الإمام المراغي بين الدين والسياسة

لم يكن شيخ الأزهر الإمام المراغي من علماء السلطان أو ابواق السلطة، محترفي الرياء العلمي، الساعين إلى الجاه، المبررين سلوك أهل الدنيا، المقدمين رضا المخلوق على رضا الخالق، بل كان عالم ربانيًا وطنيًا لا يهاب أحداً في سبيل الحق.

كان مؤمنًا بأن الأزهر الشريف هو المصباح الذي يضيء العالم والكعبة التي يأتيها كل طلاب العلم من جميع الدول وأن رسالة الأزهر هي بيان الدين الإسلامي وشرح قواعده، وهي رسالة عالمية، فواجب على طلابه وعلمائه تعلّم اللغات الأخرى، وأن البرنامج الإصلاحي لا يطبق بالعنف، كما كان يحمل علم التجديد الذي كان يحمله الأستاذ الإمام محمد عبده.

ولد القاضي الفقيه والأستاذ المصلح محمد بن مصطفى بن محمد بن عبدالمنعم المراغي في بلدة المراغة بمحافظة سوهاج في 9 مارس سنة 1881م، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة وظهرت عليه علامات النباهة والذكاء.

التحق بالأزهر الشريف وتلقى العلم على يد شيوخ عصره ومنهم علي الصالحي، دسوقي عربي، محمد حسنين العدوي، محمد بخيت المطيعي، وأبي الفضل الجيزاوي. كما اتصل بالأستاذ الإمام محمد عبده فتفتحت على يديه مواهبه العقلية وظل وثيق الصلة به سائرًا على نهجه في التجديد والإصلاح.

حصل على العالمية من الأزهر عام1322هـ/ 1904م، وكان أستاذه محمد عبده من ضمن لجنة الممتحنين، وعقب تخرجه عمل بالتدريس لفترة ستة أشهر، ثم اختير ليكون قاضيًا بالسودان عام 1904م، فأمضى بها ثلاث سنوات قاضيًا لمديرية دنقلا ليستقيل ويعود إلى مصر عام 1907م لخلاف نشب بينه وبين الحاكم العام الإنجليزي، وذلك للتباين الكبير في راتب القاضي المصري والقاضي الإنجليزي.

إعلان

عاد للتدريس بالأزهر الشريف، كما عُيّن مفتشًا بديوان وزارة الأوقاف، إلا أنه عاد إلى السودان مرة أخرى في عام 1908م ليشغل منصب قاضي القضاة بدلًا من الشيخ محمد هارون، وظلّ يشغله حتى عام 1919م، وكان عمره حين تولّى هذا المنصب الرفيع سبعة وعشرين عامًا، واشترط لقبول المنصب أن يتم تكليفه من قبل خديوي مصر وليس من الحاكم العام الإنجليزي.

وخلال إقامته بالسودان تعلّم اللغة الإنجليزية فأتقنها، كما عرف عنه محبته لأهل السودان وكان يضرب به المثل في رجاحة العقل وفي اعتزازه بكرامته، وحرصه على تحرّي العدل في أحكامه حتى ترك المنصب فأقيم له حفل وداع كبير في ظهر يوم السبت 5 يوليو 1919م بدار الاسكتنج بالخرطوم.

غادر الإمام المراغي السودان يوم الاثنين 7 يوليو، إلا أنّ سيرته العطرة هناك ظلّت باقية حتى بعد وفاته بعشر سنوات، ويظهر ذلك جليًا عندما أرسل قاضي قضاة السودان الشيخ حسن مدثر خطابًا لوزير العدل بعد أن دار بينهما جدالًا في مسألة تختصّ بالأوقاف في عام 1954م،  فقال له مستشهدًا بكلام الشيخ المراغي:

“فقد فطن لذلك أكبر مشرّع إسلامي في هذا القرن وهو صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفي المراغي الذي كان قاضيًا لقضاة السودان” فوصفه بأنه أكبر مشرّع في القرن الماضي .

ظهرت وطنية الإمام المراغي عندما اندلعت ثورة 1919م، فكان حريصًا على مساندة الثورة، وقاد حملة بالسودان لمناصرتها ولإعانة ضحاياها، فأصدر نشرة عنوانها “اكتتاب لمنكوبي الثورة بمصر” فعمل الإنجليز على إبعاده عن السودان.

بعد عودته إلى مصر شغل مناصب عديدة بوزارة الحقانية فعُين رئيسًا لمحكمة مصر الكلية عام 1920م، ثم عضوًا بالمحكمة الشرعية العليا عام 1921م، ثم عُين رئيسًا للمحكمة الشرعية العليا عام 1923م، كما نال عضوية هيئة كبار العلماء عام 1924م .

