البعض يكون مجرمًا والبعض يخرج من رحم الجحيم

بعد یومٍ شاقّ لم تشرق فیه الشمس ولم یظهر القمر كعادته من كثرة السحب الرمادیة المحمّلة بآثام القرى المجاورة، عاد إلى منزله المترامي الأطراف بجوار الطریق السریع المكوّن من طابقین ویسكنه وحده، دلف إلى البوابة المتآكل حدیدُها وانتشر الصّدأ في كلّ ركن فیها. مرّ بالطابق الأرضيّ الرّطب برائحته العفنة، نظر علیه نظرته السریعة المعهودة وصعد للطابق الثاني، دلف إلى الحمّام لیزیح عنه الغبار توقّف أمام المرآة یتابع ملامحه یتفحّصها كعادته فهو قمحيّ اللون مائل إلى البشرة البیضاء بشعر أسود كثیف وناعم لا یشوبه سوى ثلاثة وعشرین خصلة بیضاء.. وهذا كان سِنّه وقتها؛ بعینین بنیتین یتحوّل لونهما إلى الأسود في ظلام اللیل وإلى العسليّ اللامع تحت أشعة الشمس، كما أنّ بشرته تزداد لمعانًا أیضًا إلا شعره كان یمتصّ الأشعة ویحتفظ بلونه الداكن. یمتلك جسدًا ممشوق القوام فلا هو بالقصیر ولا بالطویل، كلّ عظامه متّسقة ویمتلك بعض العضلات البارزة، وهو ذو كتفین عریضین وذراعين قویتين تُبرِزان عروقه، ما جعله آیة في الجمال تلهث وراءه كلّ فتاة؛ فمنهنّ من تختلس النظر إلى ذراعیه وعروقهما المرسومة بعنایة بحيث تتماشى مع عضلاته المتوسّطة الحجم المتسقة، ومنهنّ من يقفن أمامه في الطرقات یتطلّعن لوجهه وعینیه. أما عن الرجال فاتخذوه صدیقًا جمیل المحیّا یفتخرون بلباقته وحسن خلقه رغم صمته وقلّة حدیثه، لكنهم كعادتهم البلهاء یُلصقون الصّفات الحمیدة بمن هو جمیل الشكل فیكون أیضًا طیّب الطباع..
خلوق.. من عائلة مرموقة، وفي حالته، غریب في القریة تلك؛ فهو عزیز قوم ذلّ.. مما أضاف عند الفتیات أنه جُمِعت كلّ المحاسن فیه وكأنه في الحُسن صورة یوسف.

بعد انتهائه من تطلّعه لبشرته وجسده ببعضٍ من الثقة والغرور، غیّر ملابسه بهدوء وذهب لیعدّ قدحًا من القهوة بدون سكّر وهو یستمع لمقطوعة لیف كنیبر “المیدان” – Lev Knipper “Moscow Symphony” – ترك القهوة على الموقد لیعدّ سیجارة لأنه یكره السجائر الجاهزة كما یفضّل رائحة التّبغ المتخلّل أصابعه، فضلاً عن رائحة الموت المنبعثة من أنفاسه. وضع القهوة في القدح وجلس ینعم بها مع الكثیر من التبغ. ثمّ حضرت تلك الذكرى.. عندما تسلّل إلى منزلٍ مجاور في بلدته الریفیة وأشعل النیران في السقف المعروش بالقشّ والخشب وعاد لفراشه لینام حتى أیقظته أصوات الصراخ؛ حملته والدته خارج المنزل مع إخوته كقطة تحمل أطفالها بفمها مهرولة غیر عابئة بما یحدث حولها وهرع رجال القریة لیخمدوا الحریق، وظلّ الجمیع یتساءل: من أین أتت النیران؟ حتى قال صوت جهوريّ بوجه صلبٍ تملؤه التجاعید والبلاهة المحفورة بین عینیه، جاء منبعثًا من جسدٍ ضخم یحمل من الدّهون في بطنه كما یحفظ الخطب في عقله، بملابسه النظیفة وعمامته التي لم یأتِ علیها بعض الغبار من الدخان المتصاعد لأنه توقف بعیدًا عن الحریق.. لقد كان ذلك إمام المسجد، وخرجت كلماته مرتبة منمقة بطابع خطبيّ كأنه على المنبر، إلا أنه لم یبدأ بالبسملة: “هذا غضب من ﷲ على تلك القریة.. ألم تتركوا الصلاة للنوم والراحة! ألم تسمعوا بما حدث في القریة المجاورة؛ عندما اشتعلت النیران في جمیع المنازل بسبب طائر اشتعلت النیران فیه فأخذ یقع على كلّ منزل ثمّ یحاول الطیران فیقع على منزل آخر، وزادت الشمس وتوهّجها من الأمر وكذا فعلت الریاح لأنهم كانوا یهملون الصلاة ویأمرون بالضلال؟! فِرّوا إلى اﷲ ولا…”

