مترجم: مفهومَي القبلي والبعدي بين التجربة والعقل المحض

يُستعمل مصطلحا القبلي والبعدي للدلالة بشكل أساسيّ على الأساس الذي تعرف به القضية. وتكون القضية المطروحة قبلية إذا أمكن العلم بها بشكل مستقلّ عن التجربة، باستثناء تجربة تعلّم اللغة التي يعبّر بها عن القضية. في حين تعرف القضية بأنها بعدية إذا أمكن العلم بها عن طريق التجربة. فمثلًا، القضية التي تقول: “كلّ أعزب غير متزوج” هي قضية قبلية، بينما تعدّ القضية: “إنها تمطر الآن في الخارج” قضية بعدية.

إنّ جوهر الاختلاف بين المصطلحين هو ابستمولوجيّ في الدرجة الأولى ويرتبط بشكل وثيق بتبرير سبب الاعتقاد بضربٍ من المعرفة. فعلى سبيل المثال، الشخص الذي يعرف القضية القبلية: “كلّ أعزب غير متزوج” لا يحتاج (لا هو ولا أيّ أعزب) إلى تجربة عدم الزواج لإثبات هذه القضية. وعلى النقيض مما سبق، إذا عرفت أنها تمطر في الخارج فإنه لابدّ من تصديق معرفة هذه القضية بالاحتكام إلى تجربة شخص ما حول الطقس. وتجدر الإشارة إلى أنه ينبغي عدم الخلط بين اختلاف القبلية والبعدية وبين ثنائية الضروريّ والمشروط أو ثنائية التحليليّ والتركيبيّ. ورغم كلّ ذلك، فإنّ الفرق بين القبلي والبعدي لا يخلو من التناقض؛ حيث أنّ النقاط المحورية كانت تتركز في كيفية تعريف مفهوم التجربة التي يتشكّل من خلالها هذا الفرق وفي أيّ معنى توجد المعرفة بعيدًا عن التجربة.

تطرح القضية الثانية أسئلة مهمة بما يتعلق بالأساس الفعلي للمعرفة القبلية والتي حاول كثير من الفلاسفة الإجابة عنها؛ إذ نرى كَانط، مثلاً، يُعلي من شأن الشكل الفائق للتبرير الذي يتضمن الفطنة المرتبطة بالتجربة والتي لا تنبثق عنها. تزوّد هذه المقالة القارئ بوصف مبدئيّ للمصطلحين القبلي والبعدي قبل توضيح الفرق بين اختلاف المصطلحين وما يشيع خلطه مع هذين المصطلحين. ويراجع المقال كذلك التناقضات الرئيسة المحيطة بالموضوع ثم يستكشف تفسيرات تعارض أساسًا فعليًّا لمعرفة قبلية يبحث عن تجنّب تفسير يعتمد على العقل المحض للتبرير بشكل استثنائي.

1 وصف مبدئي:

يُطلق مصطلحا القبلية والبعدية بشكل أساسي على الطريقة أو طبيعة الأساس الذي يتمّ به معرفة قضية ما. وبشكل عام، فإنه يمكن معرفة القضية القبلية بشكل مستقلّ عن التجربة ويمكن معرفة القضية البعديّة عن طريق التجربة.
إنّ الاختلاف بين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية يتداخل بشكل كبير مع الاختلاف بين المعرفة التجريبية وغير التجريبية. وينطبق الاختلاف بين القبلي والبعدي على أمور غير طرق المعرفة، كالقضايا والحجج مثلًا، حيث أنّ القضية القبلية يمكن معرفتها قبليًا والحجج القبلية هي التي يمكن معرفة مقدماتها قبليًا. وبالمثل، فإنّ القضية البعدية يمكن معرفتها بعديًا [على أساس التجربة] والحجج البعدية يمكن معرفة مقدماتها بعديًا. وتعتبر الحجة بعدية إذا تكوّنت من مقدمات قبلية وبعدية. كما ينطبق اختلاف القبلي والبعدي على المفاهيم؛ حيث أنّ المفهوم القبلي يمكن اكتسابه بشكل مستقلّ عن التجربة ويحتمل أن تكون فطرية إلا أنه لا يلزمها أن تكون كذلك. بينما يتطلب المفهوم البعدي تجربة.

إنّ عنصر المعرفة الذي يرتبط به الفرق بين القبلي والبعدي هو كذلك عنصر التبرير والإباحة وهما المصطلحان المترادفان اللذان يطلقان على العنصر الرئيسي للمعرفة الكامنة وراء المعتقد الصحيح. فالقول بأنّ شخصًا يعرف قضية قبلية يعني القول بأنّ تبريره لتصديق هذه القضية لا يخضع للتجربة. وحتى نبرّر تصديقنا شيئًا ما يجب أن نملك سببًا معرفيًا لتدعيم هذا التبرير؛ أي سببًا للاعتقاد بأنه صحيح، ووفقًا للمفهوم التقليدي للتبرير.

إعلان

إنّ كون تصديق قضية ما مبرّر قبليًا يقتضي أنّ لدينا سببًا لتصديق أنّ هذه القضية صحيحة وأن لا يكون هذا السبب نابعًا من تجربة. وعلى نقيض ذلك، فإنّ كون تصديق قضية ما مبرّر بعديًا يقتضي بأنّ لدينا سببًا للتفكير بأنّ هذه القضية صحيحة وأنّه نابع من تجربة. تشمل الأمثلة على التبرير البعديّ للذكريات، والمعتقدات الحسية، والاستبطانية بالإضافة إلى التصديق بنتائج العلوم الطبيعية.

