إني ضبطتكما معًا

”إنَّھا تَحتَلُ قَلبي.. تتصرفُ فيهِ كَما لو كان بيتها تكنسهُ وتمسَحهُ وتعيد ترتيبَ الأثاثِ وتقابلُ فيهِ كُل الناس.. شخص واحد تتهربُ مِنه.. صاحبُ البيتِ“ – كامل الشناوي

قال تلك الكلمات واصفـًا ما تفعله نجاة الصغيرة به. أحبها كما لو قُلنا: «مِنْ الحُـبِ مَا قَتَل» فلا تصف العبارة ما عاشه (كامل) بل تصف فقط قَتله في نهاية المطاف.

كتب صديقه المقرب الصحفي الراحل مصطفى أمين في كتابه الشهير «شخصيات لا تُنسى»:
– «عشت مع كامل الشناوي حُـبه الكبير، وهو الحُب الذي أبكاه وأضناه.. وحطّمه وقتله في آخر الأمر، أعطى كامل لھذه المرأة كل شيء؛ المجد والشهرة والشّعر، ولم تعطه شيئـًا.. أحبها فخدعته.. أخلص لها فخانته.. جعلها ملكة فجعلته أضحُوكة»
ساعدها كثيرًا. ساهم بشكل كبير في ظهورها. قدّم لها الكثير من القصائد والحب. أعطاها المجد والشهرة.

قال كامل الشناوي ساخرًا:

– «احتشم يا قَلبي. فالحب طَيش وشباب وأنت طيش فقط»

هل للمحبين فئة عمرية محدودة؟ هل يَشيخ القلب مثلما يَشيخ صاحبه؟
كامل الشناوي الذي قَدّم عمره هدية لمن يحبها، بل فاق الحُب بحُب.
«افهميني على حقيقتي.. إنني لا أجري وراءك بل أجري وراء دموعي».

تعَرّض -الشناوي- لكثير من الصدمات أثناء حبه لنجاة الصغيرة، كان أبرزها عام ١٩٦٢ في عيد ميلادها عندما اشترى مستلزمات الحفل وظلّ في بيتها من صباح اليوم لعصره يُحَضّرُ كل ما يلزم تحضيره للحفل، حتى إنه كان يمشي على أطراف أصابع قدميه حتى لا يُزعجها. فذَهب لتغيير ملابسه. وحضر برفقة أصدقائه في مساء اليوم نفسه في شقتها بالزمالك، وعند إطفاء الشموع اختارت يوسف إدريس ليقطع التورتة معها ممسكًا بيدها. وبابتسامة باردة ككلّ ابتساماتها له: “شُكرًا تعبتك معايا”. فانسحب الشناوي حزينـًا باكيـًا، ثم تضاعفت أحزانه حين رآهما يخونانه. الخيانة تكشف نفسها. وعلى الرغم من كل ما يحيط تلك الحفلات من ضوضاء وصخب لم يسمع هو غير صوت تلك القبلة التي طبعها إدريس على خد نجاة، لم يرَ أيضًا إلا عندما أخذها من يدها لغرفة ترك بابها موارباً قليلًا ليغرقا في قبلة طويلة ويغرق هو في انهمار دموعه، وذلك لحُسنِ حظه أو سوئه.

إعلان

فكتب كلمات قصيدته التي تقطر ألمًا..

«لا تكذبي»
والتي جاء ضمنها:
* * *
ماذا أقولُ لأدمعٍ سَفَحتها أشواقي إليكِ؟
ماذا أقولُ لأضلعٍ مزَقتُها خوفـًا عليكِ؟
أأقول هانت؟
أأقول خانت؟
أأقولھا؟
لو قلتُھا أشفي غَليلي!
يا ويلتي . .
لا، لن أقول أنا، فقولي..
* * *
إنّ الموسيقار عبدالوهاب سماها: (إني ضبطتكما معًا).