كان كلّ شيء یحدث برتابة من أهل القریة والرّجال منكسو الرؤوس، وقطّبت ملامحهم في خشوع ممزوج بالندم. والنساء توقّفن عن العویل واغرورقت أعینهنّ بالدموع من فرط الندم غیر المعلومة أسبابه.. لقد صدّقوه أو كادوا! حتى تلفّظت امرأة في العقد الرابع من عمرها، ممتلئةَ الفخذین ولم تبدُ علیها أيٌّ من علامات النّدم وكأنّ وجهها اشتعل هو الآخر یتوهّج غضبًا، فقد رأت الطفل وهي تُحضر البَیض من فوق منزلها وهو یلهو بأعواد الكبریت.. وصرخت فیهم: “هذا لیس غضبًا من ﷲ أیها الشیخ الأبله، إنه من فعل هذا الطفل.. لقد رأیته…” وهرعت إلى الطفل تحاول الفتك به وهو ینظر لهم في براءته المعهودة بوجهه الدائريّ الحالم، وعینین صُنعتا خصیصًا لملوك من المصریین القدماء.. خُلق لیكون أمیرًا في عوالم الأمراء هذا الشیطان الصغیر..

حملته والدته في حضنها وهي تنظر للمرأة في بغض وعدوانیة. أمسك أهل القریة المرأة وأبعدوها عن الطفل ولم یصدّقها أحد وأخذوا یقولون لقد مسّها الجنّ أو الكبر، كلّ هذا لأنها لم تُرزق بأطفال. وكانت تقسم وتسبّ في آن واحد “إنكم لقوم مخابیل! هل أكذب علیكم أیها الحمقى؟ أتركوه هكذا.. حتى یقتلنا جمیعًا مرة واحدة، وسیقول هذا الشیخ أنه غضب من ﷲ.!” وتركتهم ورحلت ونجا هو بفعلته، وأخذته والدته وحملته تمسح رأسه وتقبّله وتخبره بألا یخشى شیئًا.. هكذا تفعل الأمومة حتى لو كانت أمًّا لقاتل بالفطرة.

