التخلي قبل التحلي عن المتصوفة وأهل السنة والجماعة

التخلية قبل التحلية

القاعدة الأشهر في مبادئ التصوّف (التخلي قبل التحلي)، ولمن لا يدري معناها: “الذي يعنينا في هذا المقال (تصوّف العمل) وليس الاعتقاد، وهم من زمرة أهل السنة والجماعة”.

التخلي قبل التحلي: أي التخلي عن المعاصي وكلّ ما يُثقل النفس، يأتي أولًا ليكون القلب مستعدًّا لتقبّل الطاعة والمداومة عليها والتلذّذ بحلاوتها، فلا يجتمع في القلب الطاعة والمعصية، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

طالما انشغلتُ بالتفكير في ذلك المبدأ؛ أيهما أولى بالبدء، العدول عن الذنب لاستحضار الطاعة أم البدء بالطاعة لإزاحة المعصية؟ بحسب المبدأ الصوفي فإنّ الأولى التخلي عن المعصية لأنها تخلّف في النفس الشرور، واعتيادها يترك في القلب قساوة فيأتي المرء على الطاعة لا يستشعر أثرها ولا يشعر بلذّتها، فمزاحمة المعصية في قلبه تُذهب كلّ جميل.. كالشجرة الخبيثه في بستان الزهور تمتد لتفسده، ويقع تحت ذلك المبدأ المجاهدة: فمجاهدة النفس لترك المعصية ومحاربة الشهوات هي ما نرمي إليه، فما نفع المرء إذا  أتى بالطاعات والمعاصي  جنبًا إلى جنب ولم يكلّف نفسه عناء المجاهده في تركها. وفي ذلك المبدأ نجد الإمام الغزالي قد عمل به في تلك المرحلة من حياته، حيث اعتزل الناس حينما خالط نفسه الشكّ في نيّته وأعماله، فيقول الغزالي واصفًا حاله ذلك ”وكنت لا تصفو لي رغبة في طلب الآخرة بُكرةً إلا ويحمل جند الشهوة حملةً فَيُفَتِرُهَا عشيةً، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! فلم يبقَ من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل، ثم يعود الشيطان فيقول: هذه حالةٌ عارضةٌ، وإياك أن تطاوعها فإنَّها سريعة الزوال”.

فالتخلي عن شهوات الدنيا بقطع عقبات النفس، والتنزّه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصّل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله وطاعته. يقول الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال بوجوب الاشتغال بطب القلوب، إذ لا يخلو قلب من علة لو أُهمِلت لتفاقمت وكانت سببًا في هلاك المرء، لذلك فالكشف عن هذه العلل والعمل على علاجها من أوجب الأمور، وهو تحقيق قوله تعالى (قد أفلح من زكاها)، إذ ليس سلوك الطريق إلا بقطع العقبات، ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا”.

من هذا التفسير السابق يظهر تعارض مع الآية (إنّ الحسنات يذهبن السيئات) والحديث الشريف (أتبع السيئة الحسنة تمحُها)؛فالمعنى هنا أنّ التقديم للطاعة أقرب لطبيعة النفس من التخلي عن المعصية، فكلنا أصحاب ذنوب، فلا يمكن الوصول إلى تلك الحالة التي يتخلص بها المرء من كافة الذنوب ليبدأ حينها بالطاعات، إذ الأمر حينئذ عسير.. فيحصل التسويف ومن ثمّ الشعور بثِقَل المهمة على صاحبها.

إعلان

وفي هذا المعنى الآخر نجد علماء السنة يعكسون المبدأ فيصير (التحلي قبل التخلي).. فهو أصل من أصول الإيمان.

يقول ابن تيمية في -“مجموع الفتاوي” المجلد السابع كتاب الإيمان- (وإذا قامَ بالقلب التصديقُ به والمحبةُ له، لَزِمَ ضرورة أن يتحرك البدَنُ بموجب ذلك مِن الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدَن مِن الأقوال والأعمال هو مُوجَب ما في القلب ولازِمُه ودليلُه ومَعْلُولُه، كما أنَّ ما يقوم بالبدن مِن الأقوال والأعمال له أيضًا تأثيرٌ فيما في القلب، فكلٌّ منهما يؤثِّر في الآخر، لكنَّ القلبَ هو الأصل، والبدَنَ فرعٌ له، والفرعُ يستمدُّ مِنْ أصله، والأصلُ يَثْبُتُ ويقوى بفَرْعه؛ كما في الشجرة التي يُضْرَب بها المَثَلُ لكلمة الإيمان).

“سواءٌ أعمال قلوبٍ، أو أعمال جوارح – كلما تحلَّى المرء بها، وامتلأ العقل والقلب والجوارح بها أزاحتْ نسبة هذا الخير ما يقابلها تلقائيًّا وتدريجيًّا، وبدون عناءٍ، أو مجهودٍ يذكر؛ وكذلك كلما خلا القلبُ الذي هو مَلِك الجوارح وهي له تبعٌ – كلما خلا مِن الشر – حلَّ محله نسبة خيرٍ مساويةٍ للشر الذي قلع منه.”

