الكرسي

“هذا العمل سيصيبكم جميعًا بالجنون.. إنّه يدمّر خلايا المخّ.. ستصابون بالجنون قبل أوانكم.”

لفظَها العجوز وهو جالس على كرسيّه، موجّهًا كلامَه للعمّال في المصنع، بصفته المشرف العام الوحيد منذ سنين عديدة لم يتغيّر، ثمّ تحرّك بكرسيه ليجلس أمام المصنع.

هذا العجوز وكرسيّه الذي لم يفارقه منذ أمد طويل، كرسيّ أخضر اللون مزخرف بماء الذّهب، مُبطَّن بقطن وقماش من الحرير أحمر جهنميّ.

كلّ عام يتمّ تغيير القماش الحريري لكي يحظى بزهوته، ويتمّ تلميع الحوافّ الذهبية بماء ذهب جديد، ويُنجّد القطن لكي يحتفظ المشرف بجلوسه الهادئ المنتظم ليريح أسفل الظهر، وأحيانًا أسفل الرقبة، حين يضع رأسه ليأخذ قيلولة.

يتبعه هذا الكرسي أينما ذهب؛ أمام المصنع، أمام منزله، داخل المصنع، داخل منزله، حتى أنّ بعض العمّال قالوا أنّه ينام على هذا الكرسي في غرفة نومه لشدة تعلقه به وخوفه من جلوس أحد عليه.

هذا الكرسي في المصنع منذ أيام الملكية، جلس عليه عدد بسيط يُعدّ على يد واحدة من مشرفين قبل المشرف العام الحالي، جميعهم وافتهم المنية، بعضهم غدر ببعض، بعضهم تآمر على البعض ليحتفظ بالكرسي لنفسه.

إعلان

حديث كثير عن هذا الكرسي وذاك العجوز كان قد سمعَه الشابّ الجديد في المصنع، وحذّره الجميع أنْ إياك والاقتراب من الكرسي حتى لو وجدت العجوز يميل ويقع على الأرض، إياك ومساعدته، دعْه وإن احترق الكرسي بصاحبه، فليس لنا شأن لا بالكرسي ولا بالعجوز، فنحن نعمل هنا طوال العمر دون المساس بالكرسي، بمبدأ عاش المشرف… مات المشرف.

نثور؟ أحيانًا.. نغضب! ربما.. ولكن الكرسي هو الكرسي والمشرف هو المشرف، نحن نعيش لنعمل ونعمل من أجل المال. فإنْ غضِبنا يكون غضبًا بسبب الأموال، وإن ثُرْنا تكون ثورة بسبب غلاء المعيشة.

تساءل الشابّ في ذهول:

– ألهذا تثورون! في المصنع القديم ثُرنا ذات مرة فأطحنا بالمشرف وكرسيه وغفره.. ثُرنا من أجل حقوقنا كبشر ولحياة كريمة للعمال.

قاطعه أحد العمال بغضب وحُرقة،

– وماذا بعد أيها الشابّ؟ ألم يُدمَّر المصنع! وها أنت ذا أتيت للعمل في مصنعنا.. لا تستنكر حبَّنا للعمل، فنحن خُلقنا لنعمل وليس لنثور؛ أيها الأحمق المغرور عديم النفع والطاعة.. يا لك من وقح، أتأتي لمصنعنا وتقول لنا ماذا نفعل؟ عليك لعنتي حتى تجنّ أو تموت.

وكان المُقاطِع في العقد الرابع من عمره، لديه ندبة على جبينه الأيسر وعينه اليسرى مغطاه بشيء أسود، وتبدو عليه علامات الجنون؛ فيَدُه كانت تتحرك بشكل عشوائي مع كلماته، وفور انتهائه قام بصفع عامل أمامه على وجهه عدة مرات..  ولم يتحرك العامل وكأنّ شيئًا لم يحدث، ومرّ على العمّال وصفع كلّ واحد منهم صفعة أو صفعتين ثم تمطّى وجلس القرفصاء، فتحرك العمال نحوه في هدوء وحملوه فوضعوه في غرفة من غرف كثيرة مصفوفة مغلقة بإحكام، كأنهم يشيّعونه لعالم أخر.

بعد دقائق من تلك الواقعة دخل المشرف من أمام المصنع، وتحدّث للشاب بهدوء وهو واضعٌ يديه خلف ظهره،

– ها هو أحد العمّال الجدد قد أصابه الجنون.. من الجيد أنك جئت في هذا الوقت لتحلّ محلّه، لقد كان يعمل في مصنعك القديم أيضًا. ولا تقلق فلدينا من الغرف الكثير والكثير إن أصابك الجنون فسنضعك في غرفة خاصة بالشباب.

وربت على كتفه وذهب إلى كرسيّه.

إعلان

اترك تعليقا