هنا أخذ الطفل في التفكیر؛ إنهم یعشقونني أنهم یرونني جمیلاً وبریئًا وهذا ما سوف أكونه أمامهم، فتلك أمور بسیطة.. ثمّ كبر وأصبح یهوى السرقة والتسلل إلى البیوت لیشاهد النساء وهنّ نائمات ثم یسرق قطعًا من ملابسهنّ الداخلیة لیرضي بها فضوله عن الجنس الآخر. ومع الوقت، أصبح محترفًا حقًا؛ فكان یسرق الأموال لأنه یعلم أین تخبّئها النساء.. في أول مرة سرق مبلغًا ضخمًا حتى قامت القریة كلها تبحث عن السارق وقرروا أن یبحثوا في كلّ البیوت وكاد أن یُكتشف أمره أو هكذا ظن! ولكنه تذكّر.. لا أحد یشكّ فیه لأنه البريء الجمیل.. وتسلّل للمنزل الذي سرق منه الأموال ووضعها بمكان آخر غیر الذي كانت فیه وبالطبع احتفظ بمبلغ لا بأس به، وحین انتهاء أهل القریة من البحث أخبرهم الفتى بأن یعاودوا الكرّة في المنزل المسلوب، ففعلوا.. وهكذا وجدوا الأموال ولكنها ناقصة، فقام الزوج بتعنیف زوجته وضربها وأصبحت هي السارقة في نظر زوجها وأهل القریة، ونجا بفعلته! وأخذ یكرّرها ویكرّرها حتى سلب كل بیت وضُرِبت كل امرأة من زوجها.. كما خرج إمام المسجد یطوف شوارع القریة الملتحمة المتصلة ببعضها كمتاهة صُنعت لأهلها لیس لغیرهم، تحرّك ببطء وثقل بعمامته وبطنه المترهّلة وبجوراه الفتى حاملاً طبلة صغیرة یقرع علیها مرتین، ثم یقول الإمام “یا أهل القریة غضب ﷲ قادم فعودوا للواحد الدائم.”.

إعلان

رغم كلّ تلك السرقة إلا أنه لم يكذب قطّ، لم يقل غير الحقيقة عن كل شيء لأنه لا يخشى شيئًا.. لم يسأله أحد عن السرقة ولو لمرة.. كل أسئلتهم غبية ككيف قضيت يومك؟ وكيف كانت دروسك؟ ثم يخبرهم بما يريدون سماعه، فيردّدون “يا لك من بريء جميل”. فلو أخبرهم أنه هو غضب الله لن يصدّقوه وسينظرون له ببلاهتهم المعتادة ويخبرونه أنه فتى جميل يحفظ القرآن ويصلي فروضه وأنبغ تلاميذ جيله، وربما كان هو أذكى طفل في العالم؛ ولمَ لا! فتلك العقلية الإجرامية لابدّ أن تكون كذلك ولكنه لم يغترّ بنفسه يومًا واحدًا حتى مرض ولازم الفراش وأخبرته والدته ألا يذهب لدروسه ذلك اليوم، ولكنه لم يهتم وقام وتوجّه لمكان الدرس وجلس في مكانه المعتاد حتى حضر المعلم وحياهم تحية الإسلام فردّوها عليه كما هي كببغاوات.. ثمّ تحدّث المعلم أنه أخبرهم في الدرس الماضي أنّ الله يجعل وجه من يصلّي فروضه مضيئًا يشعّ نورًا ربانيًا وأنه سينظر في وجوههم اليوم كما سينظر الله لهم يومًا ويخبرهم بمن صلّى فروضه.. وكان يبدو عليه النبل والفطنة لهذا أخذت الفتيةَ رهبةٌ بسيطة إلا الفتى فكان هادئًا كعادته بريئًا، وتوجّه المعلم بوجهه نحو الفتية ويقول أنت أديت فروضك وأنت وأنت.. أنت لم تفعل وأنت لم تفعل وهكذا حتى جاء الدور عليه، فنظر للمعلم في عينيه وقرّر أن يخبره بمرضه، ولكنّ المعلّم قال له: لقد أديت فروضك.. وتوجّه لغيره حتى انتهى وشرع في درس اليوم الذي لم ينتبه له ربما بسبب مرضه وربما بسبب علمه بأنّ هؤلاء القوم بلهاء حقًا وأنه لابدّ عليه أن يستغلّ تلك البلاهه، فهو الأذكى في جيله وأكثرهم براءة، وكان هذا اليوم الذي اغترّ بنفسه تمامًا وتملّكته رغبة بأنه يستطيع فعل كل شيء ولن يمسّه الضرّ أبًدا.. لا يهمّ إن كان هو غضب الله أم مسيحه الدجال فالجميع لن يصدّق سوى أنه البريء دائمًا.

