تأملات أنطولوجية في الكوجيتو اليسوعي

لقد قال يسوع في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا: «أنا هوَ الطريقُ والحقُّ والحياة»، وظلّت تلك الآية من أكثر الآيات التي تُجسّد علاقة الاغترابِ التي نشأت بسبب مُعضِلة الوعي عند الإنسان؛ ذلك الاغتراب الذي بدأ استشعارُه وظهورُهُ على ساحةِ العقلِ بدايةً من الفلسفةِ اليونانَيّة التي مثّلت إرْهاصات فكرة اغتراب الإنسان عن ذاتِهِ في الميثيولوجيا. فقد عبّر اكسانوفان، وهو فيلسوفٌ طبيعيّ ينتمي لِلمرحلةِ ما قَبل السُقراطيّةِ، عن ذلك في ذهابه إلى أنّ البشرَ هم المسؤولون عن وضع تلك الرُؤى عن الآلهةِ المُتمثّلةِ في المشاعرِ المقترنة بالحبِّ، والكُرهِ، والسخط والغيرة، والأفعال الخاصة بالحروب والصراعات والتناسل، وكل تلك القصص التي وردَت في ملحمتيّ الإلياذة والأوديسة لهوميروس اللتين مثّلتا القاعدةَ الرئيسية للميثيولوجيا اليونانيّة، وأنّ كلَّ ذلك لم يكُن إلّا تلفيقًا لتصوّراتٍ بشريِّةٍ وإلباسها ثوبَ الألوهيّة، وأنَّ الإلهَ يتعالى عن كلِّ ذلك فهو ليسَ كمثلِهِ شيء ولا تحُدُّه العقول والأفهام (1).

كانَ ذلك قبل أن يأتي لودفيج فويرباخ في القرنِ التاسع عشر ويؤسّس بشكلٍ أعمق لذلك الشعور بالاغتراب من خلالِ فلسفة الدين التي تبنّاها، والتي تقول بأنّ الدينَ هو أحد إنتاجات حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان عن ذاته وعن العالم، فالدين ما هو إلّا إحالة لأفضلِ صفات البشر المُحايثة إلى واقعٍ مُفارقٍ، وأنَّ الإلهَ المسيحيّ يُمثّل تجريدًا لصفات البشرِ من أجلِ تعزيز نفس الفكرة (2). ذلك النّسْق الذي انتهجه كارل ماركس من بعده في تأسيسه لسرديّته العظمى المُشيّد جُزء منها على فلسفة فويرباخ خصّيصًا في مسألة الاغتراب.

بالطبع، أنا لا أقصد بالكوجيتو نفس الاستخدام الذي قَد يظنُّه البعض بالمقاربة مع الكوجيتو الديكارتي الشهير، فما أعنيه هنا هو الاستخدام القيمي الأكسولوجي فقط، وليس الاستخدام التأسيسيّ بمنهجيّة استدلالية برهانية كما فعل رينيه ديكارت بكل تأكيد. ما أحاول الوُلُوجَ إليه هنا هو ذلك الشرط التأسيسيّ البسيط الذي يُحيل كل عناءِ البحثِ والتفكير إلى ما وراء ذلك الشرط، ذلك الشرط الكبير الهائل الذي يُصبح كل شيء بجواره ضئيل الحجم مُفرَّغ القيمة وبلا غايةٍ أو هدف. وتكمُنُ قوة تلك العبارة التأسيسية في بساطتها.. جملة في منتهى البساطةِ لا تُقدّم أي استدِلالاتٍ برهانية على قوتها، فهي مقولة تنتمي لنصٍ مقدّسٍ لا تحتاج لقوّة منطقية على أيّ حال، فهي تكتسب مشروعيتها من مشروعيّة القيمة الكُلّية للسردية المقدسةِ، ولكن تكمُن خطورتها في تلك المُصادرة البعيدة على أي محاولة أخرى للاجتهاد أو الفهم المُغاير.

لماذا الكوجيتو ؟

لقد تعمدتُ استخدام مصطلح الكوجيتو تحديدًا لما يحمله من منحى تأسيسيّ وآخر بنائي في فحواه.
بإمكاننا أن نرى تشابه المنهجية بين الكوجيتو الديكارتي والآخر اليسوعي؛ فالكوجيتو الديكارتي يبدأ من عبارة «أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود» كمنطلق لتأسيس المذهب الديكارتي في الشكّ بدايةً من إثبات الوجود الذاتيّ عن طريقِ الصعودِ تدريجيًا في إثبات وجود عمليةِ الشكِّ ومنه إثبات وجود عملية التفكير، ومن خلال التفكير يكون وجود المُفكّر أو الذات المُفكّرة، ومن ثَمّ يبدأ ديكارت في عملية التفلسف لإثبات الموجودات الأخرى انطلاقًا من قاعدة تأسيسية ثابتة انطلق منها وهي وجودُ الذات المُفكّرة.

تلك المنهجيّة الصاعدة من العام إلى الخاص يمكن أن نتحسّسَها في مقولة يسوع أيضًا ولكن على نحوٍ معكوس، أي من الخاص إلى العام، فيمكننا أن نرى الإنطلاق من المنهج ثم إلى الحقيقة نهايةً عند الحياة أو الواقع، نعم لم يكن في العبارة علامات مميزة للتراتبية إلّا التراتبية الصوريّة فقط، أي في موضعِ الكلمات الطبيعيّ من الجملة، ولكنّنا سوف نقوم بتلك المقاربة بناءً على الحدس العقلي فقط، ربما من ناحيةٍ أخرى أنه الافتراض الأكثر معقولية، لأن من غير الإنصاف أن نظُن أنّ ذلك الترتيب جاء على سبيل المصادفة (دون التطرّق لموضوع ترجمات الإنجيل واختلافاتها.. إلخ) نحن الآن نتعامل مع النصِّ كما وصل إلينا.

