البطل الفكرة

ولادة الفكرة

الأرق، السهو في القراءة، التقوقع داخل العقل واختفاء الواقع المحسوس، وضعُ الأشياء المجردة موضعَ الواقع، بالتحديد الأفكار، الأفكارُ هي هذه الأشياء المجردة، تركيب المعاني و خلقها في قالب جديد يخدم الفكرة التي تسيطر عليك، سقطةُ قطرةِ مطرٍ و ارتدادها، بسمة طفل يمرح برجليه مشيًا و قفزًا، متابعة كل حركة تصدر من إنسان، كل ردة فعل تأتي من قطة الحي، كل هذا و ما سواه أعراض متتابعة تتناسل و تصير وحيًا خاصًا يصيب صاحبه بالصرع والرغبة في الصراخ، يصاب بمس من الجنون، غير مرة يرفع يديه ليجس نبض صدغيه، لكن ما معنى أن يكون لي “فكرة”؟

إن معنى امتلاكي لفكرة في مغزاه الأعظم أن وطني في السماوات، لكنه دونما شك يأتي على أهداف دونية، هي الأخرى لها مكانتها، ومكانتها سياقها وسوقها لهذا الوطن القابع في السماوات.

إن مجرد الدخول في فن التحدث عن هذه الفكرة. لا بلوغها، هو سمفونية في حد ذاتها، هي أغنية لرقصة بوليرو، هي شعر إليوت وسباحةٌ في أرضه الضائعة، وإذا ضاع المرء في أرض لا يداري المسار فيها، تخلص من إحساسه بيديه ثم رجليه، وصولاً لعينيه، سيغدو يمشي في تلك -الأرض الضائعة-  بعقله فقط، يتحول لفكرة مجردة، معنًى سامٍ يعتلي على عرشٍ داخل النفس، داخل ملكوتِ النفس.

وإذا كان هناك بداية لتعريف الجنة التي فقدها آدم، لن تعدو هذه البداية في التعريف عن التجسد الكلي داخل فكرة معنوية تغادر بك سلاسل هذا الكون المادي والطبيعي، وإذا كان من انطلاقةٍ صحيحةٍ لتفسير معنى الشجرة التي أكل منها آدم، شجرة المعرفة، فلن تعدو هذه الانطلاقة عن أنّ نزع الفاكهة من الشجرة المقدسة هو نزعٌ للفكرة ذاتها عن طبيعتها المجردة المثالية، ونزعها جعلَها تتلبس بلباس يكسو التجريد وهو الطابع المادي المغالط، ثم تكون العودة للجنة، كما يعود التفسير للتعريف، أن تتصل الفاكهة من جديد بالشجرة المقدسة، أي أن يعقل الإنسان، أن أعقل أنا الفكرة بحقيقتها، أعقلها وهي متصلة بأمها الشجرة، لا سوى ذلك، ثم تكاد تبرز للروح الواعية ملامحُ هذه الجنة الصغيرة، قبل ولوج الكبيرة، وملامح الصغيرة هي ولادة ثانية، فهل أنا أقصد إلا ما شرحه ابن تيمية لما ذكره المسيح، قال شيخ الإسلام : في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لم يدخل جنة الآخرة، و قال المسيح عليه السلام: لن يدخل الملكوت من لم يولد مرتين.

بادرة ذهنية قد راودت عقلي عن نفسه، فصرت إذا جلست ساعات مديدة للقراءة والمطالعة الغزيرة، صرت أبحر في عالم من الخيال يخدم فكرتي، يخدم التي تخصني، الفكرة. إذا اتفق وقرأت اسطورة سيزيف، إذا اتفق وفتحت من الكتب المقدسة للفلسفة الوجودية، استقرأت أنبياء الوجودية، بل إذا اتفق وغصت في سيرة عن أحد سجون سيبيريا، ستزور جثثا عفنة، وتستمع لاعترافات مساجين، غدًا يجلدون ألف جلدة بالسياط أو العصا، ربما يعدمون ويستأصلون حتى، إذا اتفق وألممت بمفهوم العقل الجمعي للمجتمع البشري، ألممت بعلم نفس الجماهير من غوستاف لوبون حتى فرويد. أعود فأقول:

