أطفال بول أوستر – قصة قصيرة

 عزيزي الكاتب الأمريكي/ بول أوستر.. بعد التحيّة، أرجو في البداية أن تعذرني لو وجدت رسالتي خاليةً من التنميق والزخارف الأدبيّة، أجهل كيف تُكتب تلك الأشياء في لغتي فضلًا عن جهلي بها في لغتك. أصًلا لم أكتب أو أتلقّى رسائل من قبل.. أنت تعرف.. هذا عصر الإنترنت والهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي، وليس عصر الأقلام والورق والأظرف والطوابع. لكن تلك قصة أخرى.

كنت مترددًا في الكتابة لك، لستُ واحدًا من معجبيك ولا كاتبًا يريد نصيحةً أدبيّةً وأعتقد أن هذه هي حالات معظم الرسائل التي تأتيك، لكني غالبت تردُّدي وحسمت أمري على الكتابة لك، وأظن أنك الوحيد الذي بإمكانه أن يفهم معاناتي.

وإليك قصتي باختصار..

أنا رجلٌ في الثلاثين من عمره، مُطلِّق، وعاطل عن العمل منذ ثلاثة أشهرٍ تقريبًا وليس لديه أبناء؛ لأنه لا ينجب… ويعيش في مصحّةٍ نفسيّة.

تخرّجت في كلية التجارة منذ أعوامٍ لا أذكر عددها، وفور التخرُّج استطعتُ بمساعدة واحدٍ من معارف أبي الحصول على وظيفةٍ جيّدةٍ في إدارة أحد المصانع في مدينتي.

إعلان

تزوّجت منذ عامين، فتاة جميلة عَرضتَها عليّ واحدةٌ من قريباتي، وقلت لنفسي إنّها الطريق ذاتها التي سار فيها الأوّلون، أبي ومن قبله أجدادي وهي الطريق ذاتها التي يمشيها كلُّ الناس من يوم آدم. فكّرت في أنه يجب عليّ الزواج فعلًا وأن أنجب بنتًا وأراها تكبر وأريها كم يبدو العالم جميلًا وأصواته وألوانه بديعة وأن البحر.. البحر لا يوجد ما هو أجمل منه!

منذ يوم زواجي وأنا أُفكِّر في أنه في غضون شهور سأكون أبًا يحمل رضيعه بين يديه ويناديه بأسماء التدليل والحب.

مرّت الشهور الستة الأولى بلا أيّ خبر، جنّني الانتظار وشعرت أن الأمور لا تسير بشكلٍ صحيحٍ وأن هناك مشكلة.

عرفت بعد تحاليل وفحوصات ومعامل وعينات والذهاب والمجيء من عند مرتدي البالطو الأبيض أنني لا أنجب وأن رجولتي غير مكتملة.

في كارثةٍ بلا أملٍ كتلك، لا يبقى هناك متّسعٌ للأخذ والرد والدعم، من له شيءٌ سيأخذه ويرحل ومن يرتبط معك برابطةٍ أكبر من الزواج المشروط بالإنجاب سيبقى ويحاول دعمك، وبين كلمةٍ والثانية تخرج من فمه تعرف كم أن مصابك كبيرٌ وأن العالم غير عادل.

طلبت زوجتي الطلاق ونفّذته لها بلا أيّ تردُّد. حاول والداي التخفيف عني بكلامٍ لا ينفع ولا يضر.

عدت لبيت أسرتي بلا روح، وعشت عامًا بعد الطلاق وأنا بين ألف فكرةٍ وفكرة، وإيمان بالله وقدرته يزداد يومًا وينقص شهورًا. بين كل هذا كنت ما أزال محتفظًا بعملي. كان العمل الطريقة الوحيدة الممكن لها شَغلي عن نفسي وعن وساوسي، غصت بين الملفّات والحسابات وكشوفات الإنتاج والتخزين.

حتى جاء اليوم المشهود..

كنت قد وصلت لمكتبي من نصف ساعةٍ فقط، وأعدُّ نفسي ليوم عملٍ طويلٍ بالقهوة التي أدمنتها حديثًا. ومع انتهائي من قهوتي سمعت ضوضاء قادمة من صالة المصنع، خرجت لأرى ما يحدث، لأجد العمال مُتجمِّعين عند دورة المياه النسائيّة، الشباب والشابات والكبار ومن هنا وهناك… كلما تقدمت لأفهم ماذا يجري أسمع جملةً تهزُّني.. ولدته ميِّت؟ لا دي خنقته.. شغالة هنا؟ بيقولوا… بنت الوسخة..

تابعت التقدُّم وأنا أزعق في العمال وآمرهم أن يُفسحوا لي حتى وصلتُ لها، مرميّةً على أرضية الحمّام يسندها بضع عاملات وعاملة أخرى تمسك رضيعًا عاريًا ميِّتًا.

قالت العاملة الممسكة بالرضيع: ولدته هنا وكتمت نفسه لحد ما مات.