إعلان

مُقاربة العبارةِ منْهَجِيًّا:

فعندما وجد الإنسان نفسه في أزمة حقّة مع بزوغِ مشكلةِ الاستقراء التي أثارها ديفيد هيوم ولم يستطِعْ العقل آنذاك التفكير في ما هو حقيقي لفقدانه آليات المنهج، عندها استيقظ إيمانويل كانط من ثباته الدوجماطيقي على حدِّ تعبيره، وقام بمشروعه النقديّ الأعظم في تفنيد وإظهار آليات العقلِ من أجل فقط إنقاذ المنهج من براثن مشكلة الاستقراء، فبدون منهج لا يوجد عمل ولا يوجد نتيجة، وبدونِ طريق لا يوجد هدف ولا وصول.

ولم يكن كانط فقط هو الذي بحث عن المنهج، لطالما كان المنهج هو أحد المباحث الأساسيّة للفلسفة، المنهج هو الذي يهتم بالأساليب والآليات التي نستخدمها في تقصّي الحقائق، فكيف يمكننا أن نتأكد من مصداقية معرفتنا دون أن نتأكد من أن ما نستخدمه من أدوات وأساليب للوصول لتلك المعرفة صحيح؟ ذلك المبحث في الفلسفة يُدعى الإبستمولوجيا. ومن هنا يأتي الترتيب أن الطريق سابق على الحقِّ بالضرورة، أو أن المنهج يسبق الحقيقة.

وأخيرًا تأتي الحياة.. ففي نهاية المطاف، هل تكون كلّ مساعي البشر، بدايةً من إيجاد المنهج الأصلح في الاستخدام من أجل الوصول لمعرفةٍ دقيقةٍ وصحيحةٍ، من أجل تعليق تلقّي المعرفة في متحف المعارف؟ بالطبع لا، لقد كان الإنسان دومًا يسعى إلى المعرفة من أجل الحياة، وحتى إن أنكر ذلك بعض الفلاسفة، فما قيمة المعرفة دون الحياة التي هي موضوع المعرفة بالأساس؟ لا توجد قيمة للمعرفة في ذاتها، فالعقل الذي هو ذات التعرُّف يستقي معرفته من العالم. الّذي هو موضوعُ المعرفةِ، فإنّ النهايةَ التي جاءتْ في آخرِ طريقِ المعرفةِ كانَتْ الحياة.

التنَصُّلُ من المسؤولية

ولكن مَن يتحمّل وِزْرَ المعرفة؟ مَن يتحمّل عناءَ البحثِ والتدقيقِ من أجلِ معرفةٍ صحيحةٍ مبنيّة على أسسٍ منهجيّةٍ عقليّةٍ وليس على محض خرافات؟ لطالما كانت تلك مسؤولية القلّة الذين استطاعوا أن يخوضوا غمار معركة البحث المضني عن المعنى والمعرفة، فالأنبياء هم الذين قادوا المجتمعات قديمًا؛ فقدموا للإنسان نموذجًا جاهزًا عن أصل الكونِ والحياةِ وماهيّة الخير والشر، ووضعوا نظامًا للعدالة تقوم عليه المجتمعات. أما الذين قاموا بذلك الدور حديثًا فكانوا الفلاسفة، فبعد انحصار النزعة الدينية في أوروبا بحث الإنسان عن بديل آخر كان في الفلسفة، فالإنسان العادي غير المنشغل بتلك المواضيع لا يجد مفرًا من الحاجة إلى معنى لحياته، وطريقًا يسلكه، وحقيقةً واحدةً مضيئة ًيستند إليها ومن ثَمّ حياة.

فكانت كل تلك المتطلبات متوفّرة في المقولة اليسوعية، فقد قدّم للإنسان الطريق والحق والحياة، ذلك اللإنسان الكسول الذي لا يسعى إلى المعرفة، ذلك الإنسان الجبان الذي لا يجرؤ على السؤال، وجد كل ما يأمله في سردية طوباوية تُقدّم له منهجًا وحقيقةً وحياةً بشكل فوري دون عناء البحث. ذلك الإنسان المسكين المُغترب عن ذاته الذي لا يجد قيمة حقيقية من وجوده. فبدلًا من القول بأنَ المنهجَ والحقيقةَ والحياةَ تنطلق من وجوده ومن ذاته، قرر أن يُحيل كل تلك المعاني بكل مفرداتها إلى وجودٍ متعالٍ ليعطيه قيمةً أكبر، قيمة تعطي مشروعيةً أكبر للمعاني التي يبحث عنها، وهو يغفل أن مصدر تلك القيمة بالأساس هو ذاته، هو الذي يضع ويحدد كل شيء.. هو مصدر كل الأشياء!

 

المصادر:
1. تاريخ الفلسفة اليونانية - يوسف كرم/ الفصل الثالث ص35
2. الفلسفة الألمانية - أندرو بووي/ الفصل الخامس ص62

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مايكل ماهر

تدقيق لغوي: نَدى ناصِر