إعلان

إذا اتفق كل هذا جملة واحدة، لم يزل إلا ذخيرة وبارود ينقشع في ذهني يؤسس لتلك الفكرة، وهو تأسيس يصيب بالمرض، فلا تكاد تبصر الصفحات، ولا تدري عن المؤلف قصده و مراده، الصفحة تتلو الصفحة، والصحيفة تتلو الصحيفة، أنت بين كل ذلك تهيم في وادٍ غير ذي زرع، وادٍ أنت تزرعه تحت وطأة هذيان وحالة هيسترية، أقرب ما تكون للجنون، كوخ المطر، كوابل الرصاص ينهمر من غير تؤدة ولا هوادة، يقضي الحال بك إلى رغبة هز رأسك بعنف، وصفع وجهك، يقضي بك الوضع إلى الصداع المزمن، حتى تغيب عن وعيك، و يبرز لك كل شيء في أعظم صورة، يفقد الانتحار صورته البشعة، هو مستساغ الآن بل ولذيذ جدًا، لعل الضوضاء تنتهي ويتوقف الضجيج، ربما رَطْمُ جمجمتك في الحائط سيساعد، لكن لا، لاجدوى، في قلب ذلك الضجيج وتلك الضوضاء، تكمن لذة، أعظم لذة، لذة الفكرة المجردة، لذة أرغب في إنمائها وحقنها، لكن ليس بالكتب الآن، لا، فهي تمدني برغبة في الصراخ والعويل، والرقص بمرح شديد، تمدني برغبة غرس أظافري القصيرة بين تلافيف بشرتي، راسمًا عليها وديانًا حمراءَ، أنهارًا غامقة. أن أخرج إلى العالم وأرى الخضرة والسماء الزرقاء الصافية أفضل لي، حتى إذا تركت عتمة القبو الذي أسكن فيه، هي عتمةٌ كضوء الشمس بالنسبة لي، قلت حتى إذا تركت عتمة قبوي، ورأيت أول بشري يمشي و يدب على هذه الأرض، انتابتني فورًا أحاسيس القرف والشفقة وفقدَتْ الأشياء كل معانيها، هي تنتحر أمامي، تنتحر عند قدميّ هذا البشري الآدمي. الكمال، المثالية، الحكمة والذكاء… إلخ. كلها تموت، تذبل بين طيات التراب، لا تعود للحياة إلا اذا عبر طفل بريء، أو مرت فتاة صغيرة تمرح و تزهو، هذا الطفل وهذه الفتاة هما مواد فكرتي التجريدية، يعظّمان من لذتي، ويغذيان ما أنسجه فيغدو أسمى وأرقى. الطفل أقرب لكائن مجرد منه لكائن واقعي، أقرب للسماوات منه للأرض، وهو بذلك أقرب للفكرة والفاكهة المتصلة بالشجرة، لن يهزمني سواه، يخفق له قلبي و تذرف له عيني، و تبتسم له شفاهي، لم أعد أبحث عن هدف، مثل بحثي عن الرجوع طفلاً، فلا تكبر إنه فخ.

هذه الحياة بوفرة مواردها، لوحة أعانت في خدمة الفكرة التي تخصني، أي أعانت في لذتي و شهوتي التجريدية، أي مرة أخرى أعانت في ضجيج صاخب و ضوضاءَ عارمةٍ تعصفُ بي بشدة وقوة، بدل سيزيف وأنبياء الوجودية والعقل الجمعي وسطوته، هناك الجبال والكهوف والنبات الأخضر، هناك النحل والزهور، هناك الاضطرابات النفسية للإنسان، والتي تظهر في أدنى الحركات  وأصغرها، أنْ تصدر عن جنون للسلطة و التسيد في أسلوب طرحٍ، تحيةٌ أو ترديد كلمة وداع، أن يكون في لب كتابة جملة قصيرة خيلاء فارطة وكبر واسع، أن يحوي جذر رمشة عين ألف قصة وقصة.  كل ذلك و يزيد هو غذاء تمتصه جوارحي ثم عقلي، خدمة للفكرة، خدمة لبطلي، و بطلي هو فكرتي.