فاعتقادي مثلًا بأنها تمطر الآن، وأنني أشرفت على امتحان هذا الصباح، وأنّ البشر يميلون إلى بغض الآلام، وأنّ الماء يتكوّن من ذرّتين هيدروجين وذرة أوكسيجين، H2O، وأنّ كون الديناصورات وُجدت يومًا ما هي كلّها أمثلة على تبريرات بعدية؛ حيث أنّ لديّ أسبابًا جيّدة تدعم كلّ هذه الادعاءات وهي نابعة من تجربتي الشخصية أو تجارب الآخرين.

تقف هذه الاعتقادات كطرف مناقض للاعتقادات التالية: كلّ أعزب غير متزوّج، للمكعّب ستة أضلاع، إذا كان اليوم هو الثلاثاء فهو ليس الخميس، الأحمر هو لون، سبعة زائد خمسة يساوي إثنَي عشر. إنّ لديّ أسبابًا جيّدة للتصديق بأنّ كلًّا من هذه الادعاءات صحيح إلا أنه لا يظهر أنّ كلًّا من هذه الادعاءات نابع من تجربة. فبدلًا من ذلك، أستطيع رؤية أو استيعاب حقيقة هذه الادعاءات لمجرد الاطلاع على محتواها.

إنّ وصف تبرير قبليّ بأنه مستقلّ عن التجربة وصف سالب بالكليّة؛ فلا شيء من الأساس الموجب الفعلي في كشف هذه التبريرات. بيد أنّ الأمثلة المبيّنة أعلاه على التبرير القبلي تشير إلى وصف أكثر إيجابية؛ أي أنّ التبرير القبلي ينبثق من العقل المحض. فحالما يتمّ فهم المصطلحات المرتبطة بالقضية فالظاهر اعتمادًا على العقل المحض أنه بما أن إذا كان اليوم الثلاثاء فبالتالي هو ليس الخميس، وعندما تضاف خمسة إلى سبعة فإن الناتج يكون اثني عشر. وهكذا، يمكننا صياغة التبرير القبلي كالتالي: تصبح قضية ما مبررةً قبليًا إذا كان لدى صاحبها سببٌ للاعتقاد بأنها صحيحة.

إن هذه الاعتبارات المبدئية لاختلاف القبلي والبعدي تهيئ عددًا من سبل الدراسة المهمة. فمثلًا، على أيّ نوع من التجربة يعتمد التبرير البعديّ؟ بأيّ وجه يعتبر التبرير القبلي مستقلًا عن هذا النوع من التجربة؟ وهل يتوفر تفسير واضح معرفي للخاصية الموجبة التي يحملها التبرير القبلي بحيث يوضح كيفية توليد العقل المحض للأسباب المعرفية؟ وقبل الدخول في هذه القضايا، يجب التفريق بين اختلاف القبلي والبعدي وبين مفهوم التحليلي والتركيبي ومفهوم الضروري والشرطي.

2 اختلاف التحليل والتركيب:

لقد تمّ توضيح اختلاف التحليل والتركيب بطرائق كثيرة، فبينما اعتبره بعضهم مضللًا من الأساس إلا أنه ما زال معمولًا به عند عدد من الفلاسفة في الوقت الحاضر. إنّ أحد الطرق المعتمدة في التفريق بينهما هي التي أسسها كَانط 1781 التي تتجه نحو مفهوم الاحتواء المفاهيمي. بناءً على هذا التفسير، تعدّ القضية تحليلية إذا كان مفهوم الموضوع متضمَّنًا في محتوى المحمول. فمثلًا، إنّ القضية القائلة بأنّ “كلّ أعزب غير متزوج” هي قضية تحليلية لأنّ مفهوم عدم الزواج يتضمنه مفهوم العزوبة. وعلى نقيض ذلك، فإنّ مفهوم الموضوع يضيف إلى مفهوم المحمول في القضايا التركيبية. فعلى سبيل المثال، إنّ الادعاء القائل بأنّ الشمس تبعد 93 مليون ميل عن الأرض هو قضية تركيبية لأنّ مفهوم الوقوع على بعد مسافة معينة من الأرض يضيف إلى مفهوم الشمس أو يذهب إلى ما وراء المفهوم.

هنالك طريقة أخرى للتفريق بينهما وهي القول بأنّ قضية ما هي تحليلية إذا كانت حقيقتها تعتمد بالكامل على تعريف مصطلحاتها أي أنّ صدقها يكمن في التعريف. في حين لا يعتمد صدق القضية التركيبية على التقاليد اللغوية فحسب، وإنما على طريقة النظر إلى العالم من وجهة نظر معينة. فالادعاء القائل بأنّ “كلّ أعزب غير متزوج” هو صادق بالاعتماد على تعريف الأعزب. بينما لا يعتمد صدق الادعاء حول مسافة الشمس من الأرض على معنى مصطلح الشمس فحسب، وإنما على ماهية هذه المسافة.

