الكردي الذى حكم مصر

عاشت مصر فى عصورها الوسطى حقبة قصيرة من الزمن لا تزيد عن 23 عاما، بحلوها ومرِّها، صعودًا وهبوطًا، كانت لها تأثيرًا قويًا على مصير الشرق الأوسط، فرسمت معالمه لقرون لاحقة، وخلطت الحقائق بالأساطير، فانطبعت فى الذاكرة العامة، بحواديث وروايات مقتبسة من صحيح القصص، مضاف إليها جميل زخارف الشرق الرومانسى… نتحدث عن فترة حكم صلاح الدين (1169 إلى 1193) ودولته الأيوبية (1169 إلى 1250).

فترة حكم صلاح الدين

ولد صلاح الدين عام 1138 فى تكريت (بلدة صدام حسين) بشمال العراق، لعائلة كردية مقرها الأصلي فى “دوين” بأرمنيا، وانتقل والده إلى تكريت عندما كلفه الخليفة بالولاية على تكريت، وقد كانت الخلافة العباسية فى ذلك الوقت قد ضعفت، وانقسمت بلاد الخلافة إلى دويلات يحكمها أمراء أو ولاة لا يهمهم إلا تحقيق مصالحهم الخاصة ومحاربة الدويلات المجاورة، لنهب وسرقة ثرواتها. أما مصر، فلم تعترف فى ظل حكم الخليفة الفاطمى الشيعي بالخلافة العباسية السنية، حيث ظل هؤلاء الفاطميون يحكمونها لفترة طالت 262 عاما، وكانت بلاد الشام، وعاصمتها دمشق يحكمها الزنكيون (ابن زنكى) ولكنها منقسمة بين ولايات دمشق وحلب وحماة وغيرها، وكانت إمارة الموصل قائمة منفردة شرقا، وكذلك منطقة حكم السلاجقة وشمال العراق تحت حكم الأتابكة، وكان الغرب مترهل لتصرفات قطاع الطرق من قبائل الحشاشين الذين بنوا الحصون بكل مكان ليغِيروا منها على قوافل التجار والحجيج.

وفى ظل انقسامات وحروب عرب المسلمين لبعضهم، أتت أول الغزوات الصليبية واحتلت فلسطين وأقامت مملكة القدس التابعة للكنيسة الكاثوليكية عام 1099، ونصبت أمراء أوروبا عليها وعلى مقاطعاتها الممتدة من شمال لبنان (طرابلس) إلى جنوب فلسطين (غزة). وظلت تلك المملكة قائمة من 1099 إلى 1291.

عندما علم نورالدين زنكى، حاكم دمشق بضعف موقف الخليفة الفاطمى العاضد لدين الله فى مصر، وسيطرة وَزِيره ضرغام ابن مالك على أمور الحكم، وانتشار الفساد والمؤامرات، أرسل قوات جيش الشام إلى مصر عام 1164، وكان معهم صلاح الدين الأيوبى، وهو لايزال قائد صغير فى سن السادس والعشرين، بغرض معلن هو حماية مصر من غزوات الصليبيين، وبغرض غير معلن هو الخلاص من الحكم الفاطمي وإعادة مصر إلى حظيرة الخلافة العباسية.

تناوبت المناوشات والمؤامرات والدسائس بتدخلات مباشرة من جواسيس الفرنجة الصليبيين المتحالفين تارة مع الفاطميين وتارة مع بدو الصحاري الشرقية وتارة مع النوبيين. وفى النهاية، وفى عام 1169 عين صلاح الدين وزيرا للخليفة الفاطمى، وحاول الصليبيين غزو مصر فى نفس العام عن طريق دمياط، فأرسل صلاح الدين قوات بقيادة شهاب الدين محمود الذى استطاع صد عدوانهم فهلكت قواربهم أمام السواحل المصرية، وهربت فلول قواتهم إلى شمال سيناء وغزة.

إعلان

توفى آخر الخلفاء الفاطميين عام 1171، وتولى صلاح الدين حكم مصر بصفته ممثلا للزنكيون، ثم استعد للاستقلال بمصر، وتحققت خطته بإقامة الدولة الأيوبية بالقاهرة عام 1174، وذهب يحارب تارة الجيوش الصليبية وتارة الزنكيون وقبائل الحشاشين. واعتمد فى كل معاركه على قوات وجنود أتوا من مصر، وظل بعيدا عن مصر طالما كانت قوات جيشه سليمة، ولكنه ومع تكرار بعض الهزائم هنا أو هناك، كان يعود إلى مصر لإعادة ترتيب قواته وتجنيد قوات جديدة. واستغل تواجده بالقاهرة عام 1176-77 لتحصينها ببناء قلعته الشهيرة، (مستخدما جزء كبير من أحجار هرم خوفو)، ثم عاد إلى فتوحات الشام بأكتوبر 1177. وظل هكذا يكر ويفر بين المواقع والمعارك، تاركا مصر تحكم بمعرفة أشقاءه وأقاربه، لا يعود إليها إلا لأغراض تنظيمية عسكرية وللاستزادة بجنودها والأسلحة.

معارك صلاح الدين

ظلت معارك صلاح الدين موجهة أساسا للدويلات والأمراء العرب بهدف توحيدهم تحت قيادته، لم تبدأ معاركه الحقيقية – عدا نادرا – مع الصليبيين (مرج عيون – عين جالوت) إلا فى سبتمبر من عام 1183، وبنجاح محدود حتى جاءت أم المعارك فى 5 يوليو عام 1187، فانتصر انتصارا باهرا فى موقعة “حطين”. وفى 2 أكتوبر من نفس العام، استطاع تحرير القدس. ثم جاءت الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد (البريطانى) والذى حرر عكا من حصار صلاح الدين وقام بذبح ثلاثة ألاف من الأسرى المسلمين، واضطر صلاح الدين إلى مهادنة الصليبيين وتوقيع معاهدة الصلح التى أبقت على مملكتهم بفلسطين وللعلم، أعيد احتلال القدس بعد عدة سنوات ولم تحرر نهائيا إلا عام 1291 على يد الظاهر بيبرس الذى استطاع أيضا تحرير عكا وانهاء مملكة القدس والوجود الصليبى.

عاد صلاح الدين إلى دمشق الذى قضى بها جزء من طفولته، ومات بها عام 1193 عن عمر 55 سنة، وتلاشت الدولة الأيوبية بعدها بعدة سنوات من مصر وبدأ حكم المماليك.
وبدأت أسطورة موحد العرب الذى قضى على الصليبيين. وسقط دور الجندى المصرى من الأسطورة، ولكنه ظل معلوما بكتب التاريخ. فهل لنا أن نمدح الحاكم الكردى الذى قاد جنودنا وبنى أسطورته بهم؟؟ رحم الله صلاح الدين، ورحم أجدادنا من جنود مصر.

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك:

علي الحفناوي يكتب للمحطة الرجل الذى اشترى مصر

العلوم الزائفة كيف ظهرت أشباه العلوم .. ولماذا يقبل الناس عليها

علي الحفناوي يكتب للمحطة تاريخ مصر مع الوهابية

إعلان

اترك تعليقا