فسواء أعمال القلوب أو الجوارح كلما تحلّى بها المرء امتلأ العقل والقلب بها، فيزيح تأثير الطاعات ما يقابله تلقائيًّا وبلا عناء. وكذا كلما كثرت طاعات المرء قلّت ذنوبه فيتحقّق المعنى المراد من قوله: (الذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم)، يقول ابن كثير في تفسيره للآيه الكريمة: (والذين قصدوا الهداية وفّقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها، (وآتاهم تقواهم)، أي: ألهمهم رشدهم  لذلك كان البدء بالتحلي بالطاعه الأيسر والأسرع تنفيذًا، والأكثر أملًا للنفس التي فعلت خيرًا، فيدفعها إلى فعل المزيد من الخير، فالنفس لما تتشبع بالحقّ تصبح تلقائيّا تكره الشرّ كرهًا شديدًا، بل ويُصيبها بالمرارة.

يقول ابن القيم: (مثال تولّد الطاعـة، كمثل نـــواة غرستها، فصارت شجرة، ثم أثمـرت فأكلتَ ثمـارها، وغرست نـواهـا، فكلما أثمـر منها شيء جنيت ثمـره، وغرست نـواه وكذلك تداعي المعاصـي..).

هذا وقد خلصنا إلى رأي أهل السنة فيما قد تمّ تفسير الآيات وإعمال القلوب والجوارح على إثرها بالاتفاق أنّ التحلّي بالطاعة مقدّم على التخلي عن الذنب؛ إذ أنه أيسر وأدعى لإقدام المرء على الإتيان بالطاعات. إذًا قد يقول البعض الآن بأنّ تفسير مبدأ (التخلي قبل التحلي) عند المتصوّفة لا يتفق مع تفسير الآيات والأحاديث ومجموع علماء الرأي.

حسنًا، لا يمكننا الجزم بذلك، حيث أنّ المتّفق عليه بين علماء الرأي هو ما كان من نتاج أفعال البدن حتى وإن كان محلّه القلب،  فكما وضّحنا فيما سبق أنّ القلب أصل والبدن فرع عنه، قد يأتي المرء على فعل الذّنب لكن لا يقع بالقلب محلّ إعجاب به وألفة له.

في الحديث الشريف: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، والمعنى: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، والمراد أنّ المعصية تنقص الإيمان في القلب  فيصير مرتكبها فاسق إلا أن يتوب إلى الله، وهذا القول لا ضير فيه طالما لم يقع في قلب المرء ألفة الذنب والاستهانة به.

وهذا  محلّ التفرقه بين رأي المتصوفة وأهل السنة، إذ أنّ التفسير السابق للمتصوفة بوجوب التخلي عن الذنب أولًا ثمّ التحلّي بالطاعه هو في  أفعال القلوب، فلا تجتمع المعصية القلبية والعمل القلبي الواجب، ولا يجتمع الحقّ والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، والصدق والكذب، والصلاح والفساد، لذالك  وجبت تنقية السريرة  لتتقبل الطاعة، عملًا بقوله تعالى: (إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)..  فالقول في هذه الآيه بتقديم التخلي.

يقول تعالى (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، يقول الطبري في تفسيره للآية: “لا يجتمع في القلب الكفرُ والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار”.

ويقول ابن القيم: (فأنت تجد تحت هذا اللفظ أنّ القلبَ ليس له إلا وجهةٌ واحدة، إذا مال بها إلى جهةٍ لم يَمِلْ إلى غيرها، وليس للعبد قلبان يطيع الله ويتبع أمره ويتوكل عليه بأحدهما، والآخر لغيره، بل ليس له إلا قلبٌ واحد، فإن لم يُفْرِدْ ربه  بالتوكّل والمحبة والتقوى، وإلا انصرف ذلك إلى غيره… والله سبحانه لم يجعلْ لرجلٍ مِن قلبين في جوفه، فَبِقَدْرِ ما يدخل القلب مِن همٍّ وإرادة وحب يخرج منه هَمٌّ وإرادة وحب يُقابله، فهو إناءٌ واحدٌ، والأشربةُ مُتعددة، فأي شرابٍ مَلَأَهُ لم يبقَ فيه موضع لغيره، وإنما يمتلئ الإناءُ بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه مُمتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرجَ ما فيه ثم يسكن موضعه).

وهكذا نستطيع الخلاص إلى أنّ (التخلية قبل التحلية) عند المتصوفة، و(التحلية قبل التخلية) عند أهل السنة لا تعارض في الغاية..  إنما تعارض ظاهري بين أفعال الجوارح وأعمال القلوب. ونستطيع الخروج بالفائدة من الرأيين السابقين بأنّ إتيان المعاصي يُذهب بعض الإيمان بالقلب إلا بالتوبة، فكان التخلي قبل التحلي.. والطاعات تذهب المعاصي مادام القلب عامرًا بالإيمان يخلو مما سواه، فكان التحلي قبل التخلي. رزقنا الله وإياكم الإحسان بالقول والعمل.

المراجع:
 فتاوي ابن تيميه ج٧
 المنقذ من الضلال ...ابي حامد الغزالي
 احياء علوم الدين .... ابي حامد الغزالي
 روضة المحبين ونزهة المشتاقين ...ابن القيم
 موقع طريق الإسلام

إعلان

اترك تعليقا