كما سيزيف يدحرج صخرة في العالم السفلي، دحرجة من علو لسفل ثم من سفل لعلو، كما عصفور القبرة يزغرد و يلحن قصيدة شجية لأنثاه، كما سجين في سيبيريا قام بقتل أبيه ليرث ماله. كله يأتي مقهورًا، عبدًا خاضعًا في كون ليس هو الكون المحكوم بمبدأ العطالة أو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، بل عبدًا لكون فكرتي، وأنا أعيش في كون فكرتي، من دون مبدأ العطالة، حيث كون الصلابة، كون قوانين نيوتن ليس إلا حلمًا في كوني الحقيقي المطلق، حلم لبطلي، وأنا هو بطلي، و بطلي فكرتي، بطلي هو الأسير في زانزانة سيبيرية على سفح جبل مائل، بها صخرة تروح و تجيء، يفتتها البطل بقصيدة العصفور ولحنه، يكفر في إثرها نبي الوجودية بقدسيته، يعرف جراءها أنبياء الحقيقة…

لا أحاول أن أكون غامضًا بقدر ما أريد تعريفكم ببطلي، فكرة تخصني، بناؤها هو لذتي القصوى، قد أدخلتني عالم المثل الأفلاطوني، فقدت من خلالها الشعور بما تسمونه الواقع والوجود، بدأت أشاهدها في كل الموجودات، شاهدتها في الحجر، عاينتها في السحاب والسماء، لامستها في خفقان الفؤاد واحتقان الدم في الدماغ، صرت أحياها، أتنفسها، رويداً رويدًا، شرعتْ الأحجار تغيب و السحب أفلت بأفول السماء، أما قرقعة القلب والدم فسكنت، حتى إذا أغمضت عيني مرة واحدة، ثم فتحتهما، اختلف كل شيء، ما في الواقع الآن إلا فكرتي، ما في الوجود الآن إلا بطلي، ما في الكون الآن إلا كوني، ثم صفوة القول:  ليس من كون إلا كون فكرتي، انتهى كل شيء عداه… و لأن طبيعتي طينية، وأبي يظل آدم مهما كان، فعلي أن أقطف فكرتي من شجرتها المقدسة.

لزامٌ مني سلب بطلي حقيقته الجوهرية التجريدية ونقله لعالمكم، لعالم آدم و حواء. كتبت هذا الكون الحي الذي أعيشه بين غلافين، لا لتقديمه وعرضه، ولا حتى للإصلاح، و لو أنّ هذا الأخير بمكان مهم، غيرَ أنه ليس بالأهم.

الأهم هو إسكات ذلك الضجيج الصاخب المتراكم والضوضاء الفاقعة، التي تصم الآذان، و تنزفها، الأهم هو التفريغ، التخلص قليلاً من تلك اللذة الكاملة والعظيمة جدًا، هي لذة لا يطيقها جسد ولا عقل، ليسوا من تكوين واحد ولا جوهر متشابه، يجب تسريب شيء من طاقة اللذة إلى العالم الثاني السفلي الأرضي، والبطل سابقًا هو كيان لا حدودَ بارزةٌ  له ولا سياج يحيط به يحدد معالمه، تدوين البطل هو تحديدٌ له وطرحه في صورة أقرب ما تكون للمثالية، في قالب يجعله بارزَ الأركانِ، فيضاعف ذلك من شأن اللذة، يضاعف من شأن الجنة، لكن من غير ضجيج أو صخب، بل مضاعفة صافية، مفرحة مبهجة للنفس، فيزول الأرق والسهو، ينقطع الغوص العميق المنسي للذات، لتعود صفحة الكتاب من جديد مقروءةً دونما ارتحالات ذهنية عويصة مرهقة، ولا أسفار فوق كونية زمانية تسلب الأغوار، يستعيد الانتحار صورته البشعة، و يجفو الرأس للحائط و يقف منه على مسافة، تهجع النفس و تسكن، فلا تشعر أنها تتضخم حتى تكاد تنفجر، و تتناثر أشلاءً مشتتةً . . .

فأين زمن التدوين! اللذة عظيمة والضجيج يتكاثف ويتصاعد…

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا