أسرار في باطن الشمس

حتى مئة سنة مضت، لم يكن لدينا تفسيرًا علميًا دقيقًا عن الكيفية التي تنتج بها الشمس تلك الكمية الهائلة من الطاقة التي تغمر الفضاء من حولها، نعم كانت هناك أفكار والعديد منها كان بغاية الذكاء، إلا أن كشف سر التوهج الهائل للنجم الأصفر كان هو الجائزة الكبرى التي حصل عيها علماء الفيزياء والفلك في نهاية القرن العشرين.
في البداية اعتقد بعض العلماء أنّ الشمس ولدت من سحابة ضخمة من الغاز انهارت بتأثير الجاذبية ونتيجة الاحتكاك والاصطدامات بين جزيئات الغاز تولّدت حرارة هائلة.

في حين اعتقد البعض الآخر أنّ الشمس تشعّ الحرارة لأنّها ببساطة لم يُتَح لها فرصة لتبرد مُذ خلقت. لكن كلّ هذه الأفكار لم  تكفِ لمنح الشمس عمرًا يتجاوز العشرين مليون سنة.

من قلب المادة إلى باطن الشمس.

مع بداية القرن العشرين شهدت فرنسا الكشف عن ظاهرة النشاط الإشعاعي  لعنصر اليورانيوم علي يد هنري بيكريل ثم جاءت أبحاث  بيير وماري كوري على عنصر الراديوم لتؤكّد الظاهرة وفي نهاية الأمر تقاسم الثلاثة  جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 تقديرًا لدورهم الريادي.

من بعدها تواصلت جهود العلماء للكشف عن أسرار الذرّة، وتفسير الطاقة المنبعثة من داخل أنوية العناصر المشعّة، وهنا كانت المفارقة.

فالتوصل إلى مايجري في باطن الذرة وهي وحدة البناء الصغرى للمادة، أدّى إلى الكشف عن أسرار ما يجري في باطن أكبر أجرام المجموعة الشمسية ونجمها الوحيد الشمس.

إعلان

محاولة أولى فاشلة.

مع بداية عام 1921 ومع استخدام تقنيات التحليل الإشعاعي لعناصر القشرة الأرضية  أقرّ علماء الجيولوجيا والنبات والحيوان والفيزياء أن عمر الأرض ربما يصل إلى عدة مليارات من السنين، كما أن استخدام نفس التقنية في فحص النيازك التي سقطت على الأرض من الفضاء حددت عمر أقدمها بحوالي أربعة ونصف مليار سنة، وهنا وجب على نظريات نشوء وتطور الشمس أن تمد في عمرها ليتجاوز تلك الفترات الزمنية الهائلة، ووجب البحث عن نظريّة جديدة تصلح لتفسير استمرار الشمس في التوهج لمليارات السنين.

وجاءت أولى المحاولات علي يدّ عالم الفلك البريطاني وليم ويلسون، حين اقترح أن مصدر تلك الطاقة الهائلة الصادرة من الشمس هو تحلّل عنصر الراديوم، إلّا أنّ تلك النظريّة لم تلقَ قبولاً كبيراً في الأوساط العلمية، وجاءت نتائج التحليل الطيفي لضوء الشمس متناقضة مع فرضية ويلسون حين أكّدت عدم وجود عنصريّ الراديوم و اليورانيوم في نجمنا الساطع.

نبوءة رذرفورد وعبقريّة أدينجتون.

في لمحة من لمحات العبقرية، افترض أرنست راذرفورد، العالم الإنجليزي الكبير واضع أساس نظريّة النشاط الإشعاعي، أنّ الحرارة الشديدة في باطن الشمس قد تكفي لتحويل بعض العناصر العادية غير المشعّة إلى أخرى، مع حدوث فَقْدٍ في الكتلة يتحوّل إلى طاقة حسب ما جاءت به معادلة اينشتاين الشهيرة، الطاقة = الكتلةXمربع السرعة، والتي ظهرت ضمن بحث اينشتين الشهير الذي نشر في عام 1905، وعرف بعدها بالنظرية النسبية الخاصة، كان اينشتاين شديد الثقة في أنه سيأتي ذلك اليوم الذي يتمكن فيه أحدٌ ما من تقدير النقص في كتلة مادة مشعة عند انطلاق الطاقة منها.

