تأملات في معنى الحياة

هل تبادرت إلى ذهنك تلك الخاطرة يومًا؟ أن تكون جالسًا في محاضرةٍ مستمعًا لشرح الأستاذ المملّ، أو أن تكون في خضمّ علاقة عاطفية، وتكون أنت الطرف المستمع لكلّ تفاصيل شريكك التي يسردها عليك مرارًا وتكرارًا، أو أنّك موظّف في شركة تقليدية تقوم بتأدية بعض المهام الروتينية، أن تتساءل: ما الفائدة من هذا؟ ما القيمة التي يضيفها ذلك إلى حياتي؟ أهذا ما أريده حقًا؟ أهناك أيّ معنى أحقّقه لحياتي؟ أحيانًا تظنّ أنْ ليسَ لحياتك أيّ معنى. ربما ما كان ذلك إلا نتيجة شعورك بالضغط والإحباط، وأحيانًا الغضب أو الضجر أو حتى على سبيل الدّعابة، ولكن هل تعرف حقًا معنى الحياة والمغزى من وجودك؟ ولماذا يدّعي البعض أنْ ليسَ للحياة معنى؟ وهل يمكننا الاتفاق – رغم تعدّد الرؤى – على مفهومٍ لمعنى الحياة مشترك بيننا جميعًا، وفهم مغزاها فهمًا عقلانيًا حقًا؟

أعرف أنّني أكثرت من علامات الاستفهام في تلك المقدّمة، لكن ما كنّا لنصل لمعرفة وإجابات لولا طرح التساؤلات، وعلى غرار ذلك وبناءً على الأسئلة السابقة؛ سأحاول أن أعرض قدر استطاعتي إجابات عقلانية وبشكل موضوعي. كانت وما زالت إحدى أكبر التساؤلات الأنطولوجية التي انشغل بها الإنسان هو معنى الحياة، أو المغزى من الوجود، سواءً على مستوى الجماعة – البشرية جمعاء – على غرار الأسئلة الثلاثة الكبرى: من أين أتينا؟ ومن نحن؟ وإلى أين مصيرنا؟ أو على مستوى الفرد (أن يتساءل الإنسان عن معنى حياته كفرد).

لوحة "من أين نأتي؟ من نحن؟ وإلى أين نحن ذاهبون"
لوحة “من أين نأتي؟ ما نحن؟ وإلى أين نحن ذاهبون” للفنان الفرنسي “بول غوغان”

فإنّ هناك الكثير من الإجابات المقترحة على هذه الأسئلة مقدّمة من ثقافات وآيديولوجيات ومعتقدات مختلفة، إذ كان لسؤال “معنى الحياة” دورٌ مهمٌّ في وضع وترسيخ المفاهيم والرؤى العقائدية والفلسفية على مرّ التاريخ الإنساني المدوَّن. ثم تطوّر الوعي البشري واتسعت رقعة استيعابه لمفاهيم رمزية مثل العلاقة بغيره وفكرة بناء مجتمع، السعادة، القيم والمُثل العليا، الأخلاق، وقضايا أخرى مثل الخير والشر، القدر والإرادة الحرة، وجود إله واحد أو عدد من الآلهة، وغيرها من التفسيرات الميتافزيقية لسؤال معنى الحياة ، إلى أن ساهم العلم وقدّم تفسيرات للظواهر التي طالما حيرتنا، وكشف عن حقائق متعلقة بالحياة والإنسان والكون.

مع ذلك فقد أخذ مفهوم معنى الحياة طرق ومسارات متأرجحة بين آراء الفلاسفة على مرّ العصور، بدايةً من “أفلاطون” الذي رأى أنّ معنى الحياة يتمثّل في الوصول لأعلى شكلٍ من أشكال المعرفة، وذلك يحقّق الخير بالضرورة، وتلك كانت أكثر الرُؤى مثالية، وصولًا إلى “نيتشه” الذي قال: إنّ الأفضل لنا أن نتمسّك بالفنّ لئلّا نتعرض للفناء جرّاء قبح الحياة وانعدام معناها، وتلك كانت أكثر الرُّؤًى تشاؤمية.

