ثقافة الطبقة الوسطى: لمحات من مصر العثمانيّة (2)

ملامح من ثقافة الطّبقة الوسطى

حاولتُ في المرّة السّابقة، الحديث عن انهيار التّجارة في نهاية العصر المملوكيّ الجركسيّ، ثمّ عن النّهضة التّجارية الّتي حدثت في مصر العثمانيّة وأسبابها. ونتيجة لتلك النّهضة التّجاريّة، وتدفّق الأموال في يد كثير من التّجار، وفي الاقتصاد بشكل عامّ، نشأت طبقة وسطى حضاريّة، وامتلكت تلك الطّبقة خصائص ثقافيّة ميّزتها عن غيرها في المجتمع. وسنستعين هنا بكتاب نيللي حنا “ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانيّة”.

يذكر الدّكتور رؤوف عبّاس في مقدّمة الكتاب كيف تحدّث الجبرتي كثيرًا عن (أوساط النّاس) و(مساتير النّاس) و(ميسوري الحال). ويرى الدّكتور رؤوف أنّ هذه المفاهيم كلّها تشير إلى وجود طبقة تحتلّ مسافة بين خاصّة النّاس وعامّتهم، وتقول نيللي حنا: إنّ هذه الطّبقة تكوّنت من التّجار وأصحاب الدّكاكين والحرفيّين وأصحاب الوظائف المتوسّطة الإدرايّة والدّينيّة.

كتاب “ثقافة الطّبقة الوسطى” هو جزء من سلسلة دراسات نيللي حنّا، والمعنيّة بنقد الأفكار الاستشراقيّة عن مصر العثمانيّة. وإذا كنّا في المقال السّابق قد رأينا كيف كان المجتمع المصريّ مليئًا بالحركة في صيغة التّجارة، ولم يكن ذلك الجسد الميّت الّذي يتصوره البعض؟ فسننتقل الآن إلى جزء آخر لِنقد تلك الأفكار، وهو الثّقافة.

الكتاب غني للغاية بالمعلومات، لذا ستكون هذه محاولة بسيطة لتلخيص أهم أفكاره، وهي:

  • الطّبقة الوسطى والتّعليم:

تتحدّث نيللي حنّا أنّ كثيرًا من أفراد الطّبقة الوسطى كانوا يقرؤون ويكتبون، ومقبلين على اقتناء الكتب. وتحاول نيللي حنّا الحديث عن القنوات الثّقافيّة للطّبقة الوسطى، فلا يمكن إرجاع  ملامح الثّقافة كلّها إلى المدرسة، رغم أنّها كانت تمثّل جوهر النّظام التّعليميّ، فهناك مصادر أخرى كالكتب لا علاقة لها بالمؤسّسة التّعليميّة يجب وضعها في الاعتبار. كما أنّ التّعليم المدرسيّ في ذلك الوقت كان يكتسي بالطّابع الدّينيّ بشكل كبير. فالأزهر كان أهمّ مؤسّسة تعليميّة في مصر كلّها، بل وفي العالم الإسلاميّ على اتّساعه، لكنّه في نهاية الأمر لم يحتكر بالكامل كلّ أشكال المعرفة ووسائل نقلها للآخرين.

إعلان

وتكمل الدّكتورة قائلة: إنّ من كانوا يذهبون إلى المدرسة، كانوا ينشدون التّعليم الدّينيّ كهدف، ولكنّه في الوقت ذاته كانت لهم أهداف أخرى، فلا يمكن إرجاع الثّقافة كلّها إلى العامل الدّينيّ فقط. كما يجب التّذكير أيضًا أنّ تلك الثّقافة كانت متباينة بشكل شديد، فهي ليست تلك الكتلة المتجانسة كما يظنّها بعض النّاس، فلا يمكن ردّها إلى مبدأ واحد واختزالها فيه.

