أوامر الاستخلاف والعبادة وسيلة لا غاية

نسير شبابًا على أرض الأديان السمحة بقلوب أدماها الألم، وأقلقها داء الحيرة، وصارت أبداننا كأشباح تسير بلا أرواح، تبحث في كلّ فجّ عمّن يربت على قلبها، ويدغدع مشاعرها، ويملأ تلك الهوّة العميقة التي خلّفتها آثار الحرب الدامية بين الجسد والروح، بين العقل والنقل، وبين المجتهد والجامد؛ فنتج عن هذا الفراغ في الروح والحاجة إلى الحبّ اتباع الهوى في بعض الأحيان، فلجأنا إلى المنادين باسم الحب، وظننا أنّ في الحب وحده النجاة، وتمسّكنا به ضاربين بأوامر العبادة والاستخلاف عرض الحائط، فالمهمّ أنّ القلب يحبّ الله، وتحت عباءة الحبّ افعل ما شئت، ثم اذهب إلى المحراب بشمعة فيُغفر ذنبك. واحتججنا بجانب الرجاء وتمسّكنا به، فاستشهدنا بأنّ الله غفور رحيم، وتناسينا عن عمد بأنه جبار منتقم، واستشهدنا بأنه واسع الرحمة والجود والكرم، وتناسينا عن عمد بأنه سريع العقاب شديد الغضب.
وفي الجانب الآخر، هناك من قلّ شأن الدين في نفوسهم؛ بسبب قراءاتهم في المجادلات بين أصحاب العقل وأصحاب النقل، وبين أصحاب الفلسفات الفكرية والدينية، فحمّلنا بُغضنا لطريقة التفكير العقيمة وسياسة الاجتهاد المشينة، بُغضَ الدين نفسه من حيث لا نعي، فأهلكنا أنفسنا من حيث يجب أن ننجيها.
فأمسكت ريشتي، وسكبت حبري على شريان قلبي، فكتب ما أملاه القلب عليه، وإنه لكلام ذو شجون، كلام عن الروح والمادة، كلام تنبهّه العقول والقلوب إلى أساس أوامرنا فلا نغفل عنها، فإن تفرّقت بنا السّبل وكان البَون واسعًا بين الفِرَق والمذاهب وبين الفلسفات والعقائد، فعلينا أن نعود إلى أول الطريق حيارى، فنسير خطوة خطوة حتى نكمل المسير دون أن نضلّ السبيل.

الروح والجسد

أولًا: قد خلقنا الله من جزأين رئيسين؛ أولهما الروح القدسية الإلهية التي لا تموت؛ فإما أن تخلد في جنات النعيم أو تخلد في نار السعير، والجزء الثاني هو الجسد الطيني الأرضي حيث أمر الله الملك أن يقبض من الارض قبضة منها خلق آدم.
وقد أمرنا الله في كتابه بأمرين رئيسين هما وسيلة لتحقيق حاجات البدن والروح، هذان الأمران هما:
– الأمر الأول: العبادة، حيث قال الله (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون)
– الأمر الثاني: الاستعمار والاستخلاف؛ حيث قال (إني جاعل في الأرض خليفة)، وقال (هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)..

فهذان أمران مباشران لبني آدم، والأمران يخدمان الجزئين الرئيسين المكوِّنين لنا.
فأوامر العبادة هي وسيلة لإنماء الرّوح الإلهية، وتزكيتها من أمراض النفوس، وتطهيرها من النار التي أحرق فيها الطين الذي خلق منه آدم، فإن تطهّرت زاحمت السحب والأملاك في هتك الأسرار، وكشف اليقين، وقذف في القلب نور يري به بلا بصر ويسمع بلا أذن ويهرول إلى الله بلا حركة، نورٌ من شأنه أن يجعل الروح مؤهلة للوصول إلى الله، ويضعها على طريق الرحلة التي خلق الإنسان ونفي إلى الأرض ليسير في رحلته إلى موطنه الأول،(فكأننا سبي العدو.. فهل يا ترى نعود لأوطاننا ونسلم؟) وعدوّنا هو التغلّب على ذواتنا، وأسباب الشرور فينا؛ فإن لم تصل العبادة بنا إلى هذه الدرجة، علينا أن نعلم أننا لا نؤديها بالشكل الصحيح بل نؤدي صورتها لا جوهرها.