لماذا يقرّ البعض أنْ ليس هناك أيّ معنى لحياتهم؟

هناك سببان رئيسيان لادّعاء الناس أن ليس للحياة أي معنى:

السبب الأول متعلق بالدِّين، اعتقد الناس في الماضي بأنّ معنى الحياة هو شيء واضح، وقد أعطاهم إياه الإله الذين يعبدونه، وهذا المعنى متعلق ومرتبط بتقديسه وعبادته وفقًا لتعليماته التي أملاها عليهم، هناك متغيّرات مختلفة في كثير من الأديان، سواء كانت متغيرات دين معين تتفق مع متغيرات دين آخر أو تختلف معها، فإنها تنطبق على هذا الاعتقاد، فمثلًا متغير الإله عند الأديان الإبراهيمية في وصفه مختلف عما هو في الهندوسية، وكذلك أشكال العبادة وممارستها، الكود الأخلاقي العام، الأماكن المقدسة، إلى غيرها من المتغيرات، على غرار ذلك فمن الممكن أن يتغاير ويتباين معنى الحياة من دينٍ لآخر أيضًا، لكن مع تراجع عدد كبير من أتباع الأديان عن معتقداتهم الدينية، لم يؤدِّ ذلك إلى سقوط رمزية الإله وقداسته فقط؛ بل وسقط معه معنى الحياة الذي كان يمنحه كضمان أبديّ، مما أصابهم بالعدمية والخواء وضياع معنى الحياة.

إعلان

لوحة "الصرخة" للفنان النرويجي "إدفارت مونك"
لوحة “الصرخة” للفنان النرويجي “إدفارت مونك”

السبب الثاني

متعلقٌ بالعلم الحديث، الذي سبّب أزمة “معنى الحياة” لدى الناس. يصرّح العلماء بأنّ الحياة قد نشأت على الأرض منذ مئات ملايين السنين من تفاعلات عشوائية للمكونات الكيميائية والغازات، وطبقًا لحقيقة الانتخاب الطبيعي للكائنات الحية؛ فقد تطوّرت كائنات من أسلافها التي عاشت قديمًا، ومنها بلا شكّ الإنسان، نظريات العلم الحديث تضع الإنسان موضع الدراسة من جانب ماديّ فتصنّفه كنوع يسمّى بـ (الإنسان العاقل Homo sapiens) من فصيلة القردة العليا رتبة الرئيسيات في مملكة الحيوان. تلك الحقائق الجافّة قدّمت معنىً للحياة بالفعل، لكنه معنى من نوع سوداوي وقاسٍ ومنزوع الروحانية، بالإضافة إلى أنه عامّ يشمل كلّ الكائنات، فالإنسان – كغيره من الكائنات الحية كالأميبا مثلًا – المعنى من وجوده هو البقاء على قيد الحياة والتكاثر وتوريث الجينات الوراثية، للحفاظ على المسار التطوّري الخاص به، رغم صحة ذلك المعنى لكنّه عديم الجدوى، بالإضافة لقسوته وخلوه من الروحانية.

نرشح لك: “روحانية من دون إله” أندريه كونت سبونفيل

معنى الحياة
لوحة “درس التشريح مع الدكتور نيكولاس تيولب” للفنان الهولندي “رمبرانت”

ما الذي يدفع البعض ليقرّ بأن الحياة تخلو من المعنى؟

أحيانًا يظنّ المرء نفسه أنّه مركز كلّ شيء، يجب أن يهتمّ به من حوله ويعطونه القَدْرَ الذي يريد من الأهمية، لذلك إقراره بعدم وجود معنى لحياته هو أمر شخصيّ ومرتبط بتجارب فاشلة متعلّقة بمن وما حوله أدّت إلى شعوره بالتعاسة، من أمثلة هذه التجارب:

العلاقات الإنسانية:

قد يكون لديك العديد من الأصدقاء، لكن رغم ذلك تشعر في كلّ مرة تقابلهم بأنّ محادثاتهم أصبحت سطحية ونوعًا ما تافهة. في العلاقة المبنية على الحبّ المتبادل بين طرفين، قد يتبدّد الشعور بالحماس والانبهار الذي كان موجودًا في بداية العلاقة، ولم يعد الحبيبان يتبادلان أطراف الحديث عن شيء مهم سويًا إلا قليلًا، أو مشاركة المشاعر والأفكار والاهتمامات، لذلك تشعر بأنّ الأمر عديم الجدوى وبلا معنى.

التعليم والدراسة:

لكم شعرتَ أنك لا تعرف ما تريد دراسته بالضبط، أو ما يستهويك من المواضيع العلمية أو الأدبية المتعددة، أو ما تريد أن تكون في المستقبل، وتصيبك الحيرة حول هذا الأمر، وقد دفعكَ ذلك للتقدم للتسجيل لإحدى الكليات دون التأكّد ما إذا كان ذلك ما تريده، وتبدأ في قراءة ما هو متعلّق بمجال دراستك والذهاب للمحاضرات معتقدًا أنّ ذلك سيوضّح لك الأمور، لكنّك تكتشف أنّ المقرّرات مملّة وليست ما تريد دراسته حقًا، فيزيدك ذلك حيرةً وترى أنّ الأمر برمّته ليس له معنى.

العمل:

فلنقل أنّك تعمل كموظّف مرموق في شركة كبيرة تحقق أرباحًا محترمة، ودخلك يُقدّر بمبلغ كبير، لكنّك لا تشعر بأهميّة العمل إطلاقًا، ذلك يعني شيئين؛ إما أنّك لا تهتمّ بإحداث فرق عظيم في حياة أيّ شخص آخر، أو أنّك لا تتمكّن من توظيف مهاراتك أو تطويرها من خلال العمل، عندئذ لا يوجد فرق بين ما تفعله أنت وبين ما تفعله الآلة.

ما الذي يمكن استنتاجه من خبرات حياتنا؟

إنّ تساؤل الإنسان حول معنى الحياة والتأمل فيه لهو نشاط مهم، فالحياة تملك معنىً جوهريًا بالفعل، جُلّ ما نحتاجه هو القليل من الفهم والتفكّر بعقلانية، والنظر لتجاربنا السابقة، واستنباط مفهوم واضح لمعنى الحياة. هناك بعض الخطوات العملية التي يمكن اتّباعها للتأكد من عيشنا لحياةٍ يغمرها المعنى والمغزى المفيد.

أولًا: علينا التوقف عن اعتقاد أنّ معنى الحياة متروك في مكان ما في الكون، ليس على سطح مُذنّب يسبح في الفضاء، أو تحت جذر شجرة “السكويا” العملاقة، معنى الحياة ليس شيئًا موضوعيًا موجود خارج ذواتنا وحدود وعينا، ليس مكتوبًا في قدرٍ محتّم الحدوث، أو في كتابٍ مقدّس، أو في رموز الحمض النووي، فمعنى الحياة ليس إلا المعنى الذي يمكننا أن نجده بأنفسنا ككائنات حية، قيمة وفكرة لا يمكنها التواجد بدوننا.

ثانيًا: يمكننا أن نحدد معنى الحياة من خلال ثلاث أنشطة هامة:

1- التواصل

نحن كبشر نميل للعزلة بطبيعتنا، رغم ذلك فإنّ أحد أكثر لحظات حياتنا الغامرة بالمعنى هي عندما نتواصل مع بعضنا البعض، نصغي ونتكلم لبعضنا، فمثلًا عندما تقع في حبّ شخص آخر وتكشف له عمّا في وجدانك وتعرّفه على نفسك أكثر وتتقرب منه لهو شيء عظيم، فالحبّ يسبب حالة من الإشباع الوجودي لدى الإنسان، ويقلل من قلقه الاجتماعي ورؤيته السلبية لنفسه، ويصبح أكثر نشاطًا وإنتاجية.