ساوى بعض الفلاسفة التحليل بالقبلي والتركيبي بالبعدي؛ حيث يوجد هنالك وجه من الصلة الوثيقة بين هذه المفاهيم. فمثلًا، إذا كان صدق قضية ما متعلق بتعريف مصطلحاتها فمن غير المحتمل أن يتطلب صدق هذه القضية تجربةً؛ فالنظر بمنطقية وحده يفي بالغرض. ومن ناحية أخرى، إذا كان صدق قضية ما يعتمد على طريقة النظر إلى العالم فإنّ معرفتها تتطلب دراسة تجريبية. ورغم هذه الصلة الوثيقة، فإنّ هذين الاختلافين غير متطابقين لأنّ الفرق بين القبلي والبعدي ذو طبيعة إيبيستومولوجية [معرفية]، بمعنى أنه يتعلق بالكيف أو الأساس الذي تتم بموجبه معرفة أو تصديق قضية ما بطريقة مبررة. أما الفرق بين التحليلي والتركيبي فيناقض ما سبق؛ إذ أنه اختلاف منطقي أو دلالي ويطلق على ما يجعل القضية صادقة أو العلاقات المحددة الناشئة بين المفاهيم التي تشكل هذه القضية. وما يدعو للتساؤل أكثر من ذلك هو فيما إذا كان القبلي يتداخل مع التحليلي والبعدي يتداخل مع التركيبي.

أولًا، فقد اعتقد الكثير من الفلاسفة أنّ هناك بعض الحالات التي يكون فيها التبرير قبليًّا تركيبيًا. لنتأمل مثلًا الادعاء القائل بأنه إذا كان شيء ما لونه أحمر بالكامل فلا يمكن أن يكون أخضرًا بالكامل. إنّ التصديق بهذا القول هو في الظاهر مبرّر بشكل مستقلّ عن التجربة؛ فبالتفكير ببساطة حول ما يعنيه أن يكون شيء ما أحمرًا بالكامل؛ حيث أنه من الواضح أنّ شيئًا ما بهذه الخاصية لا يمكن أن يكون أخضرًا بالكامل في الوقت نفسه. إلا أنه يبدو جليًا بأنّ القضية التي هي نحن بصددها ليست تحليلية؛ إذ أنّ كون الشيء أخضرًاً ليس جزءًا من تعريف كونه أحمرًا ولا متضمَنًا في مفهومها. وإذا كانت أمثلة كهذه يتمّ أخذها بالقيمة الاسمية فإنه من الخطأ الظن بأنّ كون قضية ما قبلية يشترط بالتالي أن تكون تحليلية.

ثانيًا: إنّ التصديق باعتقادات تحليلية معينة هو مبرر أحيانًا عن طريق الشهادة فتصبح بعدية كنتيجة لذلك؛ فربما يصدق شخص ولو بشكل نموذجي أنّ للمكعب ستة أضلاع لأن هذا التصديق قدّمه له أحد ما يعرف هو أنّ الذي قدّمه هو وسيط معرفيّ موثوق. إن اعتقادًا كهذا يعتبر بعديًا لأنه منطقي بحكم تجربة استقبال هذا الشخص لشهادة الوسيط ومعرفته بموثوقيتها. وهكذا فمن الخطأ أيضًا الظن بأنه إذا كانت القضية بعدية فإنه لا بد لها أن تكون تركيبية.

ثالثًا: ليس هناك سبب مبدئيّ للظن بأنّ كل قضية يمكن معرفتها؛ إذ أنّ بعض القضايا التحليلية والتركيبية لا يمكن معرفتها بالنسبة لوسطاء معرفيين مثلنا على الأقل. فعلى سبيل المثال، ربما نكون غير قادرين على فهم المعاني أو الخلفيات المدعمة لبعض القضايا بطريقة المفاهيم أو القوانين. وعليه، فإنّ كون القضايا تحليلية أو تركيبية لا يقتضي أن تكون قبلية أو بعدية. هذا بدوره يطرح سؤالًا حول المفهوم الذي تمكن فيه معرفة هذا القول إذا كان ما يميزه هو أن يكون إما قبليًا أو بعديًا، ولمن سيكون هذا القول ممكن المعرفة؟ لأيّ إنسان منطقي أم للأكثرية، أم لله وحده؟ ربما لا يكون هناك أي طريقة منضبطة بالكامل للإجابة عن هذا السؤال. على الرغم من ذلك، فمن الخطأ تعريف ما يمكن معرفته بشكل واسع على أنه ما يميز قضية ما هو كونها قبلية أو بعدية إذا أمكنت معرفتها من عدد محدود جدًا من الناس أو ربما غير البشر أو حتى كائن إلهيّ؛ فكلما ضاق تعريف ما يمكن معرفته، كلما كانت احتمالية أن يكون القضايا التي يمكن معرفتها لا يمكن معرفتها أكبر. إنّ افتراض جولدباك القائل بأنّ “كلّ عدد صحيح هو ناتج جمع عددين أوليين” يرجع إليه على أنه مثال على قضية لا يمكن معرفتها عند أي إنسان [kripke [1972.