كلّ تلك الذكريات أتت له في تلك اللحظة وهو يستمتع بقهوته وتبغه حتى تذكّر أول مرة تمنى أن يقتل صبيًّا معه في الدرس لأنه كان يمقته ويعلم بسبب مرضه في ذلك اليوم وعدم أدائه للفروض، سوف يكشف أمره ويتسبب في كارثة له، سوف ينزله من مكانته المقدسة وربما يعتلي هو تلك المكانة ويقبّلوا قدمه ويمسحوا على رأسه.. “هذا لن يحدث أبدًا؛ لن يأخذ أحد مكانتي المقدسة”. ثم قرّر أن يقتله غدًا في وقت الظهيرة عندما يكون أهل القرية في قيلولتهم، ونام في فراشه يحلم ويرتب لتلك الجريمة وأنه سيأخذه ليصطاد بعض الأسماك من النهر في آخر القرية.. هذه حيلة رائعة! ثم يدفعه في النهر حتى يتلفظ بأنفاسه الأخيرة. وما أن استيقظ وجد أمه تخبره أن لا خروج من المنزل اليوم ولا يوجد دروس اليوم، فلمّا سألها عن السبب، أجابته أنّ صبيًّا من الصبية قد ندهته النداهة ولم يجدوا جثته، فلما تحقّق من الأمر وجد أنّ الصبي الذي كان ينوي قتله هو الذي تتألم القرية عليه، وأخذ يفكّر هل فعلا قتله؟ أم تمنّيه بقتله هو الذي دفع النداهة لقتله بدلاً عنه أو بأمر منه! ولكن كيف والجريمة حدثت كما حلم به؟ا لقد ذهب الصبي للصيد ووقع في النهر.. ربما تلك قوة لم يتوقّعها من عقله ولكنه سيدرّب عقله عليها بكل تأكيد.

لا يهم كل ذلك الآن فقد ترك القرية وأهلها بعد أن أتى زلزال قويّ هدم البيوت على أهلها. ومن نجا من الزلزال حملته العاصفة القوية إلى النهر فانتهت القرية كلها إلا هو لأنه كان في القرية المجاورة وحده يبتاع فانوسًا جديدًا لاستقبال الشهر الكريم، وهو في طريقه كان يفكر في كيفية فناء تلك القرية ولكنه لم يحدّد متى وكيف.. سوى أنه حلم بالأمس بعاصفة قوية تطيح بالسنابل من الحقول جميعها؛ وسمع مناديا ينادي بصوت مألوف أنه انتهت القرية المجاورة وأهلها.. ربما يكون إمامُ مسجد القرية نجا هو الآخر؛ ولما علم أهل القرية بأنه هو الناجي الوحيد أخذوا يواسونه ويخبرونه بأنه “بريء وجميل” وقرّر إمام المسجد أن يأخذه ليهتمّ به، حتى توفّي الإمام أو اختفى فلم يعلم أحد بمكانه، وأخذوا يواسون الصبي مرة أخرى.
ومع الوقت زادت حوادث الاختفاء، فتارة تكون فتاة صغيرة وتارة صبي كان يلهو. وتكاثرت الأقاويل بأن الفتاة سرقها أحد لصوص الأطفال والصبي ندهته النداهة. والشيطان الصغير هذا ازداد في القوة وأصبح شابًا. ثم بدأت الفتيات في الاختفاء. وبالطبع كانوا يقولون بأنهنّ هربن مع عشّاقهنّ لأنه كان هنالك شباب تختفي ايضا.. ويخرج إمام المسجد الجديد بجواره طفل حامل طبله يقرع عليها مرتين ثم يقول الإمام: “يا أهل القرية غضب الله قادم فعودوا للواحد الدائم.”

وهكذا مرّت الأحداث في تلك القرية…
هنا توقّفت الذكريات جميعها وعاد لتجرّع قهوته حتى أنهاها وجلس يفكّر في ترك تلك القرية الظالم أهلها أيضًا.

إعلان

اترك تعليقا