كنت مذهولًا، لا أفهم ما يجري من حولي وأشعر أن كوابيسي وصلت للواقع بخدعةٍ ما. خطفت الطفل من يد العاملة وظللت أحاول إنعاشه بحركاتٍ متوتِّرةٍ خائفة. أنفخ في فمه وأضغط على صدره ليفعل أيّ شيء.

قالت عاملةٌ ببلاهةٍ وبلا مبالاة:

– العيل مات يا أستاذ خالد، بنت الوسخة دي قتلته بإيدها.

وكانت تشير لأم الطفل الممددة تحت أقدامنا..

دقائق وجاءت الشرطة، كان الطفل لا يزال بين ذراعيّ عاريًا وباردًا. قدّموا بعض الأسئلة لنا ثم أخذوا القاتلة وجثّة وليدها وذهبوا. بانصراف الشرطة عاد العمل في المصنع من جديدٍ كأن شيئًا لم يكن. ماكينات الخياطة رجعت تغرز إبرها بنفس الطريقة والعمال يتبادلون الضحك بين قطعة ملابس وأخرى. كنت أقف وأرى كل هذا يحدث ولا أصدقه وعندما صدقته لم أفهمه. كنت أرى وأفهم شيئًا واحدًا: في هذا الصباح مات مولودٌ بعدما تنفّس هواء الأرض للحظاتٍ فقط، خنقته أمه بيدها.

ألا يذكرك ذلك بشيء؟

أعتقد أنك بدأت تعرف لماذا أحكي لك أنت بالذات هذه القصة. مستر “أوستر”:

أنا واحدٌ ممّن شهدوا “نهاية الإنسانية”، كما تسميها أنت.

*****

بعد اليوم المشهود لم أعد أنا نفسي قطّ.. ظهرت لي كل الأشياء قاسية بطريقة غريبة. الحياة نفسها أصبحت سؤالي الصعب، لم يكن معناها هو المشكلة، كنت أسأل نفسي ما هي الحياة أصلًا؟

في الكتب المدرسيّة كنت معتادًا على وجود تعريفاتٍ لكل المصطلحات وكانت توجد قوانين لكل شيءٍ وإجابةٌ على كل سؤال، وبعد الدراسة، كنت أعرف دوري جيدًا وأحفظه، عمل وزواج وأبناء وحياة تتابع، يومٌ في ذيل يومٍ وسنةٌ تتبعها أختها ونكبر ونتعب وننتهي كما ينتهي الجميع والذكرى تبقى ليترحّم علينا من لم ينته دوره في المسرحيّة بعد. هذا كل ما تعلمته يا سيدي ويبدو لي كما يبدو لك تمامًا. أنه لا ينفع، فالحياة أكثر تعقيدًا.

لنعد لحكايتي، كنت أقول لك أنني لم أعد ما كنت عليه. بات التركيز في عملي مهمّةً شاقّة. بين ورقة وأخرى أرى وجه الرضيع الميت وفي جولاتي في المصنع كنت أشم رائحته قادمةً من ناحية دورة المياه حيث عاش ومات.

وقتها بدأت أدخن وبسرعةٍ وصلت لمهرب كل المتعبين من قسوة حياتهم: النيكوتين والكحول.. في ظرف شهرين كنت شخصًا آخر.

بدأت في التغيُّب عن العمل، بأعذارٍ في البداية ثم بلا أيّ أعذارٍ فيما بعد. أنزل من البيت في الصباح وأدور بالسيارة على أكشاك الجرائد، أشتري جرائد الحوادث فقط وأُقلِّبها حتى أجد خبرًا عن امرأةٍ أو رجلٍ قتل طفلًا، وعندما أجده تأخذني نوبة غضبٍ وأصرخ بقوّةٍ بينما الجريدة تتحوّل إلى قطعٍ صغيرةٍ في يدي.

على مدار ستة أشهرٍ أخرى كنت أشتري جرائد الحوادث كل صباح، وبنفس الأمل في ألا يكون هناك أطفالٌ ورُضّعٌ مقتولون لأيّ سبب.

في المصنع تابعتْ علاقاتي بزملائي ورؤسائي تدهورها، ذات يومٍ حدثت مشكلةٌ في أحد خطوط المتابعة والفرز وتوقّف الإنتاج في واحدٍ من الخطوط الأربعة.

يومها نلت إهاناتٍ من مديري المباشر إذ بدأ بتوبيخي أمام كل العمال ثم تجرّأ على ذكر الحادثة بسخريةٍ أمامي.

قال: “وحالك يتغير ليه عشان عيل مات؟ هو انت أبوه؟”

قالها بصوتٍ عالٍ، قالها بسخرية، قالها فظًّا، قالها فرشقت الكلمات سكاكين في صدري وعيني.

لم أر سوى ابتسامات ساخرة منه وممّن حوله، وبعدها لم أستطع أن أفهم شيئًا قبل أن أنهال عليه بالضرب والشتائم.