قال الصديق المقرّب: «كتب كامل الشناوي تلك القصيدة في غرفة مكتبي بشقتي في الزمالك.. وهي قصيدة ليس بها مبالغة أو خيال. وكان كامل ينظمها وهو يبكي.. كانت دموعه تختلط بالكلمات فتطمسها، وكان يتأوه كرجل ينزف منه الروم العزيز وهو ينظم. وبعد أن انتهى من نظمها قال: إنه يريد أن يقرأ القصيدة على المطربة بالتليفون.

كان تليفوني بسماعتين، أمسك هو سماعة وأمسكت أنا وأحمد رجب سماعة في غرفة أخرى، وتصورنا أن المطربة ما تكاد تسمع القصيدة حتى تشهق وتبكي وتنتحب ويغمى عليها وتستغفر وتعلن توبتها. وبدأ كامل يلقي القصيدة بصوت منتحب خافت، تتخلله العبرات والتنهدات والآهات وكانت المطربة صامتة، وبعد أن انتهى كامل من إلقاء القصيدة قالت المطربة: كويسة قوي تنفع أغنيها.. لازم أغنيها، وانتهت المحادثة ورأينا كامل الشناوي أمامنا كأنه جثة بلا حراك».

أشُكّ أنّ البعض يقول: الأمر ليس مؤلمـًا. امرأة لا تحب ذلك الشخص. فمن حقها. أكبر منها بثلاثة عقود! فلا داعٍ لكل هذا التمسك منه وهي ترفضه.

وأنا أقول: إنّ الأمر مؤلم. لكنه يكون أقل ألمـًا عندما يرفضك الشخص الذي تحبه، لكنّ نجاة الصغيرة لم تفعلْ ذلك، بل قال الشناوي: «لا أفهمها، فهي امرأة غامضة لا أعرف هل هي تحبني أم تكرهني؟ هل تريد أن تحييني أم تقتلني؟».
وقال مصطفى أمين:«كان كامل يحاول بأي طريقة أن يعود إليها؛ يمدحها ويشتمها، يركع أمامها ويدوسها بقدميه، يعبدها ويلعنها.. وكانت تجد متعة أن تعبث به، يومـًا تبتسم ويومـًا تعبس، ساعة تقبل عليه وساعة تهرب منه.. تطلبه في التليفون في الصباح، ثم تنكر نفسها منه في المساء».

أتسمى محبوبة؟ أتوصف بكل البراءة التي تظهر على وجهها؟ يقولون أنّ قساة القلوب لا يحبون، والحقيقة أنّ القساة بلا قلوب.

وفي إحدى المرات شاهد أحد محبيها يتودد إليها، فكتب ساخرًا: «إنها كالدنيا. لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس.. ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها».
قصة حُب من طرف واحد! كثير ما نسمع عن هذا النوع من القصص، لكن أكثرنا لم يعش مثلها. لا يُدرك مدى أن يتألم قلب شخص ويُنزف جُرحـًا والآخر يرتمي بأحضان غيره..

الوحيدون ضعفاء بالفطرة، ومن كان له قلب شاعر لابدّ أن تقتله الوحدة.
قصة حب شهيرة، وظل البطل مُخلصـًا حتى آخر أنفاسه.

«ولكن أيامي اليوم قليلة، وانتزاع عام منها يشعرني بالفقر والفراغ والعدم فمنذ تجاوزت الأربعين وحدي. كما تجاوزت ما قبلها. لا صحة ولا مال ولا زوجة ولا ولد ولا صديق. ولكن علامَ نبكي الحياة؟ وماذا لو رحلت عنا أو رحلنا عنها ما دام الرحيل هو الغاية والهدف؟»

فتلك هي آخر كلمات قالها الشاعر الكبير قبل موته، واصفًا حياته الأليمة والموت يعانقه.

قد يعجبك أيضًا: ومن الحب ما قتل

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: منى عبدالوهاب

اترك تعليقا