الخروج من الحرب

الخروج من الحرب

كان صوتُ الأغنية الفرنسيّة المُنبعث من الرّاديو بصوتِ إديث بياف قد بلغ المسامعَ داخل غرفةِ السيّدة العجوز مادلين، تعالَت أصواتُ البرقِ وأصبحت أكثر مهابة، توافدت الذّكريات على سكّان المدينةِ مثل قطّاع الطّرق، فتحت مادلين عيونَها على المدينةِ منذ صغرها؛ المدينةُ هادئة جدًا، رائحةُ البحرِ تخترقُ منازلَها الكلاسيكيّة متى يحلو لها، والسّور القديم هُدِم لتبقى المدينة بلا أسوار، النّساء هنا في شبابهنّ يقدسن الهدوء برفقةِ الحبيب، لطالما ارتعبت مادلين من محطّات الإذاعة عندما احتلّتها أصوات العسكريين.

لم تنقطع علاقتُها بوالدها السيّد يعقوب، لقد زارها الليلة في منامِها، ضمّها برفقٍ لصدرِه ثم همس في أذنِها وهو يربت على يدِها قائلًا : ” لا تُرهقي نفسك في التّفكير، تذكّري أنّ الجميع كانوا يكنون لي كلّ الاحترام عندما أصبحتُ غنيًا، الحياة ليست مستثناة من الهزيمة، والبشر يقدسون آخر لحظاتهم.” ثمّ سقاها كوبًا من اللبنِ، وأطعمها قطعة من الكوكيز.

أخذها ودخلا معًا إلى مدجنة الدّجاج وجلسا فوق حزم القشّ المكوّمة بعد ليلةٍ شتويّة قاسية، اعتلى كرسيًّا خشبيًّا عتيقًا، وكأنّه يترأسُ اجتماعًا هزليًّا لمحاولةِ إقناع البعض بوجود الله!
بدأ فمُه ينفغرُ كالباب، تركّز ضوء مصباحِ المدجنة الرئيسِ عليه وقال مُخاطبًا مادلين من بعدِما ظهر عليها الاضطرابُ والحيرة: “في وقتٍ ما سيرّحبُ الجميعُ بالموت. أتذكرين حين وقعتُ على وجهي وتصاعدَت أنفاسي؟ ألا ترغبين بمعرفة سبب صمتي هذا؟ لم أعاتب نفسي أمامكم خشية أن تقتلني غدًا”.
كان السيّد يعقوب يعملُ موظّفًا في دار نشرٍ متواضعة الحال تقوم بطباعة القصص المصوّرة وتتولى توزيعَها على المكتبات، قد عاش  فقيرًا؛ ابتدأ حياتَه بائعًا للصُّحف، هرب من الحربِ وأصبح مخمورًا، كُفره بالحربِ جعله يدخّن التبغ بشراهةٍ كما جعل منه إنسانًا يردّد الألفاظ البذيئة طيلة الوقت.

عندما عاد إلى منزلِه كان واهنًا جدًا، استنشقَ رائحة ناديا ومادلين على السّياج؛ كان المنزلُ يقع في الرّيف والملابس المنشورة على السياج لم تكن ثيابًا فاخرة، حتّى ثياب الرضيعة مادلين كانت متواضعة جدًا، كلّ واحدة منهنّ كانت تمتلك جمالًا لن يتكرر أبدًا -لقد شملتهن البركة-.

كانت ناديا -زوجتُه- في منتصفِ العشرينات وقت الحرب، دائمًا ما نظر إليها النّاس بانبهار، كانت أشبه بالإنسان الّذي أحبّه الرّب حبًا شديدًا حتّى قرّر أن لا يضعه وقتًا طويلًا داخل التّجربة. فتح يعقوب بابَ غرفتها، وأغلقه بهدوء، كان صوت شخيرها قويًّا للحدّ الّذي أصاب العصافير بالتّوترِ فراحت تضرب الفراغَ بأجنحتها، بطنُها قد برزت بعض الشيء وشعرها أصبح هزيلًا، كانت تولي اهتمامًا شديدًا لنظافةِ البيت رّغم أنهم يعيشون فيه بالإيجار، يبدو أنّ الحرب جعلتها تحبّ النّوم وتحترمه مثل الصّعاليك.

إعلان

وقف يعقوب بجوارِ السّرير يتأمّل ويراقب زوجتَه النّائمة على جنبها وبجوارِها مادلين الرّضيعة تقبضُ بشفتيها على حلمةِ ثديها المتشقّقة وتسحبُ لنفسها اللبن، إنّها لم تعد تكترث للحياةِ دونَ يعقوب، والّذي ظلّ يراقبُهما لبعضِ الوقت ثمّ قال بصوتٍ خافت: “بتُّ أبحث عن نفسي بين جسدكِ، لن تتحكّم هذه الحرب القذرة في حياتي، أعلمُ أنّك سوف تلتمسين لي العذر لأنّك تبغضين الضّجيج مثلي.”

أيقظَ ناديا، نهضت متلهّفة عندما سمعت صوتَه فهربت حلمتها من فم الرّضيعة التي راحت تصرخُ وتلهث حتّى غلبَها النومُ بسهولة بعد أن ملأت معدتها من اللبن، بكَت ناديا قائلة واللبن ينسابُ من حلمتِها : “تلك الحرب أقذر من الموت، صوتك واعد بالخير لا تذهب إلى الحربِ ليصبح لكل شيء قيمة مجددًا. تصاعدت رائحة القهوة من فمها وظهر شعر إبطها الأسود عندما احتضنا بعضهما بشدة حتى برقت عينها وأخذ يعقوب يقبّل أكتافَها ورقبتها، قامت بشفط بطنها لتستعيدَ رشاقتَها أمامه، تجمّع الذُّباب بالقربِ من وجهه، أبعدته عن يعقوب وتحسّست خدّيه وقبّلته.