وتتحدّث نيللي حنّا عن كيفية انتشار التّعليم بين الطّبقة الوسطى، ويرجع ذلك إلى عامل إيديولوجيّ، وهو حثّ الدّين ذاته على طلب المعرفة والتّعلّم؛ حتّى يستطيع المسلمون فهم دينهم جيّدًا. وكانت الكتاتيب أيضًا إلى جانب المدرسة والمسجد رافدًا رئيسيًا لنشر القراءة والكتابة، حيث وصل عددها لثلاثمائة بالقاهرة عند نهاية القرن الثّامن عشر.

  • الكتابة والتّجارة:

يرجع انتشار الكتابة إلى انتشار التّجارة، حيث توفّر الكتابة مظلّة أمان للتّجّار الّذين يريدون المحافظة على حقوقهم، كما ستساعدهم على إبرام العقود وغيرها من الوثائق الضّروريّة للتّاجر. فمن الضّروريّ لمزاولة النّشاط الاقتصاديّ أن يحصل المرء على قدر من التّعليم الأساسيّ. كما ارتبط ازدهار التّجارة بزيادة عدد الكتاتيب، فمثلًا يمكن ملاحظة زيادة الأعداد مع ازدهار تجارة البُّنّ ونموّها في بداية القرن الثّامن عشر، ثمّ هبوط الأعداد مع انحسار تلك التّجارة.

المحاكم أيضًا تمثّل دليلًا على انتشار الكتابة، حيث تكشف السّجلات عن أعداد متزايدة من التّجار والحرفيّين الّذين لجؤوا لتلك المحاكم؛ بسبب أمور تتعلّق بمعاملاتهم اليوميّة، مثل: عقود البيع، و المضاربة، والقروض. فسجلات المحاكم تكشف استخدامًا واسعَ النّطاق للوثائق المكتوبة فيما اتّصل بالمعاملات اليوميّة.

وتقول نيللي حنا:

“كلّما ازدادت المعاملات اتساعًا وتعقيدًا، كانت الحاجة ماسّة إلى استخدام الوثائق المدوّنة. كما أنّ نخبة التّجار الّذين أداروا تلك التّجارة الواسعة استخدموا الكتبة والمباشرين، الّذين كانوا في الغالب من القبط؛ لتولّي الأمور الإداريّة والحسابيّة المتعلّقة بأعمالهم. وبذلك كان باستطاعة التّاجر الكبير إدارة أعماله وعقد الصّفقات الكبرى حتّى ولو كان أميًّا. ولكنّ الأعمال التّجاريّة الّتي مارسها متوسطو التّجّار والحرفيين أصحاب المحالّ محدودة الاتساع، كانت معرفة القراءة والكتابة أكثر أهميّة عندهم، طالما قصرت إمكاناتهم عن استخدام الكتبة المحترفين”.

وبذلك نستننج أنّ الكاتبة حاولت فك الاشتباك أولًا من ربط الثّقافة بالكامل بالعامل الدّينيّ فقط، وتوضيح أنّه كانت هناك روافد أخرى ثقافيّة متمثّلة في الكتب البعيدة عن أعين المؤسّسة الرّسميّة للتّعليم، كما وضّحت انتشار الكتابة والقراءة، وعلاقة ذلك بالنّهضة التّجاريّة، فربطت ذلك الانتشار بأصوله الماديّة، سواءً محليًّا أم إقليميًّا.

  • الثّقافة الشّفاهيّة للطّبقة الوسطى:

تتكوّن ثقافة الطبقة الوسطى من ثقافة شفاهيّة وثقافة مكتوبة، ترتبط المكتوبة بكلّ كبير بالسّوق وتعاملاته، لكنّ الجزء الآخر من الثّقافة هو الشّفاهيّ، حيث تقول نيللي حنا إنّه كان على درجة كبيرة من القوة والثّراء. وكانت أحد الأماكن المهمّة لنشر تلك الثّقافة هي المقاهي، التي انتشرت بالقاهرة انتشارًا عظيمًا؛ نتيجة انتشار البُّنّ كسلعة أولًا، وثانيًا لأنّ أسعارها كانت في متناول معظم سكان المدينة.