تولّى الإمام المراغي مشيخة الأزهر للمرة الأولى في مايو عام 1928م وحتى عام 1929م، واستقال وقتها بعدما شعر أنّ الملك فؤاد أراد للأزهر أن يظلّ في حالة جمود، ورفض فؤاد أن يطلق يد الإمام في شؤون الأزهر حيث اعترض على البرنامج الإصلاحي الذي وضعه الإمام، ليصطدم المراغي بالملك ويتقدّم بالاستقالة إلى رئيس الوزراء في أواخر أيلول/سبتمبر سنة 1929م.

انتقلت مشيخة الأزهر إلى الشيخ محمد الأحمدي الظواهري في عام 1929م، والذي لم يستطع أن يحقق كل ما يطمح إليه من وجوه الإصلاح التي دعا إليها في كتابه العلم والعلماء لاعتبارات سياسية، حيث اشتدت معارضة العلماء والطلاب له وزاد من اتساعها الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تمر بها البلاد، ولم يجد خريجو الأزهر عملاً لائقًا، فعمل بعضهم دون أجر حتى يحفظ لنفسه حق التعيين حينما تتهيأ الظروف.

تسبّب ذلك في غضب شديد وبلغت الأزمة مداها بفصل عدد من طلاب الأزهر الغاضبين من سياسته، وأظهروا له العداء فنشبت ثورة جامحة ضد الشيخ الأحمدي من قبل الطلاب وانضم إليهم بعض العلماء مطالبين إياه بالاستقالة من المشيخة وبسبب تفاقم الأوضاع اضطر إلى الاستقالة في سنة 1935م وتولى المراغي المشيخة للمرة الثانية في 28 نيسان/ابريل سنة 1935م وحتى وفاته سنة 1945م.

استقبل الأزهريون تعيين الإمام المراغي بالحفاوة البالغة والابتهاج وأصدر قرارات بعودة الطلاب والعلماء الذين فصلهم الشيخ الأحمدي ومنهم الشيخ عبدالله خلف والشيخ عبدالحميد فرغل المدرسين بمعهد أسيوط ورفع مرتبات العلماء وأعاد المكافآت التي كانت لطلاب التخصص، ورأى الازهريون في تلك القرارات تقديراً للعلم والعلماء وعودة الكرامة والحق والانصاف لهم.

وكان موقفه من الإنجليز واضحاً جلياً فرفض فكرة اشتراك مصر في الحرب العالمية الثانية والتي كانت قائمة بين ألمانيا وحلفائها من جانب، وإنجلترا وأمريكا وحلفائهما من الجانب الآخر وأعلن موقفه صراحة من فوق منبر مسجد الرفاعي قائلًا:

“نسأل الله أن يجنّبنا ويلات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل”

لتهزّ كلمته كيان الإمبراطورية البريطانية وأثارت سخط رئيس الحكومة تشرشل، والذي بدوره طلب بيانًا من الحكومة المصرية، فاتصل رئيس الوزراء بالإمام المراغي وخاطبه بلهجة حاد، فرد عليه الإمام قائلًا “أمِثلُك يهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، ولو شئت لارتقيت منبر مسجد الحسين وأثرت عليك الرأي العام، ولو فعلت لوجدت نفسك على الفور بين عامة الناس.”

وكما اصطدم الإمام المراغي بالملك فؤاد اصطدم بنجله الملك فاروق في موقف غريب وعجيب وأقرب إلى الخيال، فعندما طلق فاروق زوجته الأولى فريدة وكان غاضباً عليها، أراد أن يحرم عليها الزواج بعده، فأرسل إلى الشيخ المراغي يطلب منه فتوى تؤيد رغبته، فرفض الإمام الذي كان مريضاً ويعالج بمستشفى المواساة في الإسكندرية، فأرسل إليه الرسل يلحون عليه، إلا أنه ظل ثابتًا على موقفه رافضًا الاستجابة لطلب الملك، فضاق الملك ذرعًا بإصراره على الرفض، وذهب إليه في المستشفى محتدًا وطال بينهما الجدل، فقال له الإمام المراغي صائحًا مقولته الخالدة:

“إن المراغي لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله”

انتكست صحة الإمام بعد مقابلة الملك فؤاد، ولم يلبث أيامًا قليلة حتى رحل إلى مثواه الأخير عام 1364هـ/1945م.

إعلان

اترك تعليقا