حملَ يعقوبُ رضيعتَه وسارَ بها بضع خطى في اتّجاه المصباح الّذي أخذ ضوؤه يخفّ تدريجيَّا في الغرفة، قال بصوتِه الخشن: “انظُري يا ناديا إنّها تُضيء كالمصباح، تكادُ تنزلق من بين أصابعي من نعومتِها، سوف تذهبُ هذه الفتاة إلى الجامعة؛ يجب أن نكون متيقّنين من ذلك، مدينتنا لم تعد آمنةً للأطفالِ، والوطنُ الّذي لا يستطيعُ حمايةَ أطفالِه هو وطن بلا شرف، لقد سئمتُ من خطبِ حاكمنا الأبله، لقد زارَنا في الجيش مرتديًا نظّارتَه السّوداء وابتسامتَه البلهاء والّتي مازالت لا تفارقُه، كان هذا اليوم موافقًا لذكرى إلقاءِ القنبلة على المدرسة الابتدائيّة، حين صاح غاضبًا: “جميعُ أطفالنا الّذين ماتوا في مثل هذا اليوم هم شهداءٌ لهذا الوطن؛ يجبُ أن نفخرَ بهم ونحنُ هنا اليوم لنقوم بتكريمِهم.”، وعندما انتهى عادت ابتسامتُه البلهاء إلى وجهه مرّة أخرى، ثمّ حدّثنا عن الموتِ فقال: “الموتُ واجبُنا تجاه الأجيالِ القادمة.”، وكأنّنا نمتلكُ أكثرَ من حياة!
عندما تنتهي الحرب سيقومون بقتلِ العبيد..

بالمناسبة أنا لا أكنّ أيّ احترامٍ لنيتشه. مجرّد أيّامٍ قليلة وسوف نكون خارجَ المدينة، لا بدّ وأن نضطهدَ العالم حتَى نستطيعَ الذَهاب في رحلةٍ، عندما نقومُ بنصبِ خيمةٍ لا يخترقُ الرّصاص صدورَنا. “الرجالُ يمارسون الخطايا لكنّهم يخافون الله، الإنسانُ هو المخلوقُ الوحيد الّذي قد يكشفُ جنونه عن حبّ عظيمٍ.
لقد كانت تريدُه أن يمارسَ معها الجنسَ وهو نتنُ الرّائحة من بعدما أشعلَ وجودُه النّيران في جسدِها، يوم ولادةِ مادلين حملَها وهي نائمة قائلًا : ” أتدركين كم تحبّين النّوم ؟! ” تذكّرت مادلين حديثَه الأخير معها : ” كنتِ جميلةً جدًا كعادتكِ يا مادلين، لقد أدركنا أن الله قد وهبنا شيئًا عظيمًا عندما ابتسمتي يوم ولادتكِ. أنا لم أبلغ من العمر أرذله لكنّني أعلم أنني سوف أموت في تلك الأيام.

واجهي حياتَك بلطفٍ، لا بدّ أن تفوزي بشيءٍ ثمين، الأرضُ ليست مؤهّلة ليعيشَ عليها الضّعفاء والجوعى، أنا سعيدٌ لأنّني سوف أموت؛ لا أستطيعُ العيشَ ومرضٌ لعينٌ يشاركني في جسدي، يجبُ أن تغزو الطّمأنينة الرّوحَ والجّسد، الحربُ والعبوديّة والأنانيّة والسياسة والإيمانُ بالنّظرية الواحدة؛ تلك هي أسبابُ تعاسةِ الكون. “-قالوا لهم داخل معسكرات الاعتقال الشيوعيّ في موسكو: “إن لم تؤمنوا بالماركسيّة أنتم هالكون.”-
أريدُ الّلحاقَ بوالدتِك يا مادلين، لقد أقعدني المرض، إنّه دائمًا ما يدفعنا إلى تقبّل الموت، تعوّدي أن تفوزي، لقد عشتُ حياتي بالشّكل الذي رضيته لنفسي، عندما قرّرت الهروبَ من الحربِ وبّخني صديقي الماركسيّ؛ إنّه أبله ! لقد خضتُ معركةً أنبل، من هم هؤلاء العسكريين ليحاولوا إقناعنا بأنّنا يجبُ أن نموت لأنّهم يريدون  الحرب؟ هم يتصوّرون أنّ الحرب شيءٌ طبيعيّ وأنا لا أرى ذلك البتّة.
كنتُ أرغبُ بحياةٍ جيّدة وسعيدة على هذه الأرض، مسكينٌ ذلك الذي أوهمَ نفسَه بأنّهم سوف يحافظون على سعادةِ بيته بعد موته في الحرب، رأيتُ الكثير من الرّجال يدفنون وجوهَهم في التّراب؛ يجبُ علينا الاعترافُ بأنّنا نواجه مستقبلًا مأساويًا.