لكنّها تظلّ مرتبطة بالطّبقة الوسطى، فلم يكن يستطيع فقراء المدينة تحمّل نفقاتها، وكانت الطّبقة العليا تفضّل الاستمتاع في قصورها منعزلة. والمقهى كان يمثل نوعًا من المنتدى الثّقافيّ، رغم أنّه أيضًا كان يُدرج في إطار الثّقافة الشّعبيّة أو الجماهيريّة، حيث يرتبط بالألعاب والعروض المبتذلة، وتعاطي الأفيون والحشيش.

لكنْ في ذات الوقت ساعدت القهوة في تطوّر بعض الأشكال الأدبيّة، كالشّعر والحكايات، ووفرت منفذًا مهمًّا لتلك الأنشطة. وكان هؤلاء الرّواة متخصّصون تحديدًا في حكايات (أبو زيد الهلالي)، و(سيرة الظاهر بيبرس). وقد مثّلت القهوة أيضًا مكانًا خاليًا من الضّوابط والقيود المؤسّسية الرّسميّة، فالنّاس كانوا أحرارًا في فعل ما يريدون.

وتتحدّث نيللي حنّا أنّ الطّبقة الوسطى كانت تحمل دلالات قيادة ثقافيّة بالغة الأهميّة، فتلك الطّبقة يمكن من خلالها بروز قيادة ثقافيّة يمتزج في تركيبها الأبعاد الدينيّة والتّجاريّة والأدبيّة، فكانت ثقافة الطبقة الوسطى تتميّز عن ثقافة كبار العلماء، الّذين كانوا يعدّون أنفسهم حماة الدّين وحراس الأخلاق في المجتمع، والّذين يرتبطون بشكل قويّ بالسّلطة، وقيادات أقلّ قوّة مثل شيوخ الطّرق الصّوفيّة. وتستعمل نيللي حنّا مفهوم غرامشي عن (القيادة العضويّة) أو (المثقّف العضويّ). وربما تريد الكاتبة الإشارة، كيف كانت ثقافة الطّبقة الوسطى أرضًا خصبة لظهور ذلك؟ وتذكر الكاتبة بإسهاب العوامل الّتي يمكن أن تمثّل تفسيرًا لتلك القيادة الثّقافيّة للطّبقة الوسطى، وأحد أهمّ تلك العوامل التّعليم.

  • الطبقة الوسطى والكتب:

تقول نيللي حنّا: “إنّ نمو ثقافة الكتب عند الطبقة الوسطى الحضريّة القاهريّة، الّتي لم تكن تنتمي إلى الطّبقة الحاكمة اّلتي صُنعت من أجلها الكتب ذات المستوى الفنيّ الرّفيع، ولا إلى المؤسّسة الدّينيّة الّتي ارتبط بها التّعليم الدّيني، يُعد ظاهرة ثقافية ذات مغزى”.

انتشار سلعة كماليّة كالكتب، وزيادة الطّلب عليها يدلّ على ارتفاع الحالة الاقتصاديّة للطّبقة الوسطى وتحسّن معيشتها. كما انتشر في ذلك العصر الورق الرّخيص الّذي ساعد في تناقص أسعار الكتب. وتورد نيللي حنا كثيرًا من أشكال انتشار ثقاقة التّعامل بالورق في تلك الفترة، حيث استخدمت الوثيقة المدوّنة كدليل في المحاكم الشّرعيّة، وأصبحت تلك الوثائق مهمّة للغاية سواءً للمحكمة، أم للأشخاص أنفسهم، الّذين كانوا يطالبون بالحصول على نسخ من تلك الوثائق؛ لأنّها أصبحت أدلة مهمّة عند حدوث المنازعات، وبالتّالي فهي تمثّل نوعًا من الحماية الماديّة لمصالحهم.

مظهر آخر لانتشار الكتب، هو كثافة نسخ الكتب المسيحيّة القبطيّة، فيشير مجدي جرجس إلى تزايد أعداد المخطوطات الدّينيّة القبطيّة الّتي نسخها أراخنة الأقباط، وهم (أعيان الأقباط العلمانيين، وليسوا رجال الكهنوت) الّذين أُثروا ثراءً كبيرًا.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد رمضان

تدقيق لغوي: إياد سويطي - فلسطين

اترك تعليقا