الاتحاد السوفيتي في عام 55 بإعلان قيام حلف وارسو مع دول معسكر شرق أوروبا.

استمرّت تلك الحرب الباردة نحو خمسين عامًا بسيطرة الرعب والخوف على مقدّرات العالم، ولكن بهيمنة توازن قوى المعسكر الغربي والشرقي. والعجيب أنّ الذي أعلن قيام تلك الحرب رجلٌ بالمعاش، ظلَّ تأثيره ممتدًا سنوات بعد تركه الخدمة. رجل بريطانيا الأوَّل في القرن العشرين.

هكذا كانت بريطانيا دومًا، وهكذا هي بريطانيا حتى أيامنا هذه بحيث تؤثِّر في مصير العالم من خلف الكواليس.

إعلان

اترك تعليقا