الأمر الثاني: هو الاستعمار، وهو وسيلة لبقاء وإمتاع الجانب المادي الجسدي. فنقرأ ونتفلسف، ونبني المدن ونقيم الحضارات، ونتعلم فنون السياسة والطب والهندسة، وكل علوم من شأنها أن تبقي على هذا الجسد حتى تستطيع الروح الساكنة به أن تؤدي وظيفتها، وحتى نتمكن من إقامة مجتمع عادل نحاول أن نحاكي به مجتمع السماء. فمن ينجح في إقامة هذا المجتمع العادل المحبّ لغيره، المنزوع من قلبه الغلّ. كان جديرًا بأن يسكن مجتمع السماء الذي لا مثيل له في عدل وحب وسماحة.
هذان الأمران أساسيان، ولا ينبغي لنا أن ننشغل بغيرهما عنهما، بل نؤديهما أولًا ثم نؤدي بجانبهما ما نشاء، ما دمنا لا ننسى أصل أوامرنا، على أنّ هذين الأمرين ينبغي أن يسيرا معًا جنبًا إلى جنب متوازيين، حتى يستطيع الإنسان أن يصل إلى التكامل البشري النسبي: فمثلًا نجد من قام بأوامر العبادة حق القيام وتغافل عن أوامر الاستخلاف، نجده ذا عقل مريض ساذج يهيم في الدنيا كدرويش مجنون، ترمقه العيون بالنفور وينفّر هو أيضًا عباد الله من اتباع مذهبه في عباده ربه، فينفرون من الدين كله، لظنهم أنّ مذهبه الدرويشي هو الدين.
وفي الجانب الآخر نجد مَن أشبعَ أوامر الاستعمار فقرأ ودرس وعمر الأرض، فنجد في قلبه قسوة مادية تنفر أصحاب القلوب الرقيقة منه، وأطلقوا عليه “مادي ذو قلب غليظ”. أو اتبع شهوات العقل وانتهك محارم الرب وأغار على حقوق الخلق بلا خشية أو شفقة لحال المساكين.
أما من سار بالتوازي في الأمرين بحيث لا يكون أحدهما في منزلة بعيدة عن الآخر، بل أحدهما سابق والآخر لاحق على الفور، تجده مثالًا للتكامل البشري، فقلب رقيق وعقل دقيق، وفكر مستنير وحضارة متينة. وانظر إلى الفاروق عمر واقرأ من سيرته العطرة، لتقرأ في زهده حتى تظن أنه كان درويشًا لا يفقه في أمور الدنيا شيئًا، وإذ بك تُفاجَأ أنه كان حاكمًا فذًا وسياسيًا مخضرمًا، شهد بعبقريته العدوّ قبل الصديق، وعُرف من خلاله الإسلام كما ينبغي أن يعرف.
وعلينا أن نعي جيدًا بأنّ الدين متكامل في أصله وفي أوامره، وإن كان هناك قصور ففي نفوسنا نحن التي لا تتسع إلى هذا التكامل، فتأخذ من هذين الأمرين ما يحتاجه ذاك الفراغ الذي في نفوسها. فمن يحتاج الحبّ يأخذ أوامر العبادة ضاربًا بأوامر الاستخلاف عرض الحائط، ومن يبحث عن الرفاهية والحضارة والركب التقدمي، يأخذ من أوامر الدين ما يفي بغرضه ضاربًا بأوامر العبادة عرض الحائط أو مقصرًا فيها، ثم يتجادل الطرفان ويتراشقون بالكلمات تراشقًا من شأنه أن يُسقط الشباب الحيارى ضحايا في هذه الهوة بينهما، جاهلين بأنّ كلا الطرفين صحيح، وأنه ينبغي أن نتكامل في أوامر الله، لا أن نأخذ منها فقط ما نهوى ثم نعيب على من يهوى غير ما نهوى.

علينا أن نعود إلى أصل أوامرنا، ولا نترك لهذه المجادلات المذهبية والطائفية، وتلك الفلسفات الكثيرة مجالًا لأن تُبعدنا عن الأصل، فلن يغني عنا أمام الله شيئًا اذا أتيناه بقلب غير سليم وعقل غير لبيب.

إعلان

إعلان

اترك تعليقا