نهضت مادلين من فراشها ويداها ترتعشان، التحفت بشالِها المغزولِ بالصّوف، تنهّدت وقالت في نفسِها: رحمك الله يا أبي دائمًا ما تزور ابنتك عكس أمي، يبدو أن ناديا قد أعجبها الموت! لم تعد علاقتي مع أحفادي كسابق عهدها بسبب الشيخوخة، لقد عشتُ زمنًا طويلًا أحسنت فيه إدارة منزلي، لم أتخلَّ يومًا عن لباقتي ومظهري في مثل تلك الأيام، لقد أرهقت عيني من كثرة النّظر إلى العالم، برئت من البرجوازية مثلك، قفزت الطيور على شرفة مادلين تتضوّر جوعًا حاملةً معها رائحة قدوم الكريسماس ورائحة بسطاء العالم وأغنيائه الذين لم يسيؤوا العيش داخل منازلهم وقدّسوا إطعام الطيور، أحضرت مادلين كيسَ الحبوب من تحت وسادتِها وراحت تلقي بها للطّيور بسعادة، كانت تدندن مع الأغنية بصوتٍ خافتٍ، سمعت صوتًا قويًا قادمًا من الشّرفة يشبه صوت ألفريد زوجها يقول: من تأنَّى النظر إلى الطيور أصبح فيلسوفًا، ومن لم يكن إنسانًا ذات يوم ما زال بإمكانه ذلك.

مادلين: يا إلهي لقد طعنت في السنّ… ألفريد من أحاط المنزل بالسّياج، على أيّة حال لقد كان صديقي الحقيقي.

تشبع الهواء برائحة لبنٍ خاسر، انبعث القلق داخل مادلين عندما شمّت الرّائحة، تقدّمت نحو مكتبِها ببطءٍ، نظرت إلى كوب اللبن وقالت بصوت واهن: لقد نسيته منذ يومين عندما غلبني النوم، اخترقَ الصّوت أذنيها مرةً أخرى: املؤوا كؤوسَكم من اللّبن على آخرها، مادلين لديها الكثير، إنّها زوجتي. جلست مادلين ترفو بنطال جينز قديم لها، به ثقبٌ دائريّ كبير أسفل السوستة، توقّفت فجأة ثم تحسّست بيدها مكان الثّقب وقالت بغضب: ما هذا الذي أفعله؟! لقد كان زوجي ألفريد… نعم إنه ألفريد من ثقب البنطال بهذا الشكل عندما اشتراه لي منذ أربعين عامًا.

تقدّمت نحو صورة ألفريد المعلّقة على الحائط، تحدّثت إلى صورتِه قائلة: لقد ماتت نانسي وحيدةً يا ألفريد وهي تلعب ألعابها الإلكترونية، أنا من تسبّبت لها بذلك، أنا لعينة يا ألفريد! ولذلك أخشى الموت، أريد أن أركض إلى الغابة وأقدم نفسي طعامًا للحيوانات، لقد تركت الشّعر ينبت أعلى شفتيّ، قمت بجلد جسدي من الدّاخل، تركت أطفال الفقراء يصفعونني مقابل المال؛ عندما أهين نفسي وأعذّبها ينتابني شعورٌ بالرّاحة كأنّني ولدت داخل عالمٍ من الرّسوم المتحرّكة.

بالأمسِ نظرتُ إلى وجهي في المرآة، بصقت عليه باحتقارٍ شديد، بعدما عدت من مستشفى سرطان الأطفال، كنت أقدّم لهم هدايا الكريسماس وداخلي يحدّث الله: يا إلهي الرّحيم إنّهم ضعفاء جدًا وأغلبهم أنهكه المرضُ حتّى جعله غير مهتم بقصة الخلق العظيمة، ورغم كل ذلك فهم يعشقون التّفاح! لقد رأيت الأم تحتضن طفلها المريض بين ذراعيها ولسانه قد بدأ بالنّزيف، قام بعض لسانه، قال الطبيب لأمّه إنّه يحز في نفسه كثيرًا، نحاول الخروج به من نفسه لكنّنا دائمًا ما نفشل، إنّه عنيد جدًا مثل الموت! لم يتفوّه الصغيرُ بأيّ كلمة، تحرّر من صدرِ أمّه، سار بضع خطى ثمّ قفز إلى سريرِه وعضلات جسده كلّها قد تشنجت. ساعدني ذلك الموقف على أن أتذكّر هذين الشابّين العربيين في المتجر، عندما تحدّث الشابّ السّمين إلى صديقه قائلًا: يبدو أنّ أختي قد أغضبت الله كثيرًا لتنتهي حياتها بهذا الشّكل الدراميّ، لقد شاهدت البارحة شيخًا مغمورًا وهو يتحدّث عن علامات سوء الخاتمة وحسن الخاتمة على الميّت، لقد أرعبني ذلك الفيديو حتّى تمنّيت أن يكون كلّ ذلك حلم، أنا أحبّ أختي للغاية.

بالأمس صلّيت إلى الله، قلت له أنّ الإيمان يحرّرنا من شرّ الحياة، أشد الأسى حين تصمت كثيرًا فنصمت معك. لو أنّ نانسي تزوّجت من ابن خالتها لما ماتت وحيدة هكذا، عندما مات زوجها كانت تجلس بين النّساء غير مبالية وكأنّها قد انتظرت هذا الأمر طويلًا حتى جاءتها الأخبار السارّة، قل لي شيئًا يا الله! ما زالت نظرتها الأخيرة عالقة في رأسي، أتعلم يا ألفريد؟ لقد تعلمت الصّمت من الله! أيجب على الإنسان أن يتقبّل نفسه كمجرم ليطمئن؟! لقد قلت لي ذات يوم أن يسوع لم يختر لنفسه ميتة سريعة كقطع رأسه مثلًا أو الموت غرقًا، لا بدّ أن يبدأ وينتهي كل شيء بشكل درامي، لذلك وجب علينا أن نتقبل فكرة أرواحنا المعذبة.