3 اختلاف الضروري والشرطي:

تعرف القضية الضرورية بأنها القضية التي تبقى قيمة الحقيقة ثابتة فيها في شتى الحالات. وهكذا فإن القضية الصادقة بالضرورة هي التي تبقى صادقة في كلّ حالة محتملة. أما القضية الكاذبة بالضرورة فهي التي تبقى كاذبة في كل حالة محتملة. وعلى نقيض ما سبق، فإنّ صدق القضية الشرطية غير ثابت في كل الحالات، لأن أي قضية شرطية لها حالة تكون فيها صادقة على الأقل، وحالة أخرى تكون فيها كاذبة على الأقل.

إنّ الاختلاف الضروري والشرطي صلة وثيقة باختلاف القبلي والبعدي؛ إذ أنه من المنطقي توقع إمكان معرفة الادعاء قبليًا إذا كان معلومًا بالضرورة؛ حيث أنّ التجربة لا تستطيع أن تخبرنا شيئًا عما يجب أو ما لا يجب أن يكون، لأنها تكتفي بإخبارنا عن العالم الواقعي وتصف لنا الحالة كنتيجة لذلك. ومن ناحية أخرى، فإنّ القضايا الشرطية يمكن معرفتها بعديًا لأنه لا يتضح كيف يمكن أن يخبرنا العقل المحض أي شيء عن العالم الواقعي إذا ما قورن مع العوالم الأخرى الممكنة.

إنّ هذه المفاهيم على ارتباطها، فإنها لا تتكافأ؛ إذ أنّ اختلاف الضروري والشرطي ذو طبيعة ميتافيزيقية تتعلق بالحالة النموذجية للقضايا. وبذلك يظهر اختلافها جليًا عن اختلاف القبلي والبعدي ذو الطبيعة الإيبيستومولوجية. ولذلك، حتى لو كان الاختلافان متطابقين بعض الشيء، فإنهما لا يمكن أن يتطابقا. إلا أنّ هناك أسبابًا تدفع إلى التفكير بعدم التطابق التام؛ حيث جادل بعض الفلاسفة وجود قضايا شرطية قبلية مثل “كريبت” 1972، “وكيتشر” 1980. وكمثال على الصدق في هذا الصدد هي القضية القائلة بأن الطّول المعياري للقضيب الذي يتم به قياس الأمتار في باريس هو متر واحد. يبدو أنّ معرفة هذا القول ممكنة قبليًا استنادًا إلى فكرة أنّ القضيب يُعَرِّف طول مِتر واحد. إلا أنه يبدو أنّ هناك حالات تكون فيها هذه القضية كاذبة كإصابة قضيب المتر في حالات أو يتعرض للحرارة المرتفعة. وقد تمّ عرض حجج على غرار ما سبق تدافع عن فكرة أنّ هناك قضايا ضرورية بعدية صادقة. لنأخذ مثلًا قضية أنّ الماء ذرتان هيدروجين وذرة أوكسجين. نفهم أنّ هذه القضية صادقة في شتى الحالات؛ أي أنّ الماء لديه التركيب الجزيئي H2O في كل الأحوال. إلا أنه يبدو أنّ هذه القضية يمكن معرفتها بالوسائل التجريبية وكنتيجة لذلك فهي بعدية.

اختلف الفلاسفة على ما يصنع حالات من هذا النوع، لكن إذا كان تفسير الفلاسفة أعلاه صحيحًا فإنّ كون القضية ضرورية لا يلزم أن تكون قبلية، وكونها بعدية لا يلزم أن تكون شرطية. وأخيرًا، وعلى إثر الخلفيات التي تمت مناقشتها، فإنه لا يوجد أسباب واضحة لإنكار عدم إمكانية معرفة قضايا ضرورية وشرطية معينة في المفاهيم المرتبطة. وإذا وجدت قضايا كهذه فإن القضايا التحليلية لا تتطابق مع القضايا الضرورية، ولا تتطابق القضايا التركيبية مع القضايا الشرطية.

