الأكل غدا بالمجان

الأكثر أم الأفضل؟!

هذا السؤال المحير هو أصعب اختبار نفسي واقتصادي يواجه العالم المعاصر، وعلى شرفه تنبت استفهامات فرعية أخرى تدور في فلك المسار الاقتصادي باحثة عن إجابات مقنعة. فهل زيادة النمو الاقتصادي وزيادة الناتج المحلي الإجمالي تجعل الناس بالفعل أكثر ثراءً؟ وفي المقابل، هل زاد حقًا متوسط الأجور العالمي؟ وماذا عن التضخم المرعب في مستوى الدين العالمي؟ وهل أخذت الرؤى الاقتصادية المستقبلية (2030) في حسبانها أخطار تنامي الديون العالمية؟ ولماذا يشهد دومًا الثلث الأخير من كل عشر سنوات انفجار أزمة مالية عالمية؟ هناك بالتأكيد أشياء خاطئة تحدث…

دعونا نتفق على أنّ كلّ شيء في ازدياد لكن بوتيرة مختلفة تخدم توازن العرج الكبير المخفي في الاقتصاد العالمي. فالدّين العامّ العالميّ بنهاية 2017 بلغ نحو 233 تريليون دولار، والناتج العالمي الإجماليّ وصل إلى 74 تريليون دولار أي أنّ نصيب كلّ فرد على وجه الأرض من الديون نحو 30 ألف دولار.

وتتكشف النسبة الصادمة للدين العالمي إلى الناتج الإجمالي العالمي والتي تساوي 317% وهي ما تقترب من 4 أضعاف حدود الأمان المعتمدة دوليًا. إذن، يعيش العالم بحق تحت إدارة اقتصاد الديون لا في ظلّ مؤشرات النمو الكاذبة وهو ما يفسر الظواهر التالية:

1 – استمرار تصدير الديون المقيمة بالدولار للعالم يخدم تمامًا السياسة الدولية تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية (مطبعة الدولار)، فمن ينفرد ويهرب بالسياسة يقبض عليه بالاقتصاد. ولعلّ نسب الديون في بعض الدول خير تفسير لذلك، فتضاعف نمو ديون الصين البالغه 7 تريليون دولار خلال الثلاث سنوات القادمة سيساهم طبعًا بالمزيد من الحيادية السياسية وتخفيف حدة التنافس الاقتصادي مع الولايات المتحدة.

إعلان

2 – أدوات الاستثمار المالية في العالم قائمة بالأصل على الديون، فعناوين النمو والاستثمار والمنح والمساعدات أغلبها عناوين تحفيزية لخلق وتنشيط جماعات أخرى من أصحاب الديون للمشاركة في الأخطاء الاقتصادية لا لتصحيحها، وربما أقرب مثال هو “مؤشرات” أسواق الأسهم التي تشهد طفرات غير مسبوقة رغم استفحال المخاطر العالمية وكأنّ لسان حالها يفصح عن انتقال وتوزيع ديون كبار المستثمرين على الطبقة الوسطى صاحبة النصيب الأكبر من الخسائر السنوية، وهو ما يتمّ تبريره فيما بعد الإعلان الرسمي عن الأزمه “بالتصحيح الضروري” آخذين وقتها بعين الاعتبار تبرير كلّ حدث لم يؤثر في حينه. بالإضافة لظهور وافد جديد من أدوات الاستثمار وهو العملات الرقمية التي تجاوزت قيمتها السوقية بنهايه 2017 نحو 774 مليار دولار لا تقل نسبة ديون المستثمرين فيها عن 35 % بتشجيع نظام الشراء الهامشي و نظام البيع على المكشوف لجذب المزيد من التداولات عليها.

3 – ليس غريبًا في هذا الأفق الغائم والمشروط بالديون أن نجد ما يقرب من 10 أشخاص فقط نصفهم أمريكيين يملكون ما يقرب من نصف ثروة سكان العالم، في الوقت الذي بلغت فيه نسبة الفقر العالمي نحو 10 %. و ليس غريبًا أيضًا رغم التطور المعرفي للبشر أن تكرر الدول نفس أخطائها الاقتصادية والسياسية وتستمر الأزمات دون حلول واضحة، لتكون بحسن الحظ مسايرة فقط للأوضاع الراهنة.

إذن مشهد الاقتصاد المكبل بـ الديون يقول أن أغلب العالم ما زال يعيش في فخ المطعم الذي يعلق باستمرار على بابه لافتة “الأكل غدا بالمجان” فيذهب يوميًا ويدفع في انتظار الغد المجاني الذي لن يأتي إلا بتعديل شروط اللافتة المخادعة، أو بسقوط تلك اللافتة تمامًا والبدء في معالجة مفاهيم الفكر الاقتصادي المدافع عن النظام المالي الحالي الذى يكثف من الاهتمام بكثرة الكم على حساب أفضلية الكيف.

وأخيرًا، هل يتنازل العالم قريبًا عن الأكثر لصالح الأفضل أم يستمر في بيع وهم الأمل المجاني؟

ربما يعجبك أيضا

 

إعلان

اترك تعليقا