كان ألفريد يحتقر الروتين. يقول لنفسه: لماذا؟ عندما يقوم بذبح أرنب أو دجاجة من مزرعة المنزل، كان يبغض صوت القطارات ويستقلها مرغمًا. كانت الحياة بالنسبة له أشبه بمدرسة جميع تلاميذها من المشاغبين الذين يستمعون إلى النصائح في النهاية. كان يُجيد السّخرية من الكتّاب الجدد ونجوم الصف الأول في السينما، قال لمادلين سوف تموت السّينما بموت الأفلام التّافهة، سوف يجعلون الإنسان يقدم على الانتحار بسبب أفلامهم الواقعيّة المؤلمة. كان يكره الأحلام التي تفصله عن الحياة بشكل كلي لذلك كان يكره أفلام الفنتازيا الأمريكيّة.

لقد وبّخ نفسه عندما حلم بأنه يطير عاريًا دون أجنحة حتى تعثر في مادلين ومارسا الجنس في الهواء، كان يبتكر طرقًا جنسية شقية جديدة أكسَبتهما المزيد من السعادة  منها ممارستهم الجنس بزيّ المرحلة الثانوية… إلخ. ذات يوم غسل وجهه عدّة مرّات بماء استحمام مادلين، كانت تراقبه، قال لها: لولا مادلين لما تذوقت كل تلك السعادة.. هذا ما تراءى له، لقد كان يغرق في نشوتِه وتحته مادلين بالطّريقة القديمة وكأنّها أول مرة، لم يمارس الجنس قبل زواجه لقد كان برجوازيًا محافظًا، كان يحتقر ماركس وجيفارا ودائمًا ما يتذكر جرائمهما ضد معارضيهما. لم يخجل يومًا من أن يفصح عن شهوته الجامحة تجاه زوجتِه، كلّ شيء فيها كان يجعله يشتعل؛ نهديها الطّاهرين، شعرها الطّويل الّذي لم يعرف يومًا التّقصيف أو التّساقط الشديد، صوتُها الأنثويّ المريح، خجلها المترامي بين وجهها خاصة عندما تقول له: جسدك بحاجة إلى جسدي للتحدّث معه. لم تعرف حياتهما الجنسية أي ليلة مشؤومة.

هو يؤمنُ بالحريّة ويقدسها لأنّه يرى أنّها تهب للإنسان الفرح والسلام كما تفعل النّقود، حتى وإن لم تستطع أن تقيمه من الموت. ذات يوم قال لتلاميذه داخل المحاضرة: لا يستطيع أحد أن يوقف الإنسان عن الكذب، أو القتل، أو يرغمه على أن يعيش  الباقي من حياته دون خطيئة. سوف يرسم الرجل السكّير شارة الصليب مبتهجًا قبل أن يموت لأنه يؤمن بالله. ثمة تناقض كبير بين النفاق وبين حقيقتنا. الرجال قديمًا برعوا في قطع الرؤوس من أجل قداسة المعارك التي خاضوها باسم الرب. الجزء الأكثر صدقًا داخلنا يقول: “سأهتمّ بنفسي أولًا، إن أخبرني الطبيب بأنّ الخمر سوف يقتلني ربما أفكر في الأمر سريعًا، عندما يموت عضو داخلك فأنت في ورطة وإن متّ صغيرًا فقيرًا لن يستدعي والدك المحامي لقراءة وصيتك.”

عندما حصل ألفريد على إجازة من الجيش، أخذته أمّه لزيارة خالته، كانت تدرك كم يحبّ نانسي ابنة خالته، في ذلك اليوم تعمّدت خالته أن تقول لأمّه أمامه أنّ نانسي قد جاءتها الدّورة الشهريّة أخيرًا ويستطيع ألفريد الآن أن يتقدّم لطلب يدها؛ لقد تأخّرت دورتها الشهرية رغم بلوغها الخمسة عشر عامًا، في كل مرة كان ينظر إلى ثدييها ويقول لماذا تأخرت دورتها الشهرية! كان يمتلك سمعة طيّبة عند أسرتها كما أنّه معروف بشخصيّته الحازمة، لذلك كان يتردّد إلى منزلهم كثيرًا وكانا يتشابكان بالأصابع أمام الجميع، ارتسمت ابتسامة خجولة على وجه نانسي ثمّ أنعمت النّظر في ألفريد، كانت سعيدة جدًا وجميلة ووجد الخجل في وجهها مسكنًا له، قالت له بلهفةٍ خجولة: متى تنتهي خدمتك؟ لقد افتقدتك كثيرًا!

الآن ألفريد يستطيع أن يتقدّم لطلب يدها من أسرتها؛ ما كان ينتظره قد أتى، عندما ذهب إلى الجيش كانت تشغلُ تفكيره حتى حلم بها واقفةً بجوار سرير غرفته، كانت ترتدي قميص نوم أسود شفّاف، اقترب منها ببطء وتجول بعينه في جسدها. قالت له لقد تزوّجنا؛ افعل بي ما شئت! نامت برأسها على صدره تحسست شعر صدره الكثيف، أمسك مؤخّرتها بيده ثم أنزل سروالَها عند ركبتيها، ساعدته في خلع ملابسه دون أن يتخلّى عنها خجلها، لقد كانت دافئة جدًا ومستسلمة، حرّكت ساقيها حتى وقع سروالها على الأرض، كان شعرها الطويل يخفي حلماتها..
استيقظ ألفريد ووجد نفسه غارقًا في سائله المنويّ، ركض مسرعًا إلى ديفيد صديقه في الوحدة. كان ديفيد خادمًا في كنيسة القدّيس بطرس، أيقظه ودموعه كأنها تمضغ وجهه قال له: يقول الربّ من اشتهى امرأة بقلبه فقد زنى بها، لقد اشتهيتُ ابنة خالتي؛ إنّي أحبها ودائمًا ما أراها زوجتي، عندما أتزوّجها هل سيرفع الله عنّي هذه الخطيئة؟

ديفيد: إنّ فعل الصّواب مخدّرٌ لطيفٌ يجعلك تصدّق الأخبار السارة.!
لم  يفهمه ألفريد حينها، قال له: أيخرج ذلك الكلام من فم خادم الربّ؟!