4 المعنى المناسب للتجربة

أشرنا في القسم الأول أعلاه إلى أنّ التبرير البعدي نابع من تجربة في حين أنّ التبرير القبلي مستقلّ عنها. ولمزيد من التوضيح حول هذا الاختلاف فلابدّ من التعمّق أكثر لسبر غور المعنى المناسب للتجربة. إذ لا يوجد أيّ وصف يتبنّاه ويتفق عليه الجميع حول نوع التجربة التي نحن بصددها، إذ حثّ الفلاسفة بدلًا من ذلك على عدم وصفها. فعلى سبيل المثال، يتفق الكثير منهم على عدم مساواة التجربة بالتجربة الحسية لأن هذه المساواة تستثني عددًا من مصادر التبرير البعدي مثل الذاكرة والتأمل الذاتي. وتستثني كذلك ظواهر إدراكية مثل الفطنة والتوارد العقلي إن وجدت. تُعتبر استثناءات كهذه مثيرة للجدل نظرًا لتشابه معظم حالات تبريرات الذاكرة والتأمل مع التبريرات الحسية أكثر من تشابهها مع التبريرات القبلية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الخطأ وصف التجربة بشكل واسع لتشمل أي نوع من الظواهر أو العمليات العقل والوعي فحتى نماذج التبريرات القبلية تتضمن تجربة بهذا المعنى؛ إذ أنّ هذا ما يشير إليه مفهوم الفطنة المنطقية التي يوليها كثير من الفلاسفة دورًا أساسيًا في تفسيرهم للتبريرات القبلية. ويصف هؤلاء الفلاسفة التبرير القبليّ على أنه يتضمن الرؤية المنطقية أو الإدراك لصدق الادعاءات القبلية أو ضرورتها. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ هناك فرقًا واضحًا بين التبرير القبلي والتبرير البعدي الذي قد يُستعمل لتحديد مفهوم التجربة المناسب. إنّ الأشياء المدركة هي خصائص في العالم الواقعي قد تحضر أو لا تحضر في العوالم الأخرى في أوضح التبريرات البعدية. وعلاوة على ذلك، فإنّ العلاقة بين هذه الأشياء واحالات الإدراكية التي نحن بصددها سببية على ما يبدو إلا أنه ليس هناك أي من هذه الأوضاع ما هو مرضٍ في أوضح التبريرات البعدية. ففي حالات من هذا القبيل، تبدو الأشياء المدركة للوهلة الأولى مجردة وموجودة في كل الحالات كالخصائص والعلاقات. وعلاوة على ذلك، لا يتضح كيف تكون العلاقة سببية بين هذه الأشياء والحالات الإدراكية التي نحن بصددها. ففي حين تضع هذه الفروقات أرضية جيدة لوصف مفهوم التجربة المناسب، فإن وصفًا من هذا القبيل سيستبعد -بصفته مبدأً- احتمالية ظهور قضايا قبلية شرطية وأخرى بعدية ضرورية. بيد أنّ وجود وصف بديل أو معدّل يبقى أمرًا مرغوبًا فيه لأنّ كثيرًا من الفلاسفة فكّروا باحتمالية وجود هذه القضايا أو وجودها فعلًا. يمكننا القول بكلّ هذا بمزيد من الثقة. فهل يكون هذا التعريف الكافي للتجربة واسعًا بما يكفي لنضع في دائرته أمورًا كالذاكرة والتأمل أم ضيقًا بما يكفي لينحصر في نماذج التبريرات القبلية التي يمكن القول بأنها  مستقلة عن التجربة؟

قد يعجبك أيضًا

5 المعنى المناسب لما يستقل:

إن من الأمور المهمةأن ندرس بتفصيل أكثر الطريقة التي يعتقد فيها أن التبرير القبلي مستقل عن التجربة; إذ أن الوصف المعياري وصف سالب دون شك. وهناك طريقتان يصدق فيهما القول غالبًا بعدم استقلالية التبرير القبلي عن التجربة. يبدأ أولهما بملاحظة وجوب فهم الشخص للفكرة إذا أراد أن يبرر تصديقها قبليًا. والمنطق في ذلك هو أن التجربة مطلوبة لامتلاك المفاهيم الضرورية لفهم الكثير من الادعاءات المبررة قبليًا، كَنت 1781. لنتأمل ثانية فكرة أنه إذا كان شيءٌ ما أحمرًا بالكامل فهو ليس أخضرًا بالكامل؛ إذ أنه يجب عليّ امتلاك مفاهيم الأحمر والأخضر لفهم هذه القضية والتي تتطلب مني في البداية وجود التجربة البصرية لهذه الألوان. وعلى الرغم من ذلك، فمن الخطأ أن نستنتج من ذلك أن التبرير الذي نحن بصدده  ليس مستقلًا بشكل أساسي عن التجربة. إنّ السبب الواقعي الذي يدفعني إلى التفكير بصدق القضية لا ينبع من التجربة ولكن بدلًا من ذلك ينبع من العقل المحض أو التفكير المنطقي أو التفكير في العلاقات أو الخصائص التي نحن بصددها. علاوة على ذلك، فإنّ فكرة التبرير المعرفي تقتضي فكرة الفهم. وفي النظر فيما إذا كان الشخص يملك سببًا معرفيًا لتدعيم اعتقاداتها، فإنها بالضرورة قد فهمت القضية المصدقة. لذلك، تعتبر التجربة أحيانًا شرطًا مسبقًا للتبرير القبلي. ثانياً، يتفق الكثير من الفلاسفة المعاصرين على اعتماد التبرير القبلي على التجربة بالمعنى السالب؛ حيث يمكن للتجربة التقليل من شأن تبريرات من هذا النوع أو حتى إبطالها. وهذا بدوره يعارض الفلاسفة التاريخيين الذين تبنوا الرأي القائل بعصمة التبرير القبلي من الخطأ. في حين ينكر معظم الفلاسفة المعاصرون هذه العصمة إلا أن عصمة التبرير القبلي لا تقتضي أن تقلل التجربة من شأن تبريرات من هذا القبيل. ومن المحتمل عرضة التبرير القبلي للخطأ غير أنه ليس لدينا أي سبب في أي حال من الأحوال للتفكير بأن التبرير القبلي يتم تقليله بالتجربة. وعلاوة على ما سبق, فإن عصمة التبرير القبلي من الخطأ متوافقة مع احتمالية إبطال التبرير أو التقليل من شأنه فقط عن طريق التبريراتالقبلية. وعلى الرغم من ذلك, تظهر حالات تواكب التيار في تجاوز التجربة للتبريرات القبلية أو التقليل من شأنها. فعلى سبيل المثال, لنفترض أنني أحضر كشف الضرائب وأضيف أرقامًا من عقلي إلى الرقم الأصلي؛ إذ أقوم بذلك بعناية وأصل إلى ناتج مفترض معين. إنّ اعتقادي عن هذا الناتج هو مبرر قبليًا. وعلى الرغم من ذلك، إذا قررت تفحص إضافاتي بالآلة الحاسبة والوصول لناتج مختلف فإنني بالتأكيد سأعدل اعتقادي حول الناتج الأصلي وأفترض أنني أخطأت في حساباتي الأولية. وهكذا يبدو جلياً أن الاعتقاد المعدل مبرر وأن هذا التبرير هو تبرير بعدي لأنني مطّلع بالتجربة على قراءة الآلة الحاسبة ولحقيقة أنها آلة موثوقة. من الواضح أنّ هذه حالة يتمّ فيها تصحيح التبرير القبلي بل وحتى إبطاله. ورغم ذلك، فمن الأهمية بمكان ألا نبالغ في اعتماد التبرير القبلي على التجربة في حالات كهذه لأن التبرير الأولي الإيجابي الذي نحن بصدده قبلي بالكامل. فعلى سبيل المثال، اعتقادي الأصلي بالناتج المناسب اعتمد بالكامل على حساباتي العقلية واعتمدت على التجربة بالمفهوم الذي يقضي باحتمالية إبطال التجربة للتبرير أو التقليل من شأنه. إن العلاقة السالبة في اعتماد التبرير القبلي على التجربة يضيف شيئًا من الشكّ إلى الرأي القائل بأن التبرير القبلي مستقل عن التجربة.

