قصة قصيرة: تمساح يقرأ البخت

إلى د- نعيم عطية

أمسِك أنفك من موضعه، وارفعه لبعيد. آلاف الروائح تقترب من بعيد. ومع ذلك أنت تستنشقها جميعًا معًا. بالطبع لن أتركك هكذا، أنزِل أصابعك بتأنٍّ -والتي تبدو كباليرينا تقوم بتمارين الإطالة.

آسف على هذا اللهجة، لأنه يجب أن تنظر أمامك بهذه اللحظة التي انقلبت فيها السيارة.

كانت معك سوسو منذ دقائق، ماذا جلب جَسَدها أسفل السيارة؟ وأصبحتْ أربع “حِتَت” مثل قِطع لحم تتلقّفها القطط. لم يكن الوقت مناسبًا لارتداء جونلّتها البيضاء التي اشتريتها لها. والخرزة الزرقة المفتّتة ما عادت لتدفع عنها الحسد الآن.

من المؤكد ما حدث، السائق التائه أفلت منه الزمام. ستريد أن تضغط بقدمك وتركُل أنت الفرملة، ولكنك لن تجدها. ستجدُ أصوات قرقعة بعقلك تدور. بعدَها ستجد سوسو كعكةً حمراء على الأرض.

إعلان

وأنت بالطريق ستحمل المنظرَ كاملاً معك إلى البيت. لن تغادرَ السرير، ستخلعُ خفّيك برعونة تامة، وتسير على أطراف أصابعك كالباليرينا التي تحاول الدخول بعنوة بأيّ تشبيه بعقلك. المشهد كلّه يتكرر، وأنت معلّق به، تتذكر كأنه يُعرَض عليك كلّ ثانية. تلمحُ وجهَ سوسو بصورةٍ أمامكَ على الحائط، تتابعُها بنظرك وهي تتحرّك مثلَ أَسَدٍ في قفص، تريد أن تلتهمَ وجهَها وتحتضنَها بصدرك، لكن تعلم أنّ الأمر يشبه إكمال كلمات متقاطعة. إجاباتٍ لا تمتّ للصّواب بِصِلة، ستدلف أمُّك وتطبطب على ظهرك، وتلفح ظهرَك البطانيةَ كحركة اعتيادية.

– سيبي الباب.

ستدعه مفتوحًا كقلبك. سيجلس الصّمت معك، لأنّ الصوت الذي كان يُفتَرَض أن تسمعَه بهذا الوقت قد رَحَل، هناك شرخٌ في الحائط بَزَغ فجأة، مثل دوالي قدميك. أوَّل مرة تنتبه لها، أوّل مرة ترى شرخًا بهذا الحجم. وعيناك المنفّختان، من المؤكّد أنّك أول مرة كذلك تتلقّى هذا الوصفَ عنهما.

كان من الممكن أن تمرّ الليلة بسلام، لولا هذا الطبيب الذي دَلَف بدرامية “دعوني أمرّ. من فضلكم”

أنت ستنظر بدورك للوسادة وستقول ثلاث كلمات بالعدد “نمتِ. يا سوسو؟”

هذه الكلمات بالكاد ستزعج الجميع، وسيتحوّل البيت لخلية نحلٍ وتحدث حركة زائدة. بعدها ستشيحُ وجهك نحو الوسادة، وترى الجفنَين لا يطرفان.

الساعة تمرّ كثعبان رقيع، يتلوّى عند كلّ زاوية، ولا يمرق. بنفس الوقت بالأمس، كنت تسرّح شعرك “السايح” وأمامَك سوسو، تُصلّح المرآة بوجهها. تستعيدُ أحلامًا جيدة من طاقة رأسها والبناء الذي تراه يُشيّد أمامك بلحظات.

ستفتح عينَك بالنهار. وستنشِق الشقة بالناس والمعارف وببعض ممّن تراهم مرة واحدة بالسنة.. “سوسو حامل” ستفتح عينيها. الآن. ستفتح عينك لتجد الوسادة تواجهك بقسوة.

سيدقّ الباب مرة أخرى، لا.. ليس الطبيب، ليس بعد الظهيرة، الطبيب انصرف لأربعة عشر مريضًا -تحديدًا- غيرك بينما أنت مرابض بسريرك، ولم يرَ لحيتك وهي تنبت بين يوم وليلة وتزقّ جلدَ وجهك لتتنفّس وتشمّ الهواء. أنت ستمسك الوسادة بحنان شديد بالغ، وتمضغ طرفها، وهذا الصباح -على غير العادة- بآخره ستخبر الناس الموجودين بالشقة، والذين ملأوا الغرف بأنّك متأسّف ولن تستطيع قضاء الوقت معهم. هذا الوقت أَولى بابنتك. ستغلق بابك، وتُنشئ عليك جدارًا من الصمت، لكن ستُدرك أنك لابدَّ أن تشارك بالسرادق، بالعزاء.

تتعرّف على فلان:

ينتمي إلى أسرة تتمتّع بمكانة اجتماعية طيبة، تَقدّم لسوسو، كان ذلك منذ أربع سنوات، بل خمس سنوات ونصف في آخر الخريف، تَرَك شَبْكةً عند الباب، ولكن لأنّ سمعَتَه كانت تسبقه، وسمعوا عنه وعن أهله كلّ خير كاد أن يتمّ كلّ شيء. لولا أنّك سبقت “ويا حلو من سبق أكل النبق”.

اليوم ستضطرّ لترك عادتك في الضحك بالجنائز. سيأتي الموت بنفسه لشرح وجهة نظرٍ مناقضةٍ لما تفعله. ستجبرك على البكاء. اليوم، لا ضَحِك. لم تكن لآخرين. كانت لسوسو. ليس بإمكانك الاحتمال أكثر مما كان، ستسحب جسدك بكلّ ما أوتيت من قوة، وتسيح عياطًا بأحد الأركان.

حسنًا. لم يَرَكَ أحد، بعدها ستنصرف، ستطفئ نور الغرفة، والشرفة.. ستغلق الشّبّاك، ونجوم الليل بعينك، وعينك. ستنظر لسوسو أن تفتح عينها وتبتسم لك كما تفعل دومًا. السكون يُغرق ليلك بالكامل، لكنّك ستنتظر، ستنام بلا مخدّر. وأنت تضحك على الأريكة حينما سأخبرك.

“سأقرأ لك البخت” أنت تتعلّق بأيّ أمل، بأيّ قشة قد تُنجي غريقًا. كلّ ما رأيته سيكون حلمًا.. اطرُد الجنازة، اطرُد الطبيب، غدًا سترى سوسو بشحمها ولحمها، تريدُك وتسير إليك. ولكن احذر هذه العربة المتجهةِ نحوك.

 

 

 

إعلان

اترك تعليقا