كان سيجنّ؛ يعتنق الإنسان قضية معينة حتى يستمر، اعتناق القضايا يحوّل الحياة إلى جحيم لكنّه يجعلها تستمر. جميعنا مجرمون  لأنّ أرض أجدادنا كانت خربة وعرفتها الظلمة قرونًا. إنّ الجزء الأصعب كان عندما ذهب ألفريد إلى نانسي ليخبرها  بأنّه لن يستطيع الزواج منها وسوف يتزوج من أخرى.

“أعتقوهم من العبودية، رجالكم يحرقون الزنوج داخل السيارات وهم يلفون التبغ “

كان ألفريد يتناول وجبتَه في المطعم عندما اقتحمت عبارة مادلين أذنه بعدما دخلت في مشاجرة مع صاحب المطعم العنصريّ، لأول مرة في حياته يشعر أنه يخون خطيبته نانسي، حاول أن يبتعد عن هذا الشجار ويكف عن النظر إليها. بعد أن انتهى من وجبته ذهب مسرعًا في اتجاه باب الخروج وقبل أن يخرج فقد الوعي. تم نقله إلى المستشفى وعندما استعاد وعيه أخبره الطبيب إنه وقع في غيبوبة سكر. أصبح يتردد على المطعم ويقضي وقت طويلًا داخله بمفرده كان يبحث عنها لتكون صديقته لأنه في حاجة إلى أنثى قوية مثلها طالما أن ضميره ينهاه عن ترك خطيبته نانسي، إنه يرتعب من الجحيم الذي أعده الرب للخطاة.

لقد احتقر مُلاك المزارع عندما اعتدوا بالضرب وسط الصقيع الشديد على الفلاح موسى الذي أشعل ثورة العمال ضدهم، بعد أن ألقته الشرطة في السجن. ذهب إلى أسرته محملًا بالطعام والهدايا. استقبلته زوجته وطفلها الوحيد كان يقف بجوارها ممسكًًا بفستانها المتواضع، فتحت عينيها السوداوين الواسعتين بشدّة لتدركه، كانت تعاني من ضعف البصر. أخبرها أنّه معجب بما فعله زوجها. كان وجهها متورم وبه بعض الكدمات والجروح الطفيفة وأظافر أصابعها ممتلئة بقشر الطماطم. بعد أن ضيق عليها الخناق قالت له أن موسى قام بركلها واعتدى عليها بالضرب لأنها أيقظته بصوت عال. قال لها لا تفكري في الأمر سوف أذهب الآن. افتحي الهدايا مع صغيرك ربما تساعدك في تحسين مزاجك.

“أصبح العالم يشبه الأريكة المتآكلة؛ استوطنت الأسئلة داخلنا، الشرطة وقعت في الروتين وما زالت تجيد دق أطراف المجرمين بالمطرقة، مواعظ العجائز لم تعد مجدية، وبرغم كل ذلك سنتمهل قليلًا قبل أن نصيح أنّنا في ورطة.”

ذات يوم قال صاحب المطعم للزبائن أنّه يبحث عن زنوج للعمل في المطعم لأن البيض يكلفونه الكثير أو سيترك الأمر للشرطة. نجح ألفريد في العثور على مادلين وكانت حجته في الحديث هي موضوع الزنوج. لقد علم أنّها ابنة المليونير يعقوب، كل شيء له هدف والحياة تبدو بسيطة التفكير تجاهنا ونحن نبحث عن سعادتنا، رغم كل ذلك التباين لدينا جروح داخلية إن تركناها تتقيح سوف نموت، لقد وقعت مادلين في حبّ ألفريد ورفضت أن تكون صديقته، أخبرته أنّها تعلم أنّه يحبّها ولا يستطيع الابتعاد عنها وإن تزوّج نانسي سيكون كالأبله الذي يبتر قدمه ليعمل بالتسوّل!

كان اليوم موافقًا ذكرى زواجهم الثانية عندما وقعت مادلين على وجهها، تدفّق الدّم من أنفها وجرحت شفتيها، أسرع ألفريد إليها مازحًا معها وهو يقوم بإسعافها: سوف أقدم هذا المطبخ إلى المساءلة القانونية لأنه سمح..

قاطعته مادلين وقد تجمدت بقع الدماء على قميصها ورقبتها من شدة الصّقيع: لقد سمعت أنّ السيد يوسف الثريّ قد تقدّم لطلب يد نانسي وقد وافق والدها

-صحيح.. . لقد استقبلت الدعوة ومزّقتها، إنه يكبرها بثلاثين عامًا.

مادلين: يا إلهي، لقد كنت تكبرها بسبعِ سنوات فقط!

 

عندما تقدّم السيد يوسف لخطبة نانسي جاء الرد بالموافقة سريعًا، قال والدها أنّ الرجل مازال يتمتع بصحة جيدة. دائمًا ما أراه جاثيًا على ركبتيه أمام الهيكل، يصلّي إلى الله، أما أمها فقالت: زوجته كانت تشجعه على شرب الخمر قبل أن تموت، لكنه كان يرفض، قال لها من يفسد هيكل الله يفسده الله.
لقد أخبر ابنة عمة هي من أخبرتني بأن ذلك الرجل متدين وسوف يساعد ابنتنا نانسي في أن تصبح امرأة عاقلة.

أما نانسي فقالت: لقد تزوّج ألفريد من مادلين، أنا ساذجة؛ أعتزّ بنفسي كثيرًا لذلك لم أتوسّل إليه، لم أكن أريد أن تغلبه دموعي.. يا إلهي لو كان حدث ذلك لكنت أقدمت على شنق نفسي بعدها. لم تخض نانسي أيّة مغامرة إلا مع ألفريد، كانت تسمح له أن يقبّل رأسها، هو الشاب الذي لم يداعب نهديها يومًا في اللحظات التي جمعتهما بمفردهما؛ لقد ظلت الوصية السابعة تلاحق تلك العائلة والتي تقول لا تزن، لم تكن تراود نانسي أيّ شهوة تجاه زوجها في السنة الأولى.

في ليلة زواجهما قالت نانسي  للسيّد يوسف: أشكرك على فهمك للأمور، شدّت على يده وقبلتها، واستطردت قائلة: أرجو أن تغفر لي؛ لا بد وأن تتحسّن حالتي خلال أيام، ثم اصطحبته إلى خارج الغرفة، قال لها بصوت حزين: أعلم أعلم.. . الألم يكاد يمزقني، أنا بالغرفة المجاورة، نادي علي إذا تطلب الأمر ذلك. اضطجع السيد يوسف في تلك الليلة وحيدًا في فراشه، وقد بدا عليه الضّعف الإنساني، تقطعت أنفاسه وانفجر في البكاء. قال لنفسه: لم يقدّر الله لك أن تحيا حياة زوجية طبيعية يا يوسف، كنت تعلم ذلك منذ مولدك لكنك خالفت ما قد أراده القدير لك لذلك يجب أن تتحمّل هذا الكابوس دون أن تشكو، أنت هالك لا محالة إن لم تعد إلى ثكناتك القديمة طالبًا المغفرة من الله. لقد ولدت غنيًا تافهًا وسوف تموت كذلك، قم بفتح ملجأ جديد للأيتام واترك هذه البريئة تدخل حياة البعض لتحوّلها إلى كابوس، كان يجب أن تتعلّم درسًا من زوجتك الأولى؛ لقد حوّلت حياتها إلى جحيم حتى أدمنت الخمر بسببي.. لا بدّ أنّها كانت سعيدة لأنها نجت منّي.

في تلك الليلة شعر برغبة شديدة في تدخين سيجارة، رأى نفسه في كل زوايا الغرفة، تذكّر الأسرة الفقيرة التي زارها مؤخرًا ورأى أطفالها الصغار مكدّسين فوق بعضهم البعض، استيقظ السيد يوسف مرهقًا، ذهب إلى الحمّام واغتسل، جلس على كرسي المطبخ وما زال أنفه محتفظًا برائحة نانسي، من الجيّد أن يأتي الصباح بعد ليلة مؤلمة، تحسّس رأسَه كان ساخنًا جدًا، قام وفتح الصنبور تحت صلعته.
يوم عيد ميلاد نانسي أحضر لها جهاز ألعاب أتاري الأشهر في ذلك الوقت 2600 ومجموعة كبيرة من شرائطه، لو كانت نانسي مثل الكثير من النساء لرفضت تلك الهدية وطلبت مقابلها عقدًا من ألماس أو أي شيء ذهبي، لكنّها كانت تحبّ الأشياء غير التقليدية، كانت تقول لصديقتها: نتشابه نحن النساء في طريقة فهمنا للدّين وحاجتنا إلى رجلٍ وكفى.
لم تكن تلك المرأة الصغيرة التي تحبّ الوقوف في نفس الصّف، لم يفهما ألفريد بالشكل الكامل دائمًا ما فضّلت الصمت على الجميع.

عندما ساءت سمعة شركة أتاري بسبب لعبة pacman والتي قامت بشراء حقوق إعادة إنتاجها من شركة نامكو اليابانية. قامت الشركة بإنتاج 12 مليون شريط من اللعبة، باعت منها خمسة ملايين والباقي ذهب إلى المخازن، اقترح السيّد يوسف على نانسي شراء جهاز ألعاب جديد لكنّها بادلته باقتراح نبيل وهو أن يعطي الشركة فرصة أخيرة ربما تبتعد عن إنتاج وتطوير الألعاب السيّئة التي لا ترضيه، ظلّ طيف نانسي وسلامها يتنقّلان في كل أرجاء المنزل، أولئك الذين فقدوا حياتهم وتقلّصت أحلامهم دعوهم مع نانسي. لقد أقنعت أطفال الملجأ أن لعبة pacman على جهاز الأتاري 2600 جميلة جدًا. أصبح الأطفال في أمريكا ودول أوروبا يلقون بشرائط اللعبة في صناديق القمامة، أمّا السيد يوسف فقد دهس الشريط بحذائه، لقد توقّع جمهور الألعاب الإلكترونية أنّ شركة أتاري سوف تقوم بتطوير اللعبة كما هي على أجهزة الأركيد اليابانية، ولكن حدث العكس وأصابت خيبة الأمل الجميع.

بعد انهيار صناعة الألعاب والتي استمرّت لعدة سنوات بسبب لعبة et الهزيلة الّتي كلّفت شركة أتاري أكثر من 30 مليون دولار، انتشر الخبر في العالم كالمرض. الشركة التي احتكرت عالم الألعاب داخل قارة أمريكا الشمالية لسنوات قتلت نفسها، وبناءً على ذلك توسّعت اليابان أكثر في احتلال السوق الأمريكي وروجت لأجهزتها وألعابها عن طريق الإعلانات في كل أنحاء العالم، لكنّ نانسي ظلّت محتفظةً بجهاز الأتاري الخشبي داخل دولاب الذكريات.