6 أوصاف موجبة لمفهوم القبلي:

لقد تمّ تعريف التبرير القبلي تعريفًا سالبًا على أنّه مستقلّ عن التجربة وبشكل إيجابي على أنه يعتمد على العقل المحض. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الضروري قول المزيد حول الوصف الإيجابي لأنه ظلّ أقل توضيحًا مما يُفترض ولأنه ليس الوصف الإيجابي الوحيد المتوفر. إذن، فكيف يمكن للعقل أو التفكير المنطقي بحد ذاته أن يؤدي إلى الاعتقاد بصدق قضية محددة؟ إنّ أكثر الردود شيوعًا هو الاحتكام إلى الفطنة المنطقية؛ إذ جادل الفلاسفة عبر التاريخ مثل: ديكارت, 1631, وكَانط 1781 بالإضافة إلى فلاسفة معاصرين من أمثال: بونجور 1998 بأنه ينبغي فهم التبرير القبلي بشيء من الرؤية المنطقية أو الفهم لصدق أو ضرورة قضية ما في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، لنتأمل الادعاء القائل بأنّ “تيد أطول من ساندي وساندي أطول من لويس، فتيد أطول من لويس”. فحالما أفهم معنى المصطلحات ذات الصلة أستطيع بطريقة منطقية محضة فهم صدق النتيجة بناءً على المقدمات الجامعة؛ حيث أنّ فطنة والدي بضرورة هذا الادعاء تبرر تصديقي به وفقًا للمفهوم التقليدي للتبرير القبلي. ويتّضح لي بهذه الطريقة المنطقية المحضة الواضحة أنّ صدق الادعاء يزودني بسبب قوي بتصديقها. وعليه، فإنّ التفسير الإيجابي التالي للتبرير القبلي هو أكثر تقدماً: تكون القضية مبررة قبليًا لتصديق هذا الادعاء إذا توافرت البداهة المنطقية في ضرورة أو صدق هذا الادعاء. وبينما يبدو هذا التفسير في الظاهر جديرًا بالتصديق وأوضح معرفيًا من الأوصاف السابقة فإنه لا يخلو من وجود المعوّقات؛ حيث يتطلب مثلًا أن تكون مكونات البداهة المنطقية كيانات خالدة ومجردة وأفلاطونية موجودة في شتى العوالم. ورغم ذلك، إذا كان الحال كذلك فإنه من الصعب بمكان معرفة مدى العلاقة بين عقولنا وهذه الكيانات في حالات البداهة المنطقية الحقيقية أي من المفترض أن لا تكون سببية وفيما إذا كان يعتقد أن عقولنا تفهم علاقات من هذا القبيل. وكنتيجة لهذا وأمور متعلقة به، فقد حاول الفلاسفة المعاصرون إمّا إنكار وجود التبرير القبلي أو عرض تفسير للتبرير القبلي لا يحتكم إلى البداهة المنطقية. تأتي تفسيرات النوع الثاني على أنواع عديدة: أحدها يحافظ على المفهوم التقليدي للتبرير القبلي ويتطلب امتلاك أسباب معرفية للوصول على أساس العقل المحض إلا أنه من ثم يعتبر تبريرات من هذا القبيل محددة في قضايا بسيطة أو تحليلية ولا تتطلب استرشادًا بالبداهة المنطقية (Ayer 1946)؛ حيث أنّ التبرير القبلي الذي يُفهَم من هذا الوجه لا يتطلب أيّ احتكام إلى البداهة المنطقية. إنّ الخلفيات لهذا الادعاء هي توضيح لكيفية رؤية شخص ما بطريقة منطقية محضة لاحتواء مفهوم الموضوع على مفهوم المحمول في قضية ما دون تقديم أي شيء لهذا الشخص كالقدرة على فهم الخاصية الضرورية للحقيقة. إنّ التبرير القبلي بذلك يكون سببًا ظاهريًا لطريقة ميتافيزيقية لا تضرّ. لكن تفسيرات من هذا النوع تواجه أحد هذين الاعتراضين الخطيرين، وأولهما صعوبة ملاءمتها مع النمط البديهي للتبريرات القبلية؛ ففي حين يبدو كثير من الادعاءات القبلية تحليليًّا، فإنّ بعضها لا يبدو كذلك: مثل مبدأ التعدية في حالة عدم الملاءمة بين الأحمر والأخضر التي نوقشت أعلاه، بالإضافة إلى الادعاءات