لماذا يُبدع المكتئبون؟

أعظم النظريات العلميّة وضعَها المكتئبون، أبلغ الخطابات كُتبت قبل الانتحار بدقائق، أبهى اللوحات رُسمت في قُمعٍ من الأغمام صنعه فان جوخ، النوتات الموسيقية الأكثر إتقانًا كانت لبيتهوفين، وأجود القصص كتبها كافكا..
هل كانت مجرّد صدف؟ أم أن المكتئبون يمتلكون ملكَة تجعلهم أكثر إبداعًا من الآخرين؟

ما هو الاكتئاب؟

يعتبر الاكتئاب من أكثر الأمراض المذكورة اسمًا، لكن لا يعي الكثيرون المعنى الحقيقي للمعاناة من مرض الاكتئاب. الذي يعاني أصحابه من فقدان الرغبة بكل شيء. هم لا يشعرون في الغالب بالمؤثرات الخارجية، لصخبٍ ما بداخلهم يفوق تصوّر الآخرين، فعقلهم صاخب، وكونهم فارغ، لكنه دقيق نوعًا ما. وبالرغم من أنه عرض طبيعيّ في بعض الأحيان كنتيجة للأحداث التي يمر بها الشخص، ولكن، في بعض الأحيان يفوق الأمر الأحداث الحياتية، ويستمر إلى أجل غير مسمى.

على مرّ التاريخ، كلما قابلنا شخصية مبدعة تطرّقنا معها إلى قصتها مع الاكتئاب، وكان لكل منهم معاناته الخاصة.. بما فيهم من أسس نظريات تطوّر طريقة عمل تلك العقول، تشارلز داروين، والذي يمكن اختصار عمله في قول “البقاء للأصلح”.. وهذا ما يمكّننا من وضع المكتئبين في إطار الكائنات غير الصّالحةللتطوّر.. فحقيقةً، الاكتئاب هو أكبر مثبّط لكلّ العمليات التفاعلية، كفقدان الشهية، التخاذل عن القيام بأبسط التحركات الجسدية، وفقدان القدرة علي إتمام أي شيء قد تزيد مدة عمله عن بضع ثوان، بالطبع باستثناء الانتحار.. فقد يبدوا أحيانًا للمكتئب كأمتع الأعمال على الإطلاق، وأكثرها وجوبًا.. وإضافةً إلى ذلك، دعنا نقول أنه نظريًا، تزداد نسبة المصابين بالاكتئاب في العالم كلّ عام بنسبة 7%، مما يجعله ممكنًا لجنسنا البشري أن يختفي من الوجود فقط بسبب موجة من الاكتئاب.. ولكن إن كان كذلك، لماذا يظهر من باطن هذا المرض المظلم العديد من الإبداعات التي يسجلها التاريخ يوميًا؟

خطاب الكاتبة الانجليزية فرجينيا وولف قبل انتحارها.

خطاب فيرجينيا وولف لزوجها قبل إنتحارها:

إعلان

” إنني على يقين أنني أعود لجنوني من جديد. أشعر أننا لا يمكننا تخطي تلك الفترات المريعة مرة أخرى. وأنا لن أشفى هذه المرة. أبدأ بسماع أصوات، لا يمكنني التركيز. ولكني سأفعل ما يبدو أفضل ما يُفعل. أعطيتني أكبر قدر ممكن من السعادة. وقد كنت أنت بكلّ الطرق كلّ ما يمكن أن يكونه أي شخص.
لا أعتقد أن شخصين كان من الممكن أن يكونا أكثر سعادة حتى جاء هذا المرض الرهيب. لا أستطيع أن أقاوم أكثر. أعلم أنني أفسد حياتك، وأنك دون وجودي يمكنك أن تعمل. وسوف تعرف. ترى أنني لا أستطيع حتى كتابة هذه بشكل صحيح.. لا أستطيع القراءة.. ما أريد قوله هو أنني مدينة لك كلّ السعادة في حياتي. وقد كنت معي صبورًا تمامًا وجيّدًا وبشكل لا يصدق. أودّ أن أقول ذلك — والجميع يعرفه. إذا كان من الممكن أن ينقذني أحد فسيكون أنت. كل شيء ذهب مني إلا اليقين بالخير الذي فيك. لا أستطيع أن أزيد إفساد حياتك بعد الآن. لا أعتقد أن شخصين من الممكن أن يكونا أكثر سعادة مما كنا نحن.”

أولًا، كيف تعمل عقولنا؟ وما الفارق بين العقل العادي والمبدع؟

طبيعة العقل البشري تعتمد على التحقيق والتنقيب في كلّ الأحداث التي تدور حوله، باحثًا عما قد يغذّيه بين كل هذه الفوضى، وعقول المبدعين تكون نشطة نوعًا ما، مما يجعلها تبحث عن الغذاء حتى في الآلام النفسية والجسدية، واعتبارها تجارب قصيرة المدى يجب التغذّي عليها لاكتساب خبرة أكبر..