وأن نكوّن صداقات مع غيرنا من الناس، نتبادل الأفكار والرؤى والحقائق عن بعضنا البعض، فكلّ إنسان منا هو مدينة كبيرة عميقة تحوي الكثير من القصص لاكتشافها ومعرفتها.

معنى الحياة
لوحة “القُبلة” للفنان النمساوي “غوستاف كليمت”

2- الفهم

يمكننا أن نحقق معنى لحياتنا من خلال الفهم والإدراك، وهذا لو تعلمون عظيم، حيث ينتابنا شعور المتعة عندما نصوّب تفكيرنا وتأملنا نحو الظواهر الطبيعية الغامضة واكتشاف حقائقها، نُحدث ثورات كوبرنيكية، فنشوة الشعور بالانتصار على محدودية فهمنا للحدود الغامضة للواقع المادي لا تضاهيها نشوة، سواء كنّا باحثين، علماء فيزياء أو اقتصاد، شعراء ومؤلّفين، أطباء نفسيين، أو حتى طلاب علم، نحن نضع معنى عظيمًا لحياتنا قائمًا على قدرتنا البسيطة على استيعاب وتبسيط كل ما كان غير مألوف أو لا يُصدّق.

معنى الحياة
لوحة “إسحاق نيوتن” للفنان “روبرت هانا”

3- العمل وتقديم الخدمة

عادة ما نعتقد أننا أنانيون بطبيعتنا، لكنّ أعظم ما يمكن فعله حيال ذلك هو عندما نتمكن من تجاوز غرورنا، ونصنع معنى متعلّقًا بوضع أنفسنا في خدمة الآخرين، في خدمة المجتمع، أو حتى في خدمة الكوكب، من خلال محاولة تحسين حياة الناس أو على الأقلّ تخفيف معاناتهم والآمهم، أو إيجاد طرق جديدة لإسعادهم، والعمل على نشر الوعي بينهم وانتشالهم من ظلمات الجهل، فنجدّد نظراتهم للتعليم والصحة والعمل. ولكي تشعر بالمعنى نتيجة ما تقدّمه من خدمة للغير، ينبغي أن تتوافق تلك الخدمة مع اهتماماتك الأصلية النابعة من وجدانك، ويمكن أن يتمثّل ذلك في مهنٍ مثل الطب، أو في التّطوع مثل فصول محو الأمية.

لوحة "زيارة الطبيب" للفنان الهولندي "جان هايفكسزون ستين"
لوحة “زيارة الطبيب” للفنان الهولندي “جان هايفكسزون ستين” 

طبقاً لما سبق، يمكننا المضي قُدُماً نحو وضع تعريف أكثر عقلانية وموضوعية لمفهوم “معنى الحياة”، فنقول إنّ معنى الحياة: هو السّعي للازدهار بحياة الإنسان وتحسينها؛ من خلال التواصل والفهم وخدمة الآخرين. ربما لم يجد الكثيرون منّا معنى حياته بعد وربما نختلف في النهاية في آرائنا، لكن لنتفق على أنه من المهم التأكد أنّ معنى الحياة هو مفهوم معقول جدًا، ويمكن استنباطه بعقلانية؛ بما أنه يتألف من عناصر يمكن وضع أيدينا عليها وتعيينها بوضوح، وبالتالي نعمل معًا – بمختلف شخصياتنا – للازدهار بحياتنا وتقدم مجتمعاتنا، نحن لا نملك إلا ذلك، لن يأتينا التحسّن والتقدم في مركبة مبعوثة من حضارة فضائية من مكان ما في المجرة، هذا الأمر منوط بنا نحن ويقع على عاتقنا وحدنا.

نرشح لك: الحياة في كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى”

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2
فريق الإعداد

إعداد: كريم محمد

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا