التنافر المعرفي: فشلت النبوءة وما زالوا مؤمنين

قام عالم النفس الاجتماعيّ الشهير ليون فستنجر، صاحب نظرية التنافر المعرفي “١٩١٩- ١٩٨٩”، بدراسة “لماذا يزداد إيمان الناس بمعتقداتها حتى بعد ظهور أدلة قوية تفنّد حجّتهم وتهدم مصداقيتها. ونشر فستينجر ومعه هنري يكين وستانلي ساشتر دراسته  في كتابه “عندما تفشل النبوءة“: دراسة نفسية واجتماعية لمجموعة حديثة تنبّأت بدمار العالم when prophecy fails الذي صدر في عام 1956 .

طائفة الباحثين The Seekers

شملت الدراسة أحد الجماعات الدينية الصغيرة cult التي تؤمن بالتواصل مع الكائنات الفضائية، ومقرّها الولايات المتحدة الأمريكية. أسّست هذه الطائفة ربّةُ منزل اسمها دوروثي مارتن تحت تأثير أفكار كاتب الخيال العلمي رون هوبارد الذي تقدّم بمنهج علاجي نفسيّ Dianistics (علم زائف) قائم على الكثير من أفكار معتقدات شرق آسيا.

و لقد ادّعت دورثي أنها تلقّت رسائل سماوية من كائنات فضائية أسمتهم “الحرّاس” يسكنون كوكب كلاريون Clarion، تفيد بأنّ فيضانات ضخمة ستدمّر العالم في يوم 21 ديسمبر 1954. واستعدادًا لنهاية العالم ترك العديد من أعضاء الجماعة الدينية وظائفهم وتخلّصوا من ممتلكاتهم، وظلّوا شهورًا يصلّون ويرفعون أيديهم بالدعاء.

وأتى اليوم الموعود ولم تقُم القيامة ولم يحدث أيّ شيء غير معتاد على الإطلاق، وخرجت “دورثي مارتن” على الناس ترفع رايات النصر لتعلن أنّ العالم قد نجا من هذه الكارثة بسبب “قوى الخير والنور” التي نشرها أعضاء جماعتها في جميع أنحاء العالم بصلواتهم وتبتّلهم، وبدلاً من أن يتخلّى أفراد الجماعة عن معتقداتهم بسبب الضربة الماحقة في مصداقيتها، أصبحوا أكثر إيمانًا، بل وازداد حماسهم في التبشير بها.

طائفة اليهود الأرثوذكسية

بالمثل، اعتقدت الطائفة اليهودية الأرثوذكسية بأن مناحم مندل شنيرسون (Menachem Mendel Schneerson) الحبر اليهودي الأرثوذكسي الشهير لن يموت. لكن عندما تُوفي بسكتة دماغية في عام 1994، وبدلا من قبول فكرة خلدون، استنتج بعضهم أن مناحم هذا  هو المسيح فعلا وسيتم قريبا بعثه من بين الأموات في وقت قريب.

إعلان

رأي ليون فستنجر

يرى فستينجر أنّ إيمان الناس العميق بالفكرة، والتي ترتّبت عليها إجراءات ومواقف يصعب التراجع عنها في ظلّ وجود جماعات كبيرة من الناس المؤيّدة، والتي تقدّم الدّعم الاجتماعيّ لبعضها البعض يجعل من الصعب التخلّي عن “تلك الأفكار”. كما أنّه يحفّز قدرات الناس على التبرير العبقري القادر على التخفيف من حدة التناقض بين فكرتين متناقضتين داخل المؤمنين.

تعريف ظاهرة التنافر المعرفي

تسمّى هذه الظاهرة بـالتنافر المعرفي (Cognitive dissonance) في علم النفس، وهي حالة من التوتّر أو الإجهاد العقلي أو عدم الراحة التي يعاني منها الفرد الذي يتبنّى اثنين أو أكثر من المعتقدات أو الأفكار أو القيم المتناقضة في نفس الوقت، أو يقوم بسلوك يتعارض مع معتقداته وأفكاره وقيمه، أو يواجَه بمعلومات جديدة تتعارض مع المعتقدات والأفكار والقيم الموجودة لديه.

تركّز نظرية ليون فستنجر حول التنافر المعرفي على السبل والآليات التي يسعى البشر لاستخدامها لخلق حالة من الاتساق الداخلي عندما يواجهون حالة من عدم الارتياح على المستوى النفسي، ويتولّد لديهم دافع لمحاولة الحدّ من هذا التنافر من ناحية، وكذلك تجنّب أيّ مواقف أو حالات أو معلومات قد تزيد من حالة التنافر المعرفيّ لديهم.

التنافر المعرفي والانحياز التأكيدي خِلّان لا يفترقان

يصاحب التنافر المعرفي دومًا رفيقٌ لا يتركه أبدًا هو الانحياز التأكيدي بوصفه أحد وسائل التغلب على حالة الضغوط النفسية التي يشعر بها الفرد عندما تتملّكه أفكار متناقضة أو يتناقض سلوكه مع معتقداته.

ونقصد بالانحياز التأكيدي الميل للبحث عن، وتفسير، وتذكُّر المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقدات وافتراضات الفرد عن موضوعٍ ما، بينما يتجاهل المعلومات المناقضة لأفكاره. ويُعرَف الانحياز التأكيدي بأنه ميل الشخص إلى تفضيل المعلومات التي تؤيد معتقداته أو افتراضاته.

وكلّما ازدادت المعلومات التي تؤيّد معتقد هذا الشخص كلّما اشتدّ تمسّكه بهذا المعتقد، فقد تصبح بعض المعتقدات جزءًا من شخصية صاحب المعتقد، ولذلك يبتعد عن أية معلومات تتعارض مع  هذا المعتقد، ومن ثمّ لا يستطيع هذا الشخص أن يتخلص من هذا المعتقد بدون أيّ أضرار لشخصيته.

يُظهر الأشخاص هذا الانحياز عندما يجمعون أو يتذكّرون المعلومات بشكل انتقائيّ، أو عندما يفسّرون هذه المعلومات بطريقة منحازة. يميل الأشخاص أيضًا إلى تفسير الأدلة الغامضة بشكل يدعم موقفهم الراهِن.

والغريب أنّه حتى الذكريات تتعرّض للانحياز التأكيدي، فالشخص يتذكر ما كان يؤيد رأيه وينسى ما كان يناقضه، فحتى لو درسنا موضوعًا ما بحيادية تامة قد لا نتذكر إلا ما يؤيد رأينا وننسى هذه الحيادية. في الحقيقة، تعتبر الذكريات من أقلّ الأدلة اعتمادًا، ولكن هذا لموضوع آخر.

علم الاعصاب Neuroscience والتنافر المعرفي

كشفت مسوحات الأشعة بأجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي أنّ حدوث تناقض أو صراع فكري بين معتقد أو معلومات قديمة وبين أفكار أو معتقدات جديدة تنشّط المناطق في المخّ المختصّة بالهوية الشخصية، والاستجابات العاطفية للمخاطر.

فيديو نادر لليون فستنجر

الخلاصة

الناس لاتحب الحقيقة لكنها تحب كل مايُؤكد أن معتقداتهم و أفكارهم هي الحقيقة ، للاسف الشديد . و احسب أنّ الناس لن تتخلى عن معتقداتها إلا في ظلّ كمّ ضخم جدًّا من المعلومات التي تُكذّب مصداقية المعتقد ويستغرق هذا وقتًا طويلاً يبدأ بخروج تدريجيّ لأفراد “المِلّة” عن إيمانهم ومن ثمّ الضعف التدريجيّ في التأييد الاجتماعيّ الذي يحافظ على ترابط أصحاب هذه المِلّة. وفي النهاية يترك الناس ملّة ليلحقوا بأخرى تحظى بدعم اجتماعيّ يحافظ على نسيجها.

إعلان

اترك تعليقا