وهو ماقام به العالم البريطاني الرائد السير “ارثر ادينجتون” رائد علم الفيزياء الفلكية، أوّل من طبّق بنجاح القوانين الأساسية للفيزياء في تفسير ما يحدث داخل النجوم، ففي عام 1926 نشر ادينجتون كتابة “التكوين الداخلي للنجوم” وضمن ما جاء فيه أنّ مصدر طاقة النجوم لابدّ وأن يكون اندماج أنوية عنصر الهيدروجين لتكوين عنصر الهليوم، مستفيدًا من أبحاث عالم إنجليزي آخر هو فرانسيس أستون الذي نال جائزة نوبل عام 1922 نتيجةً لابتكاره تقنية السبكتروجراف والتي استخدمها لإثبات أنّ كتلة ذرة الهليوم لا تساوي كتلة أربع ذرّات هيدروجين بل أقلّ من ذلك  بنسبة0.8%، وكان عدم التساوي هذا، دليلاً استند عليه أدنجتون في فرضيّته. لكن بقيت عقبة لابدّ من تجاوزها لإكمال حل اللغز، كيف تتغلب أنوية الهيدروجين الموجبة الشحنة على قوى التنافر بينها لتقترب من بعضها وتندمج لتكوّن أنوية الهليوم؟

الحلّ القادم من روسيا

الجسيمات الذرية كالبروتون أو الإكترون ليست أجسامًا نقطية كما نتصور بل هي عبارة عن حزم موجية تنتشر وتتمدد في الفراغ، وبالتالي فإنّ وجود البروتونات في مكانٍ ما يخضع لتوزيع احتمالي يحكمه مبدأ عدم التحديد “مبدأ الريبة” لهايزنبرج. هذا قليل من كثير مما جاءت به نظرية الكم، وحين جاء الفيزيائي الشاب القادم من روسيا  “جورج جاموف” لمقابلة عراب نظرية الكوانتم “نيلز بور”، كان في جعبته الكثير ليضيفه إلى ذلك الصرح الفيزيائي الشامخ. كان يحمل في جعبته حلّ لغز طاقة الشمس الهائلة، وذلك اعتمادًا على الطبيعة الموجيّة للبروتونات وتطبيقًا لمبدأ عدم التحديد لـ هايزنبرج، هذا الحل هو المبدأ الذي أعلنه عام 1928والذي تشير إليه كتب الفيزياء باسم  “تأثير النفق”

أنفاق في جدار التنافر 

بناءً على مبدأ عدم التحديد “مبدأ الريبة” افترض جاموف أنه طالما اقتربت البروتونات من بعضها لدرجة كبيرة تسمح بها الحرارة والضغط الهائل في باطن الشمس ، إذن هناك احتمال ولو ضئيل لتتغلب البروتونات على قوّة التنافر أو كما تقول كتب الفيزياء تشقّ البروتونات أنفاقًا تنفذ من خلالها عبر حائط قوي التنافر وتندمج معًا فنحصل على الهليوم والطاقة الهائلة، وعلى الفور استخدم الفيزيائيان روبرت اتكينسون وفريتز هوفرتونز هذه الفرضيّة لإثبات أنّ الطاقة الشمسية تنتج مبدئيًا عن اندماج أنوية الهليوم.

لكن اتكينسون لم ينسَ فضل ادينجتون وأشار في كتابه “100 مليار شمس” أنّ كتاب ادينجتون “التكوين الداخلي للنجوم”،  جعله يدرك لأول مرة حجم المشكلة التي واجهت العلماء فمقدار الحرارة داخل النجوم ومنها الشمس لا تكفي لإحداث الاندماج، ومن هنا انتظر العالم ذلك الروسي ضخم الجثة العبقري “جورج جاموف”  ليقدّم الحلّ عبر اكتشافه لمبدأ “تاثير النفق”

إذن.. ماذا يحدث في باطن الشمس ؟ 

والآن إليكم تفاصيل تلك العملية المثيرة، والتي استغرق العلم أكثر من مائة عام لكشف أسرارها.

أولاً على نواة هيدروجين (بروتون) في الأجزاء الخارجية لنجمنا الأصفر أن تنتظر حوالي 5 مليارات سنة قبل أن تغرق في باطنه، وحينها تندمج مع نواة هيدروجين أخرى لتكوين نواة الديوتريوم (أحد نظائر الهيدروجين والذي تحتوي نواته على بروتون ونيوترون) . وهذه أخبار جيدة لنا، فلو كانت عملية تكوين الديوتريوم تحدث بسرعة أكبر لنفد وقود الشمس منذ فترة طويلة ولما كنا موجودين هنا.

الخطوة الثانية والتي ينتج فيها الهليوم_3 من الديوتريوم تحدث بعد حوالي 1.4 ثانية، والخطوة الأخيرة إنتاج الهليوم تأخذ 240 الف سنة والطاقة الناتجة خلال الاندماج تتحول إلى فوتونات أي إلى ضوء.

وعندما تنتهي الإثارة الأولى وتنتج فوتونات الضوء،  لا تأخذ طريقها فورًا إلى الأرض بل عليها التحلّي ببعض الصبر .
فما إن تبدأ في الانطلاق من داخل باطن الشمس بسرعة الضوء، حتي تجد نفسها وقد اصطدمت بالالكترونات المحيطة بها، فتكون النتيجة تشتت تلك الفوتونات في اتجاهات عشوائية داخل الشمس، مما يعوقها عن الخروج من سجنها السرمدي .

