مسلسل الرحلة و دلالات اللون الأصفر ..

هل فكرتَ مرةً أن تنفّذ وعدك لمن تحبّ حرفيًّا؟ قال أسامة لحبيبته وعروسه أنّه سوف يحبسها بعيدًا عن عيون الناس .. (هتزهقي مني؟) فأجابت بحسن نيّة: (هو في حد ممكن يزهق من روحه يا حبيبي). لكن لم يخطر ببالها أنّه سوف يذهب في وعده هذا بعيدًا جدًا .

ستّ سنوات وأسامة “باسل الخياط” يسجن زوجته فى بيتٍ حجريٍّ على أطراف بيروت .. لا خروج .. لا مهرب ولا من يسمع أو يرى .
باسل الخياط الذي يبدو أكثر فأكثر مهووسًا بتفرّد أداءاته المسرحيّة للشخصيّات الكارزمية المعقّدة يجيد بشكلٍ تامّ خلق روح الشخصية و من ثمّ تلبّسها تمامًا بكلّ ما يمكن أن تكون عليه.

أستاذ جامعيّ غريب الأطوار مولع بالسموم ومصاب بمجموعة صعبة من أعقد الأمراض النفسية من جنون الارتياب لجنون العظمة لاضطراب الأقطاب يطرح تساؤلًا عابرًا حول ماهيّة الخطّ الفاصل بين الذكاء الشرّير والمرض النفسي أو هل يمكن العتاب على أسامة أصلًا؟ هل يجوز محاسبة المريض النفسي على الألم الذي ألحقه بضحاياه وأوّلهم زوجته المكلومة التي أدّت دورها ببراعة متناهية الجميلة ريهام عبد الغفور.

لكن ذلك ليس هو السؤال الوحيد الذي يطرحه مسلسل الرحلة، فمن بين يد القدر الذي جمع خطوط حكايا كل هؤلاء الأبطال في شبكةٍ واحدة ممتدّة إلى السؤال عن دور الفرد في تقرير مصيره بنفسه، أو لماذا نضيع من نحب بأيدينا، لو كان أسامة ترك لرانيا حريّتها ولم يسجنها على الجبل لاستمرّت في حبّه وما فكّرت يومًا في الهروب منه، أو لربّما خانته كما فعلت أمّه مع أبيه .

لا تتجلّى قيمة مسلسل الرحلة في طرحه لعدّة أسئلة فحسب لكنّك تشعر بأنّ الحكي أخيرًا قد استعاد معناه المفقود في الدراما المصرية، هناك لأوّل مرّة من سنوات حكاية وحبكة وشخصيات مكتملة النضج وتصاعد للأحداث وترابط للقصّة وتسلسل منطقيّ واحترام لعقليّة المشاهد، ولأنّ المخرج حسام علي يعي تمامًا دور اللون في الحكاية، فإنّنا نجد طغيانًا مبالغًا فيه للون الأصفر وتنويعاته، الأصفر الذي يبعث في العادة على الدفء و يحثّ الذهن على الانتباه وينشّط الفكر الفلسفي ويصعّد مشاهد التشويق وانقباض القلب كان مناسبًا تمامًا للتعبير عن الروح الحقيقية للتداعي الروحي و النفسي لعالم اليوم وخيبات أبطاله المتلاحقة.

إعلان

فيما لا يبدو المعنى في الحكي الدرامي للرحلة خاليًا من المسحة العدمية الملازمة لأبطاله، فمن الزوج المخبول للزوجة المكلومة لقصص الحبّ المبتورة للمرض العبثي الذي يطلّ فجأةً على كيمي “حنان مطاوع” و بينما تقول لها صديقتها : (السجاير دي مش غلط عليكي) .. فتردّ عليها بنبرةٍ باردة : (هيحصلي ايه يعنى هيجيلى كانسر؟)

وعودًا إلى الأسئلة التى لايملّ مسلسل الرحلة من طرحها لايفوتني التذكير بالمشهد المرعب لباسل الخياط وزوجته و هو يحتفل معها سنويًا بعيد زواجهما على العشاء في بيته أو سجنها ويقول لها : (مستعدة؟ يلا بينا .. النهاردة أحلى يوم في عمري مش هتقوليلي وأنا كمان) .. فتردّ ودموعها تغمر عينيها .. (وأنا كمان) .. (مبسوطة معايا؟) فتردّ باحتقار : (مش قادرة أقولك) .. وإذ لا يُعجَب بأدائها لمنطوق الجمل فيأمرها بإعادة تمثيل المشهد ..

هل يخطر ببالك أنّ حياتنا كلّها عبارة عن مسرحية أبطالها مجموعة من المرضى النفسيين الذين أحالوها إلى عذابٍ مطبق وإذ هم يحتفلون سنويًا بانتصارهم الساحق على ذواتنا المقهورة مردّدين علينا جملة مبسوطة معايا..

فلا يجدوا إلا أداء ريهام عبد الغفور العبقري وهي تنطق بمرارة : مش قادرة أقولك .

إعلان

اترك تعليقا