المنطقية، والرياضية، والفلسفية، والأخلاقية؛ إذ أنه من المحتمل تفسير مبدأ التحليلي ليشمل ادعاءات من هذا النوع فقد فعلت هذا تفسيرات التبرير القبلي. إلا أنّ هذا بدوره يقود إلى الاعتراض الثاني وهو أنه إذا تمّ اعتبار الادعاءات التي نحن بصددها تحليلية فمما يجلب الشكّ هو صدق جميع الادعاءات التحليلية يمكن فهمها في غياب أي شيء كالفطنة والبديهة المنطقية. فمثلًا، إنّ فهم صدق الادعاء القائل بأن 7 زائد 5 يساوي 12 لا يبلغ درجة فهم تعريفات المصطلحات ذات الصلة ولا إلى فهم أنّ أحد المفاهيم يحتوي الآخر. فهي تبدو بدلًا من ذلك متضمنة شيئًا أكبر حجمًا وأكثر إيجابية كالفهم البديهي لحقيقة أنّ ناتج زيادة 7 إلى 5 لا بد أنه 12 ولا يحتمل أن لا يكون كذلك. لكن هذا بالطبع يبدو شبيهًا بانخراط ما يشير إليه الاتجاه التقليدي في الفطنة المنطقية. وينبثق البديل الثاني للمفهوم التقليدي للتبريرات القبلية من تفسير عامّ للتبرير المعرفي الذي يغيّر من امتلاك الأسباب إلى مفاهيم مثل المنطقية المعرفية أو المسؤولية. ففي حين ترتبط هذه المفاهيم بامتلاك الأسباب المعرفية ينبغي ألا نساوي المفاهيم السابقة بها لأسباب نناقشها فيما يلي. ووفقًا لتفسيرات من هذا النوع، فإنّ أحد الادعاءات يكون تصديقه مبررًا معرفيًا إذا كان هذا الفعل منطقيٌّ معرفيًا ومسؤول -أي أنه ليس تجاوزًا لأي من الواجبات المعرفية. يفتح هذا النموذج من التبرير المعرفي بحدّ ذاته الباب لتفسير بديل للتبرير القبلي؛ حيث يدور الجدل أحيانًا حول فكرة أن التصديق بكثير من المبادئ أو القضايا التي يعتقد أنها قبلية مثل قاعدة عدم التناقض هو جزء من الفكر والخطاب المنطقي. وقد تمّ بناء هذا الادعاء على أساس استحالة الفكر والخطاب المنطقي دون تصديق من هذا القبيل. فإذا كانت هذه الحجة رادعة فإننا لا نتجاوز الواجبات المعرفية بعيدًا عما إذا كنا نملك الأسباب المعرفية لدعم الادعاءات التي نحن بصددها ولا نتصرف بطريقة غير منطقية بتصديقها. ويُظَنّ أنّ امتلاك هذه الاعتقادات أساسي ولا يمكن إلى أي فكر أو خطاب منطقي. ويحدث هذا تفسيرًا لتبرير قبلي وفقًا لتبرير فكرة مطروحة إذا كان التصديق به لا يمكن تجزئته منطقياً؛ إذ تمت الإشارة إلى اتجاه من هذا النوع في ويدجيستاين 1969. وبينما تحاول هذه الاتجاهات تجنب مبدأ البداهة المنطقية فإنها تتضمن مشكلتين: أولهما لا يمكنها أن تكون سببًا لمجال الادعاءات التي تعتبر قبلية. هناك عدد من القضايا الرياضية والفلسفية المثيرة للجدل مثل كون تصديق هذه الادعاءات أو أي من الادعاءات العامة التي يمكن أن تتضمنها كحالة ليس شرطاً ضرورية للفكر أو الخطاب المنطقي. والمشكلة الثانية هي أن تفسيرات التبرير القبلي تبدو حساسة تجاه شكل من أشكال الشك لأنه ليس هناك علاقة بين كون التصديق ضروريًا للنشاط المنطقي وبين كونها صادقة أو احتمالية كونها صادقة. وكنتيجة لذلك، فإنه من المحتمل وفقًا لهذا النمط أن يكون الشخص مبررًا منطقيًا لفكرة ما في التفكير بأن الاعتقاد الذي نحن بصدده صادق وليس لديه سبب لدعمها. وفي الحقيقة، بسبب تقديم الخاصية المعرفية الأساسية للاعتقادات التي نحن بصددها، ربما يستحيل على شخص امتلاك أسباب غير مقنعة لتصديق أي من هذه الاعتقادات في حالة استثناء الاحتكام إلى البداهة المنطقية. لذلك فإن تفسيرات من هذا النوع تحوي تضمينات شكية عميقة.