اقتادوني لغرفةٍ معزولةٍ وأقاموا تحقيقًا والتحقيق أوقفني عن العمل، كانت الواسطة التي أدخلتني الوظيفة قد غادرت المصنع من سنين وكنت وحدي وسط الريح التي تصاعدت حدّتها لأن الرجل أراد فصلي نهائيًّا عن العمل وهو ما ناله فعلًا.

سيد “أوستر” ماذا كان يفعل الرجال غير الراغبين في الإنجاب قبل اختراع الواقيات الذكريّة وموانع الحمل؟

ربما لهذا علاقة ببطاقات الهويّة، بالسجلات وشهادات الميلاد والوفاة. قديمًا لم توجد سجلات وعقود زواج أو بطاقات هويّة، كل هذا جديد. أيمكن أن توجد علاقة بين التقدم وخنق الرُّضّع بأيدي أمهاتهم؟

يجب علينا تمزيق السجلات والبطاقات وشهادات الميلاد والوفاة، وقتها لن نسمع عن رُضّعٍ مقتولين.

بعد فصلي من العمل حاول والداي الاستمرار في التخفيف عني، قالوا: “أزمة وتعدي وبكرة ربنا يفرجها”. وقتها وصلت لمرحلةٍ متقدمةٍ من إدمان الكحول، وبسبب ذلك تشاجر أبي معي وهدّدني بالطرد.

في نفس الليلة تركت البيت وعدت لبيت الزوجيّة المهجور، بأموالٍ لا تكفي وحالةٍ نفسيّةٍ وصلت للقاع. فكرت كثيرًا في الانتحار وكلما هممت بتقطيع عروق يدي كنت أشعر بحاجتي إلى البقاء، كانت روحي لا تزال عالقةً في حب الحياة وتُعجزني عن الموت.

ما زلت أتذكّر كابوس تلك الأيام، كنت أرى طليقتي تنام على السرير ببطنٍ منتفخٍ وتفتح ما بين فخذيها وتشير لي لأولِّدها. أمد يدي لأخرج الطفل فإذا به ميِّتٌ وبطنها لا يزال منتفخًا وتطلب مني توليدها وسحب طفلٍ آخر يخرج هو الآخر ميِّتًا، تتابع العملية حتى يكتظ السرير بأجساد مواليد موتى أعجز عن الحركة وسطهم والتخفيف عمّن تصرخ متألمةً فأصرخ أنا الآخر ألمًا وحيرةً وأصحو لأجد نفسي سابحًا في بركةٍ من العرق.

بعد ثلاثة أيامٍ دخلت في غيبوبةٍ على سريري وحولي الكثير من زجاجات الويسكي وعلى الأرض مزيج قيء ودماء من الجروح التي فتحتها في جسدي في مواضع غير قاتلة.

تقول أمي أنني كنت على شفا موتٍ أكيدٍ لو لم تأتِ مع زوج أختي وتكسر الباب، أخذوني من مشفى لمشفى حيث انتهيت بعد أسابيع لدخول مصحّةٍ نفسيّة، هي نفسها التي أكتب لك منها الآن.

الآن أنت تعرف القصة كلها ويبقى أن أحكي لك كيف تعرّفت عليك.

في المصحّة مكتبةٌ بها عددٌ معقولٌ من الكتب والروايات، قسم الكتب المترجمة ليس فيه الكثير، روايتك “ليلة التنبؤ” كانت من بينهم، أحدهم تركها لي حتى أجدها وأقرأها وأكتب لك هذا الخطاب الطويل. الحياة مليئة بالمصادفات العجيبة يا سيد “أوستر”.

الآن لديّ سؤال، بطل “ليلة التنبؤ”، السيد “سدني” الذي كان يحاول العودة للكتابة، كان قد قرأ في جلسةٍ صباحيّةٍ على المقهى تفاصيل موت رضيعٍ في كابينة حمّامٍ بسبب أمه العاهرة ومدمنة المخدرات، وقال إن تلك هي “نهاية الإنسانية”، وهو تعبيرٌ بليغٌ جدًّا أشكرك عليه، كيف استطاع هذا الرجل البقاء والاستمرار وصولًا لنهاية الرواية؟

عليّ أن أعترف لك، لو أنني كنت بطلك لم تكن لتحصل إلا على مرض نفسي أو انتحار قبل وصول الرواية لنهايتها. وفي حالةٍ أخرى ستحصل على بطلٍ محتجزٍ في مصحةٍ نفسيّةٍ لا يريد الخروج منها أو آخرَ اخترعه مستر “سدني” وتركه محتجزًا في غرفةٍ تحت الأرض للأبد.

عزيزي بول أوستر. أنا في غاية التعب وأريد أن أنام… بلا كوابيس فيها أطفال ميِّتة. هل هذا ممكن؟ اسأل لي السيد “سدني”.. رجاءً.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ياسر غريب

تدقيق لغوي: عبد الله أسامة

اترك تعليقا