فالفوتون الذي يمكنه قطع المسافة بين قلب الشمس وسطحها ( 695 الف كم ) في ثلاث ثوان يجد نفسه مضطرًا لقضاء 20 ألف سنة حتى يصل إلى سطح الشمس، أي إنه يقطع تلك المسافة بسرعة أربعة أمتار في الساعة، وحال وصول الفوتون إلى سطح الشمس فإنه يستعيد سرعته ثانية ويقطع المسافة نحو الأرض ( 149 مليون كم) في ثمان دقائق فقط أي بسرعة الضوء المعروفة (300 مليون متر في الثانية) ويصل أخيرًا إلى وجهته النهائية، وهذه هي الفوتونات المحظوظة. فالحقيقة تقول أنّ هناك فوتونات تكونت في باطن الشمس منذ 5 مليارات سنة وما زالت حبيسة كما ولو كانت في متاهة. لكن نواتج الاندماج النووي في باطن الشمس ليست فقط فوتونات الضوء المرئي، بل كميات هائلة من الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، بالإضافة إلى أغرب الجسيمات دون الذرية، ذلك الذي يطلق عليه العلماء، الجسيم الشبح ، او النيوترينو.

الجسيم الشبح

لعلّ أغرب نواتج عملية الاندماج النووي في الشمس هو جسيم  النيوترينو الذي تنبأ به العالم الشهير فولفجانج باولي أحد روّاد نظرية الكوانتم  عام 1930  ونال بذلك جائزة نوبل في الفيزياء 1945.

جسيم النيوترينو الذي حيّر العلماء، ولا يزالون مختلفين حتى اليوم، حول تحديد كتلته، فهو  بالكاد يتفاعل مع المادة ، ويمكنه الهرب من قلب الشمس في لحظة ، وللتعرف على مقدار ما تنتجه الشمس من جسيم النيوترينو، يكفي أن تعلم أنّ  100 بليون نيوترينو شمسي تمر خلال أطراف أصابعك في الثانية الواحدة.
معظم النيوترينوات تخترق الأرض دون أن تتأثر بذلك، في الواقع يمكن للنيوتروينو أن يخترق حاجزًا من الرصاص بسمك سنة ضوئية دون أن يوقفه شي. ويبقى السؤال المحير، إلى متى ستستمرّ الشمس في السطوع. وهل سيأتي يوم تحرمنا فيه من أشعتها الذهبية، هل ستموت الشمس، وكيف، هل تموت النجوم؟

كيف ستموت الشمس 

النجوم كالبشر يولدون ويموتون، والنجوم تتشابه في كيفية ظهورها للوجود، حيث تولد جميعها من رحم تلك السدم “السحب” الغازية المنتشرة في جنبات الكون الشاسع.

فتكون البداية عندما يتكاثف جزء من السديم أو السحابة الغازية، بفعل الجاذبية الذاتية ويتخذ ذلك الجزء شكلاً كرويًا، وتستمر تلك الكرة الهائلة من الغاز والغبار في الانكماش المصحوب بارتفاع  هائل في درجة حرارة تلك الغازات ( الهيدروجين والهيليوم) وهما أخفّ العناصر الموجودة في الكون، وقد يكون هناك قليل من عناصر أخرى أثقل (غبار).

ويستمرّ ارتفاع درجة حرارة الغاز نتيجة الانضغاط الهائل، فتتحوّل ذرّات الهيدروجين والهليوم إلى أيونات وإلكترونات حرّة في درجات حرارة عالية؛ حتّى تصل مكونات السديم إلى حالة متطرفة من حالات المادة تسمي البلازما (البلازما عبارة عن غاز لكنّه خلافًا للغازات العادية لا يتكون من ذرات عادية بل من أنوية ذرّيّة فقط بلا إلكترونات وفي درجات حرارة عالية جدًا).

وتظلّ كرة البلازما تنكمش تحت فعل جاذبيتها ويتزايد ارتفاع درجة حرارتها حتى تكون كافية لبدء تفاعل أنوية الهيدروجين لتكوين عنصر الهيليوم. وتنطلق كميات هائلة من الطاقة الحرارية، حينها نقول إنّ نجمًا قد ولد، تحدث تلك الولادة عندما تصل درجة حرارة قلب النجم إلى حوالي 12 مليون درجة مئوية – حيث يبدأ تفاعل الاندماج النووي.

وبالنسبة لشمسنا فقد ولدت منذ 5 مليار سنة تقريبًا واستنفدت حتى الآن نصف مخزونها من الهيدروجين تقريبًا، ويتوقّع أن يكفيها مخزونها من الهيدروجين لتعمل مدّة 5 مليار سنة أخرى. وعندها تنتهي الحفلة، سوف تلفظ أنفاسها الأخيرة في مشهدٍ رهيب يليق بها.

سوف تنتفخ الشمس لتصبح عملاقًا أحمرًا، ممّا سيسبّب زيادة الإشعاع الشمسيّ الواصل للأرض ممّا سيطيح بالغلاف الجوي وتتبخّر مياه البحار فتنتهي الحياة على الأرض تمامًا، وربّما تفنى البشرية قبل تلك الكارثة

تدقيق راغب بكريش

 

إعلان

مصدر مصدر 1
اترك تعليقا