أما المفهوم الثالث البديل للتبرير القبلي فهو يغير اتجاهه في التركيز نحو جانب آخر من جوانب الإدراك؛ إذ يمكن لشخص تبرير تصديقه لفكرة ما دون الوصول إلى الإدراك أو الوعي بالعوامل التي تشكل هذا التبرير وفقًا لتفسيرات خارجية للتبرير المعرفي. وهذه العوامل تعتبر خارجية من وجهة نظر ذاتي لأحدهم أو من وجهة نظر فردية. تتناقض التفسيرات الخارجية للتبرير تمامًا مع تفسيرات التبرير التي تتطلب امتلاك أسباب معرفية لأن امتلاك أسباب من هذا القبيل هو ضرب من الوصول إلى الإدراك لتبرير الخلفيات. تعد التوثيقية أكثر أشكال الخارجيانية شهرة؛ وذلك يرجع إلى كون التوثيقيين يتفقون على أنّ التبرير المعرفي أو الإباحية لاعتقادٍ ما يعتمد على الوسائل التي تشكل بها هذا الاعتقاد. وهم يتساءلون بالتحديد عما إذا تشكلت بطريقة موثوقة أو عملية مساعدة الصحيحة أو قدرة ما. وهكذا، فإنّ شخصًا يبرر تصديقه ادعاء ما قبليًا إذا شكلتها اعتقادات غير تجريبية موثوقة مشكِلة عملية أو قدرة. تواجه التفسيرات الموثوقية للتبرير القبلي صعوبتين مذكورتين أعلاه فيما يتعلق بالتفسيرات غير التقليدية للتبرير القبلي:

أولُا، تسمح هذه التفسيرات بتبرير شخص ما تصديقه لفكرة ما دون وجود أي سبب للاعتقاد بأنها صادقة؛ فربما يشكل شخص اعتقاداً ما بطريقة موثوقة وغير تجريبية وليس لديه سبب معرفي لدعمها. ولذلك، فإن تفسيرات من هذا النوع متأثرة بضرب من ضروب الشك.

والمشكلة الثانية هي صعوبة أن نفهم كيف يمكن لهذه التفسيرات تجنب الاحتكام إلى مفهوم البداهة المنطقية مما يناقض ادعاءات بعض الموثوقيين مثل: بيلر 1999. وتظهر هذه المشكلة في مستويين. ففي المستوى الأول يجب على الموثوقي توفير وصف أكثر تحديدًا للقدرات أو العمليات الإدراكية التي تولد التبرير القبلي. فلا يكفي أن يدّعي بأنّ هذه العمليات أو القدرات غير تجريبية؛ إذ يتطلب هذا تفسيرًا أكثر تفصيلًا للظواهر المتعلقة بعملية هذه القدرات والطرق. لكن كيف سيبدو هذا التفسير الأكثر تفصيلًا للظواهر إذا لم تتمّ إحالتها إلى ما تصفه التفسيرات التقليدية للتبرير القبلي على أنه البداهة المنطقية؟ وبعد هذا كله، تبقى الطرق الموثوقة غير التجريبي لتشكيل الاعتقاد مختلفة عن تلك الطرق غير الموثوقة مثل التخمين الأكيد أو سوء الارتياب [البارانويا]؛ لأنها باختصار تتضمن مظهرًا منطقيًا للصدق والضرورة المنطقية. وهذا هو المظهر البديهي الذي يعدّ خصّيصة من خصائص البداهة المنطقية. وهكذا، فإنه في استنباط تفاصيل هذا التفسير، يكون الموثوقي مجبرًا على استثارة مظهر البداهة المنطقية.

وأما المستوى الثاني، فإنّ الموثوقيّ فيه مجبر على تسليط الضوء على سبب موثوقية العمليات أو القدرات الإدراكية غير التجريبية التي نحن بصددها إلا أنه من الصعب بمكان هنا أن يُعرف كيفية تجنب الاحتكام إلى البداهة المنطقية. فكيف يمكن لعملية إدراكية غير تجريبية أو قدرة أن تؤدي بشكل موثوق إلى تشكيل الاعتقادات الصادقة بميزة تضمنها للوصول المنطقي إلى صدق أو ضرورة هذه الاعتقادات. ولا يتّضح إلى ماذا يحتكم الموثوقي لتوضيح مدى موثوقية العملية أو القدرة ذات الصلة. وبذلك يظهر لنا أن أكثر التفسيرات الموثوقية للتبرير القبلي عمليًا هي التي ستستعمل مفهوم البداهة المنطقية كنظيراتها من التفسيرات التقليدية؛ حيث تعمل بعض الاتجاهات الموثوقية على هذا مثل بلانتينجا 1993، فتدّعي أنّ الشخص يبرّر قبليًا تصديقه لادعاء ما إذا نشأ هذا التصديق من القدرة المنطقية وهي العملية التي تتضمن البداهة المنطقية في الصدق أو ضرورة الادعاء. وعلى عكس التفسير التقليدي، فإنّ معقولية التفسير الموثوقي من هذا النوع تعتمد على معقولية الالتزام الخارجي الذي يقوده.

 

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
اترك تعليقا