أدمنت نانسي ألعاب الفيديو سواء بمفردها أو مع أطفال الملجأ، كانت ترى ألعاب جهاز السيجا الممتعة ذات ألوان ساحرة وأنه من أفضل الأجهزة  اليابانية وكانت تفضله على منافسه في ذلك الوقت السوبر نينتندو. أحبّت نانسي الإنسان؛ احترمت أفكاره، رحبت باختراعاته، كانت معه في أوقات الفشل. لم تبغض ألفريد يومًا. لقد نجحت في تغيير السيد يوسف. خاطت له قميصًا وبنطالًا على الموضة، قال لها أنا عجوز لكني سوف أرتديها على أية حال. في ذلك الوقت كانت الأخبار قد أذاعت أن شركة أتاري قامت بدفن أجهزتها وشرائط ألعابها في صحراء نيو  مكسيكو، كانت أمنية نانسي أن تذهب إلى هناك وتقوم بالحفر وتخرج الأجهزة والشرائط وتقوم بوضعها داخل متحف.

بعد وقتٍ قصير جلس السيد يوسف يتناول وجبة العشاء مع نانسي وكان وجهه مليئًا بالمفاجآت وصوته يكاد يتوارى للأبد من الشيخوخة، قال لنانسي: لقد ساعدت صديقي اليوم وسلخت معه الأرنب.. ترنّحت، وفطائر اللحم التي تناولتها معك في الصباح أصابتني بالحموضة… الزنوج داخل الملجأ هم اليد الأكثر نشاطًا، لكي يصل المرء إلى نفسه لابدّ وأن يرهقها.. نانسي سوف نسافر غدًا إلى أمريكا، هل تمتلكين معدّات حفر؟

عندما قتلت الشّهوة السيد يوسف قال لنفسه إنها زوجتي لا بدّ وأن أقوم بالأمر، ذهب إليها وقال لها أنا أحبّك، قبّلها من رأسها واحتضنها بشدة، أبعدته عنها والتحفت ببطانية سريرها، اعترت الإهانة وجه السيد يوسف لكنّه اعتذر منها وانصرف من الغرفة. كانت تعلم أنّه يريد فضّ غشاء بكارتها ليمارس معها الجنس ولكي ينجب منها ذكرًا يرثه.

أخبرتها صديقتها أنّ الأمر مؤلم جدًا، لقد كادت أن تهشّم رأس زوجها عندما قام بفضّ غشاء بكارتها، قالت لنفسها: هو يحبّ جسدي ولا يحبّني غير أنّه يقول أنّه يحبّني كي يصل إلى هدفه، تخيّلت ألفريد مكان السيّد يوسف وعلمت كم هي متناقضة وتحمّل الأمر الكثير، إنه قبل أن يعيش معي مثل الراهب ربّما  قتلتني شهوتي وأنا من أذهب إليه، نانسي تتذكر جيدًا قول الرب: فحين تبسطون أيديكم أستر وجهي عنكم وإن أكثرتم الصلاة، لا أسمع. أيديكم مليئة بالدّم.
حفزتها تلك الآية دائمًا على أن تستسلم لمصيرها.

قالت من المؤكد أنّ السيّد يوسف يريد فضّ غشاء بكارتي دون أن أتألم، ومن المؤكد أيضًا أنّني لا أريد أن أتألم عندما ألد، لقد وافقت أمّي مرغمة على أن يعطيني الطبيب الحقنة. البحار أنزل الشراع عندما تسلل الخوف إليه بعد أن هبت العاصفة وانتفضت الأمواج، إن عاد سالمًا إلى بيته سوف يشعر بسعادة لم يكن سيشعر بها إن لم تهب العاصفة وتقاتل الأمواج مركبه، يجب أن نتألم ونستسلم سريعًا لأنّ العالم سوف يتخلى عن الجميع إن لم يكن اليوم سيكون الغد. لا يهمّ في أية حفرة سقطت المهم أن تحبّ هذه الحفرة، سوف أحبّ العالم وسوف أحبّ زوجي، قد يمنع الموت الغناء أسبوعًا أو سنة لكنّه وبرغم قوته لا أستطيع إيقافه للأبد إلا إذا حصد جميع الأرواح.

الكل يعيش وفقًا لواقعه وليس لأحلامه، طلبت نانسي من الله أن يريح السيد يوسف عندما تبوّل على نفسه وامتنع عن الكلام، كانت تقول له أنا بشر تافهة لن أستطيع تغيير ما تريده الشيخوخة، أنا أعلم أن كلّ شيء في يدك، كانت تبتسم يوم جنازته للربّ لأنّه قد سمع منها وحقق طلبها سريعًا. كتبت في مذكراتها “لقد احتقرت هتلر، من غير المنطقيّ أن تكشف جرائمنا عنّا، لا بد أنّ الأمر أكبر من ذلك”.

 

أضاءت مادلين شجرة عيد الميلاد القريبة من المدفئة، وجلست تترأس المائدة وحيدةً بملابس بابا نويل، تذكّرت أن صوص الجبنة ما زال على النار، ركضت بطريقةِ العجائز نحو المطبخ وبعد عدّة دقائق خرجت حاملة في يدها وعاء الصوص، اقتربت من المائدة وسكبته على الباستا، عُرِف عنها دائمًا سحرَها ولمساتها الشقيَة في إعداد الطعام والحلوى، كان السيّد  ألفريد يخبر أصدقاءه ومعارفه أنّ مادلين لديها القدرة على أن تحوّل روث الخيول إلى وجبة ساحرة، مادلين بالنسبة لي كحبل المشيمة للجنين!