ليس هذا فقط ما قد يشكل فارقًا، فحتى لا تصاب بالجنون، يتبع عقلك سياسة تجاهل بعض المدخلات، ترتيبها تبعًا لأولويتها، وكلما زادت أمامك الاختيارات والمدخلات، قلّص عقلك المدى المرئي منها.. على الجانب الآخر، فالمبدع لا يهمل شيئًا، فكما قلنا سابقًا، هو يرى حتى في الآلام والأحزان خبرات يجب عليه اكتسابها، فهو لا يهمل أي مُدخل، يتفحصها ويعيد تفحصها مئات المرات..

وللإيضاح أكثر، شابّان مرّا بيومٍ عصيب في المدرسة، الأول بمجرد وصوله المنزل انصرف عما حدث طيلة النهار لإقبال أحداث جديدة تحتاج انتباهه أكثر.. أما الثاني فقد أقضى يومه في التمحيص في الأحداث، وإعادة تدويرها في عقله من زوايا مختلفة، حتى أنه عدّل في الأحداث ليرى كم احتمالًا كان قد يحدث حينها، ويشبع في كل لحظة من تلك التأملات غذاء عقله..

وكما قالت الدكتورة سوزان نولان، عالمة علم النفس بجامعة يالي، أنّ هذا التركيز الزائد الذي يعانيه الشخص الثاني في مثالنا السابق قد يكون نابعًا من اكتئاب عميق، أو نوع من أنواع فقدان الأمل..

بالطبع ستفكر الآن أنه من العادي أن يفكر المرء في الأحداث بعد حدوثها، لكن الفارق هنا بين العقل الطبيعي والمصاب بالاكتئاب، أن الطبيعي يأخذ دورته مع المواقف الصعبة بفترة مرورها أو بعدها بقليل، وبانتهائها ينتهي الأمر.. أما المكتئب، فقد يستمر في إعادة هذا اليوم العصيب الذي مرّ عليه في المدرسة حتى حفلة تخرجه من الجامعة.. فلا ينفكّ عقله من خلق استنتاجات وأحداث كانت من المفترض أن تحدث، كما يريه عقله تلك التأثيرات التي أثرها هذا اليوم في شخصيته، سيظل يفكر، ويغذي عقله بكبّ هذه الأفكار، حتى ينفجر..
وفي الحقيقة، هو لم يُصَب بالاكتئاب سلفًا، لذلك أمعن التفكير، هو يتميز بعقله المبدع، القادر على التحليل الدقيق لكل شيء، مما وضعه بعد عدة مواقف عصيبة، طريدة سهلة للاكتئاب.

وهنا نصل إلى أهم نقطة في المقال، وهي أنّ

ليس الاكتئاب هو منبع الإبداع، لكن، المبدعون هم الأكثر عرضة للاكتئاب.

ثانياً، هل يعد الاكتئاب طريقاً للتطور البشري؟

في علم النفس، يُعد الاكتئاب هو أحد الوسائل الذي يتبعها العقل لأنه ببساطة يتعطش للمزيد، محاولة منه ليكون أقوى، أفضل في كل شيء، أن يتعلم ويتأثر بما مضى، فتأمله المستمر فيما حوله يخلق له صورة حية عن الكون المثالي الذي يفترض به أن يكونه.
ولكن، الشخص العادي قد يعاني من الاكتئاب مما يدمره صحيًا ونفسيًا، وينهار معه كل شيء، فيكون اكتئابه بمثابة ثقبٍ يتسع في جوفه، أما المبدعون، فيكون الاكتئاب هو دافعهم الأول للمثابرة، والسعي نحو المثالية، فيكون صنيعهم دائم الإتقان، مُبهر، لأنه وبشكل ما، خُلق من قبل في عالم مثالي يدور في عقله.

كل الشخصيات التي قد تقرأ عنها كل يوم، مرت بتجارب لا تُمحى من ذاكرتهم، بما فيها كتابٌ ما، موقف صادفهم في الطريق، صوتُ العصافير على أحد الأشجار، عندما يوفرون لأنفسهم وقتًا للتأمل، يفرغون كل هذه التفاصيل التي قد تبدو عديمة الفائدة، يعدلونها ويعيدون صياغتها، حتى صنعوا من رحمها كونًا مثاليًا، يظهر لنا في هيئة عمل لن ينساه التاريخ، ويظهر لهم كشيء ناقصٍ عما كان مخيلٌ له في عقولهم..

وختامًا، إذا شعرت يومًا بأنك تعاني الاكتئاب، ابحث عن معالج، عن صديق، عن شيء يبدو لك منفذًا منه، فحتى المبدعون الذين ذكرناهم، كان منفذهم من الاكتئاب هو العمل، والتأمل، والعمل مرة أخرى بإتقان أكثر، ربما يكون منفذك مثلهم، وربما يكون علاجك هو صديق يخفّف عنك وحشة إحباطك، أو طبيب يكون بمثابة صديق قصير المدى يغير حالك للأفضل.

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2
اترك تعليقا