الغريب والغروب (قصة قصيرة)

لقد انتقل (منصور القرشي) إلى قريتنا.. هكذا فجأة استيقظت القرية ذات يوم على وقع الخبر، لقد صار يسكن هناك على أطراف القرية حيث يخرج الوادي متلويًّا من حضن الجبل، لقد أخبرنا (سعيد الدلّال) بأنه أخيرا وجد مستأجرا للبيت القديم الذي ورثه من خالته قبل خمسة عقود و المستأجر هو كهل متقاعد جاء من العاصمة، هذه هي المعلومة الوحيدة التي نعلمها عن الرجل، ما عدا ذلك فإنّ الغموض يحيط به، لا أحد يراه سوى في الساعة التي تسبق المغيب حيث يخرج كل يوم حاملًا كرسيه القماشي فيجلس على ضفة الوادي فوق التلة الصخرية وراء البيت ليتأمل غروب الشمس موليًا ظهره ناحية بيوت القرية، لا يثير منظر الغروب البديع فينا نحن أبناء القرية أي شعور بالدهشة فقد تعودنا على رؤية الشمس وهي تذوب في الأفق الممتدّ للوادي الذي تحفّه بساتين النخيل من أحد جانبيه وسلسلة الجبال الشاهقة من جانبه الآخر، و لكن يبدو أن منصور لا يشاطرنا هذا الرأي.

ها هو ذا هنالك كعادته يعتلي التلة الصخرية التي تحتضن تحتها بقايا من ماء المطر. هل يمكنك أن تراه؟ إنّ زاوية الرؤية لا تتيح لك غير رؤية نصف وجهه الذي وخط الشيب فوديه وبدأت التجاعيد تغزو وجهه و كأنها تعمل على تثبيت ملامحه ذات النظرة الجامدة التي لا تتغير، من هذا البعد تبدو عيناه غارقتين في التأمل وكأنه يبحث عن شيء ما في الأفق البعيد الذي بدأ يحمرّ خجلًا وهو يودّع الشمس، ما الذي قد يدفع شخصًا بلغ من العمر أرذله أن يقطع المسافات الطويلة ليستقرّ في قرية نائية لأجل تأمل غروب الشمس؟!

إنها خطيئة كبرى في نظر الناس أن تعيش بينهم و لا تختلط بهم. وفي قريتنا حين يجتمع كبار السنّ عصرًا لأكل التمر وشرب القهوة ومناقشة شؤون الزراعة والريّ وتداول آخر الشائعات والنمائم فإنه يثير حنقهم أن يعتزل مجلسهم رجل من سنهم. لقد مضى شهران على قدومه؛ وفي لأن حياة القرى يكثر فيها وقت الفراغ فإن الناس يبحثون عن أتفه الأشياء لينسجوا حولها الشائعات، في البداية قيل أنه هارب من جريمة شرف، و هو أمر غير منطقي فجرائم الشرف عادة يرتكبها الشبان الطائشون الذين لا يدركون معنى الحب بينما الرجل يبدو من ملامحه أنه قد خاض قصص حب كثيرة لدرجة الملل، ثم قيل أنه مدسوس من قبل الأمن، ولكن ما الذي يريده الأمن من هذه القرية التي كادت أن تسقط سهوًا من صفحات التاريخ والجغرافيا؟ آخر الشائعات تقول أنه يمارس السحر والشعوذة بداخل البيت القديم ثم يخرج عند مغيب الشمس ليستحضر هالة الجانّ التي تشتدّ عند الشفق و الغسق. بل هنالك من أقسم أنه رآه يعود قبل أذان الفجر من مجلسه على التلة الصخرية، وتم استغلال هذه القصة الأخيرة لربطها بالعامل الآسيوي الذي أحضره منصور مؤخرًا للقيام بعملٍ ما داخل البيت لم يدرِ أحد طبيعته بالضبط، النتيجة أنّ شائعة جديدة ظهرت تفيد بأنّ الرجل يخرج ليلًا والناس نيام إلى المقبرة ليقوم بنبش قبور الموتى وأخذ أعضائهم، وأنّ لديه مدافن مرعبة في باحة منزله قام العامل بحفرها له، وأنّه يمارس في خلواته طقوس شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان.