توفي السيّد ألفريد العام الماضي باحتشاء القلب، قبل أن يغادر العالم بدقائق قال لمادلين: كان لا بدّ وأن أحبّك بكل هذا العنفوان، أجهل الحياة الأخرى، لم يقم ملاكي الحارس ذات يوم بخطفي لمشاهدة الفردوس أو الجحيم لكني أعلم جيدًا أن الله محبة. وأعلم جيدًا أنّنا لسنا بضاعة رخيصة دخلت قسم التخفيضات؛ نحن بشر يا مادلين.. دائمًا ما أدهشتني عيونك وثيابك، لطالما ظننت دائمًا بأنّني سوف أموت بين أنفاس عائلتي وقد حدث، أنا أعلم أن أبناءنا مشغولون في حياتهم لكنّك تحملين رائحتهم، كانت الحياة تتجلى أمامي لكنّي كنت أمعن النظر فيك وأنت تتأرجحين مغادرة الفراش، وأنت تصلين. ولا أزال حتّى هذه اللحظة لا ترعبني فكرة الموت، أنا ولدت كي أعيش وأموت. ملامح نانسي المتغيّرة، خوفها، استسلامها. لمَ أعشقها في كلّ حالاتها؟ والرجل الجيّد هو من يواجه امرأة لن يشعر معها بالسّعادة، انت لم تخطئي يا مادلين، لا تجعلي شعورك بالذّنب يقتلك، تذكّري أن أكثر التّساؤلات شرًّا منعتنا عن حلب أبقار المزرعة.

ﺟلست مادلين ثانيةً على المائدة، نظرت إلى ساعتها لتعرف الوقت، كانت الساعة قد اقتربت من الثانيّة عشر، الدّيك الرّومي كان يتوسّط المائدة وأمامه شرائح اللّحم المتبلة، وأطباق الباستا تغزو المائدة، أحفادها يعشقون صوص الجبنة من يدها، أما الحلوى فكانت كعكة عيد الميلاد التّقليدية أساسها، بالإضافة لتارت الفراولة والتفاح والكوكيز وشيكولاتة الكريسماس البيضاء، قالت: بعد بضع دقائق سوف تجتمع عائلتي حول المائدة، سوف أتلو عليهم صلاة الشّكر وأطلب من الربّ أن يبارك الطعام، لن أخفي عنهم شيئًا.

سأقول لهم كنت كأيّ أنثى في شبابها تريدُ التهام الحياة من غيرها، سرقت جدكم من امرأةٍ ضعيفة كانت تحبّه، وتمنّيت أن يموت جارنا لأنّه كان يحقد على أبي، لقد تسبّبت في حرق كلّ حيوانات المزرعة عندما كنت ألعب معهم وأشعلت النيران، كنت قاسية مع أمي لأنّها كانت تشعر بالغيرة ظنت أن أبي يحبني أكثر منها، أخذت من العالم كل شيء لم أتنصل منه يومًا، أذكر اللحظات التي أنجبتكم فيها، في كلّ مرة  كان الموت يقترب منّي وأنفاسه الكريهة تخترقُ أنفي. في كلّ مرّة كنتُ أدفع الثّمن، أؤمن بأنّني أجيد طرح الأسئلة ولا أجرؤ على وضع الحلول.

عيد الأم ما هو إلا خدعة؛ أقسطوا من هداياكم بعد اليوم، كنت على استعداد أن أضحّي بكل أموالي مقابل أن أنجب.
ههههههه عيد الأم خدعة.
كان آخر ما كتبته مادلين في مذكّراتها منذ يومين “لم أفكّر يومًا إن كانت هناك نتيجة لكلّ ما أفعله في شيخوختي أم لا، أستيقظُ كلّ يوم وأتذكّر أنّني قد نسيت شيئًا، أقول بصوتٍ قلق وأنا أتناولُ سيجارة من علبة سجائري؛ من غير المنطقي ألّا يحدثَ كل ذلك للإنسان، أتحسّس عروق يدي البارزة، لم أعد أستطيع إسناد ذقني على المائدة لقد أعددت الطعام بمفردي بعد أن تناولت المسكنات  وأدوية الروماتيزم، حظي كتابي يتراقص في الظلام لكنّه لا يكذب على جائزة الدولة، بالفعل كان كتابًا رائعًا وقف في صفّ الكثير من الحمقى، لم يكن لديّ أشقّاء لأعرف هل كنت أسوأهم في الطباع؟ لقد كان أبي يقضي عطلتَه معنا، كانت أمي تقوم بحشر نفسها وسطنا. والآن أيها الرفاق لقد اقتربت من النهاية.

دخلت فريدة ووقفت أمام المائدة لتكون وجهًا لوجه مع مادلين

مادلين: من أنت وماذا تفعلين هنا؟!

فريدة: أنا من طلبت منها أن تحملَ الدّيك الرومي من الفرن وتضعه على المائدة منذ دقائق.

مادلين: أنا لا أتوهّم وجودك، قلت لك من أنت؟!

فريدة: ابنك الأكبر قام بتعييني لأهتمّ بك وأرعاك.

مادلين: نعم تذكّرتك.. . لقد قلت لك اذهبي وقومي بالاستحمام واتركي صوص الجبنة لي

فريدة: نعم سيدة مادلين هذا ما حدث.

مادلين: لقد أصبحت أنسى كثيرًا، قال لي ابني الأصغر منذ شهرين لأول مرة أراك ترتجفين!

أريد أن آخذ رأيك في أمرٍ ما.

فريدة: بالطبع سيدة مادلين.

مادلين: كنت أريد أن أطلع أبنائي وأحفادي الليلة على بعض الأسرار..

فريدة: أنا أرى أن تصمتي سيدة مادلين، لقد حكيتِ لي الكثير ونحن نعدّ الطعام.

قالت فريدة داخلها: “لا بدّ أن يصمت العجائز في الكريسماس”.

إعلان

اترك تعليقا