ريم بنا.. صراع الهوية والمرض

 كالصباحاتِ المفجعة، استيقظنا أمس عَلَى خَبرِ وفاة المطربة الفلسطينية “ريم بنا”، رمَزُ الحُبِّ والمقاومة، التي عانت مَرض السرطان في جَسدِها، ومَرض الاحتلال الذي لا يختلف عَن السرطان، في أرضها ..

فهي كالفراشة، رَحَلت “ريم بنا” فجأة عَن عالمنا بسلامٍ دون أن يزول أثرها، عالمُنا الذي لَم تَجد به ما يجعل لحياتها مَعنى! هي التي جَعلت بصوتِها وحضورها الخفيف الهادئ لحياةِ كل مَن أحبّها مَعنى. وأقَلّ ما يجب فعله هو أن نُقَدِّم لها الآن -غير مُصَدّقين- رثاءً يَليق بها، رثاءً مَهما بَلغت عظمته وبلاغته يبقى بالنسبةِ لها، لا شيء، لا شيء عَلَى الإطلاق.

ريم بَنَّا .. ابنة أرض فلسطين المُحتَلَّة، وُلِدَت بمدينة الناصرة الفلسطينية عام 1966 م، سرعان ما تَشَكَّل الفن في وجدانِها مُنذ كانت طفلة صَغيرة، اشتركت في عِدَّة حفلات غنائية مَدرسية وهي طفلة لم تتجاوز العَشر سنوات، ثُمَّ قَرَّرت أنْ تَدرس هَذا الفَنّ دراسة تُمكِّنها مِن الإبداع فيه بخلقِ مساحة غنائية جديدة لَم يَصِل إليها أحد؛ سافرت إلى موسكو ودرست في المعهد العالي للموسيقى هناك، وأثناء دراستها أخرجت لنا ألبومين: جفرا، ودموعك يا أمي.. وبعدما تَخرَّجت بدأت مَسيرة غنائية مُتفَرِّدة عامرة بالأغاني المُمَيَّزة التي ستَظَلّ محفورة في وجداننا جميعًا، ولن تنتهي، حَتَّى بعد انتهاء حياتها على الأرض.

*     *     *

 للفنانين الفلسطنيين في العصور الحديثة وضع خاصّ مع الفنّ؛ لأنَّ الفنّ في المقام الأول نابع مِن ثقافةِ البيئة كجزءٍ، ومِن الموروثات كجزءٍ، ومِن الموهبة كجزءٍ. وعَلَى هذا، فإنَّ معظم فَنِّهم يَتَّسِم بالروح الفلسطينية المَقْهورة، والمسلوب حَقّها، فلسطين التي لا تملك إلَّا سلاح الفن والإبداع، وجدنا محمود درويش، وناجي العَليِّ، وغَسَّان كنفاني، وريم بنا … وغيرهم.

إعلان

فإنَّ فنونهم وتعبيراتهم تَتَّسِم بالروحِ الثورية الراغبة في التحَرُّر مِن وطأة المغتصبين. فغَنَّت “ريم” أغانٍ تراثية فلسطينية، أحيَت بها الوَعي القومي، وكانت حَلقة وَصل بين الماضي والحاضر، فدمجت بين الغناء الحديث الذي تعلَّمته في موسكو، وبين كلمات أغنياتها المستوحاة مِن المجتمع الفلسطيني القديم.

أُصيبَت “ريم بنا” بسرطانِ الثَّدي عام 2009م، مَرضٌ لعين يُصيب المَرء فيُسَيطر عليه، ويصحب معه اليأس وكلّ ما هو سَيّئ.  لكنّ “ريم” لم تكن فريسة سَهلة، بَل قاومت .. حَتَّى آخِر نَفَس.

غَنَّت

وابتَسَمت

فوَفَّت، وكَفَّت .. بلا ضَجِّة، وانتصرت.

رَغم أنَّها مِثل ما يقول الشاعر الفلسطيني “مُريد البرغوثي”: الفتاة التي لم تعدنا بشيء..

واستمَرَّت إلى أن سُمِعَت كلمة الله، وانتقلَت إلى السماء بعيدًا عَن آلام الأرض..”

*     *     *

غَنَّت عِدَّة قصائد لمحمود درويش، كان مِن أبرزها قصيدة  أثر “الفراشة”، ولم تُدرِك أنَّ حياتها كأثرِ الفراشة، سيُصبح في يَومٍ مِن الأيام لا يُرى، ولكِنَّه لن يزول أيضًا..

أثر الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول

هو جاذبية غامض يستدرج المعنى،

ويرحل حين يَتَّضِحُ السَّبيل

هو خِفَّة الأبدي في اليومي

أشواق إلى أعلى، وإشراقٌ جميل

هو شامة في الضوء تومىء حين يرشدنا إلى الكلمات

باطننا الدليل

هو مثل أغنية تحاول أن تقول وتكتفي

بالاقتباسِ مِن الظلالِ، ولا تقول..

*     *     *َ

وعلينا كبارًا وصِغارًا أن نحتذي بـ “ريم بنا” كمثالٍ عَلى الحُبِّ والمقاومة، والقوة والإنسانية، فالقدر يَبعثُ لنا كُلَّ حينٍ إناسًا تُعَلِّمُنا كَيف تكون الحياة..

ونَختمُ بما قالته هي ذات يوم:

“أصعب أشكال الفراق هو الموت .. طبعًا بنحزَن، وبنحس بالفقدان

بس لازم نكون جاهزين لنكمّل .. ولو حتى من باب الوفا إلهن .. لانو أكيد أثَّروا فينا

وكان وجودهم معبي أيامنا بالفرح والحب..

اطلعوا من الحزن، وروحوا للتفاصيل اللي بتعطيكوا بهجة وفرح

وما تنسوا، بعد النهاية في بداية جديدة، وفي حياة جديدة “.

 

إعلان

اترك تعليقا