أما الشباب في قريتنا فلهم مكان مختلف يجمعهم وقت العصر؛ إنه ملعب القرية.. نعم، إنّ كرة القدم اليوم أصبحت تقوم مقام (السبلة) التي كانت تجمع رجال قريتنا قديمًا، لا ينافسها في ذلك إلا مقهى (حبيب) الذي يجمعنا بعد صلاة المغرب، من موقعي هذا في الملعب الترابي اعتدتُ رؤية منصور جالسًا هناك على التلة الصخرية المطلة على الوادي، تعودنا مؤخرا على أن نعتبر وصوله مع مقعده إشارة إلى بدأ اللعب و عدم استقبال المتأخرين، بالنسبة لي كان يبدو كلاعب أساسي لا يحلو اللعب في غيابه، ولكن اليوم وللمرة الأولى منذ شهرين كان غائبًا ولم أره وهو يشيّع الشمس إلى مثواها في نهاية اليوم، لعله تأخر وسيأتي لاحقًا، تجاهل رفاقي الأمر في غمضة عين و بدانا اللعب، اتخذت دوري اليوم في اللعب كحارس للمرمى ولكن لم أستطع التركيز في اللعب وأنا أختلس النظرات بين الحين و الآخر إلى التلة البعيدة، ما الذي يشدني إليه و يملؤني قلقا عليه لهذه الدرجة؟ و بسبب اشنغال بالي فقد تلقى مرماي العديد من الأهداف ومعها سيلًا من الشتائم من زملائي في الفريق، ليست الشتائم أمرًا ذا بال فأحيانًا يصل الأمر إلى العراك بالأيدي بيننا ولكننا نترك الضغائن والخصام حين نغادر الملعب ونعود أصدقاء حينما نسهر ليلًا عند مقهى حبيب، مرّ نصف الوقت على بدء اللعب ولم يظهر منصور، من موقعي البعيد هذا رأيت بصعوبة حركة وجلبة في عند منزله، هل حدث له مكروه؟ لم أتمالك نفسي من القلق أكثر فانهال عليّ سيل من الأهداف وتلتها لعنات السخط المتزايدة من زملائي، لا يساورني الشك في أنّ الخسارة ستكون من نصيبنا اليوم بكل جدارة واستحقاق.

ما إن انتهى اللعب قبل الأذان بدقائق حتى أسرعت هاربًا من شماتة الشامتين ولوم اللائمين باتجاه منزل منصور، اتخذت الطريق الأقصر المحاذي للساقية والذي يمرّ بجانب مقبرة القرية، وحين انعطفت ناحية البيت وجدت الهدوء يعمّ المكان ولم يكن هنالك أثر لأي تحركات، بل بدا المكان صامتًا لدرجة خانقة وكأنّ ساكنه قد رحل عنه.

إعلان

لم أذهب تلك الليلة إلى المقهى مع أصحابي، ماذا حلّ بي ليشغل منصور تفكيري؟ علي أن أجد طريقة لأصرف التفكير عنه،أمسكت بجهاز حاسوبي المحمول لأشاهد أحد المسلسلات الأجنبية ذائعة الصيت الذي سبق لي أن جمعت حلقاته ولم أشاهده بعد، لم تفلح الأحداث المشوقة للمسلسل من أن تطرد منصور خارج تفكيري، خرجت إلى صالة المنزل حيث كان إخوتي يقومون بأداء واجباتهم المدرسية وأمي تشاهد نشرة الأخبار، قبّلت يدها وسألتها مباشرة عما تعرفه عن البيت القديم لسعيد الدلال، أخبرتني أنها ورثة من خالته التي توفت حزنًا وكمدًا على فراق ولدها ذي السنوات العشر، غادر الولد إلى السوق صباح أحد الأيام ولم يعد بعدها، كان ذلك قبل خمسين سنة. وهنالك من يقول أنه استقلّ قافلة متجهة إلى البحرين، حيث كان الكثيرون يذهبون للبحث عن لقمة العيش في فترة الستينات.

حينما حان موعد صلاة العشاء خرجت نحو المسجد وتعمّدت أن أسلك الطريق الذي يمرّ ببيت منصور، كانت الأضواء مطفأة اليوم على غير العادة، في المسجد جلست قرب سعيد الدلال وسألته عن الرجل فأخبرني أنه قد غادر صباح اليوم ولن يعود، طلبت منه أن يسمح لي بدخول البيت فنظر إلي بنظرات الشك ولم يجبني، بعد الصلاة طلب مني أن أرافقه واتجهنا إلى البيت، حينما دخلنا البيت وأضأنا جميع غرفه وجدته خاليًا إلا من لوح رسم تمت تغطيته بستارٍ وُضع في منتصف صالة الجلوس الخالية، أزحت الستار عنه لتبدو عليه لوحة ساحرة تصوّر غروب الشمس، أحسست بالرهبة من جمال اللوحة وشعرت بشيء من الألفة، إذ بدا لي أنّ فيها لمحة من غروب شمس قريتنا، بالنسبة لشخص مثلي لا يفقه شيئًا في الرسم وكلّ إنجازاتي الفنية هي رسم مثلثات متداخلة تمثل الجبال وفوقها دائرة ذات أشعة تمثل الشمس و علامة المد (~) تمثل طيرًا، إلا أنّ اللوحة كانت طافحة بالجمال بل إنّ الجمال وصف لا يحيط بروعة اللوحة. لمحت ورقة صغيرة مكوّرة أسفل لوح الرسم فانحنيت لألتقطها ثم بسطتها، إنها عملة نقدية قديمة جدًّا، أمعنتُ النظر فيها فوجدت مكتوبًا عليها (مملكة البحرين) وأسفلها سنة الطباعة التي تعود إلى الستينات.

إعلان

اترك تعليقا