حكاياتي مع نظرية الألعاب

تطبيقات شخصية لاستراتيجيات نظرية الألعاب

عام 1944، نشر عالم الرياضيات “جون فون نيومان” كتابَه نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي، و الذي أثار ضجة كبيرة، على الأقل بين علماء الرياضيات. الحقيقة أنه كان كتابًا صعبًا وضخمًا للغاية، لا يفهمه إلا المتخصصون في الرياضيات.

ودعوني أعترف أنّ هذا الكتاب كان أرذل كتاب حاولت قراءته في حياتي، وفشلت.. وجعلته مسندًا لبقية الكتب! للأسف هذا الكتاب جعلني أبغض نظرية الألعاب game thoery، بل وأوشَك أن يجعلني أنفر من القراءة نفسها.

لكن، بمرور الوقت وتنوُّع الكتب أحببت هذه النظرية، خاصّة بعدما انتشرت هذه النظرية أبعد من حدود الرياضيات لتصبح أداة قيّمة لشرح السلوك البشري. وأصبحت تُستخدم من قبل الدبلوماسيين وعلماء الأحياء وعلماء النفس والاقتصاديين وغيرهم الكثير في مجال الأعمال التجارية والبحوث والسياسة العالمية. وأصبحت هي و الإحصاء والاحتمالات أركانًا هامة لتحليل العديد من المواقف.

وعلى الرغم من الصعوبة النسبية في الرياضيات المستخدمة في نظرية الألعاب، فهي، بكل بساطة، علم التفكير الاستراتيجي. وتهدف هذه النظرية إلى تفسير آلية عمل الألعاب، والتي تكون في الغالب ألعابًا يُشارك بها شخصان فقط (لتبسيط أهداف كلّ لاعب ونتائج أفعاله)، وأحيانًا تكون أعقد من ذلك.

لا يعني هذا أنّ استخدام هذه النظرية يركز فقط على “الألعاب” فعلًا، بل هي تقوم بدراسة مسائل في الحياة الواقعية تسيرُ بطريقة مُشابهة لتلكَ الألعاب، ففي الأساس، أيّ مُنافسة يُشارك بها عدة أشخاصٍ يُمكن النظر إليها على أنَّها لُعبة، بطريقة أو بأخرى.

إعلان

ولقد مررت في حياتي ببعض التجارب اللطيفة التي ساعدتني فيها نظرية الألعاب على توقع سلوك الآخرين وتحليله، وإن لم أستطع تغييره إلا في حالات معدودة.

وأدعوكم معي الان  إلى الاستماع إلى حكاياتي مع نظرية الألعاب.

أولًا، أنا ومديري ومعضلة السجين Prisoner’s Dilemma

مديري مدمن شغل، يسهر كلّ يوم في المكتب إلى ال١٠ مساءً. وإدارتي بها ٤ موظفين وأنا الخامس، وكلنا مستوانا العلمي متقارب جدًا. كانت الوسيلة الوحيدة لإرضاء المدير ومن ثم الترقي هي البقاء بعد مواعيد العمل الرسمية في العمل، و كلما سهرت كلما فزت برضا سعادته.

اقترب موعد الترقية، ولمعت أعيُن الزملاء، وتوقعت ما سيفعلونه، فقلت لهم تعالوا نتفق على ما سنفعله.. فسخروا مني وطالبوني بالابتعاد لأَنِّي “مكبر دماغي”.

وعدت إلى منزلي وأنا أعرف يقينًا ما سيفعلون، حيث سيحاول كل فرد أن يبدو متفوقًا على الآخر في الالتزام بالعمل ومحبته.

نعم، أعرف بفضل أشهر ألعاب نظرية الألعاب، وهي: معضلة السجين. و هي تفسر سبب عدم تعاون طرفين شديدي العقلانية، حتى لو كان التعاون في مصلحتهما.

دعوني في عجالة أشرح هذه المعضلة لمن لا يعرفها:

سجينان (محمد وحسن) عُرض على كل طرف منهما الاعتراف على الآخر مقابل البراءة لمن يعترف أولًا. أما الثاني الذي لم يعترف فيحصل على عقوبة مشددة. في حالة اعتراف الطرفين في نفس الوقت على بعضهما، يحصلان على عقوبة متوسطة. في حال عدم اعتراف الاثنين يحصلان على عقوبة مخففة.

نلاحظ هنا أن أفضل اختيار بالنسبة للسجينين هو الاعتراف، مهما كان اختيار السجين الثاني (صمت أم اعتراف). فإذا صمت فستحصل على البراءة، وإذا اعترف ستحصل على عقوبة متوسطة.

والحقيقة أنّ الاختيار المثالي هو عدم اعتراف الطرفين فيحصلان على عقوبة مخففة، لكنهما لن يجرُؤا على اتخاذ هذا القرار لانعدام الثقة في الطرف الآخر الذي يحلم بالبراءة.

و بتطبيق ذلك على حالتنا، يتبين أن اختيار كل واحد من الموظفين -والذين أشهد لهم بالعقلانية الشديدة rationality- سيكون “السهر إلى الساعة العاشرة مع المدير” لأن اختيار أي ساعة أخرى قبل العاشرة يعطي الطرف الآخر فرصة للمزايدة على الآخر. أما السهر إلى ما بعد العاشرة فليس له قيمة لأنه يأتي بعد انصراف المدير نفسه.
و كما توقعت في اليوم التالي بقينا بعد ميعاد العمل جميعًا إلى الساعة العاشرة متساوين جميعا في عين المدير دون أي ميزة اكتسبناها نتيجة لقرارنا ( Nash Equilibrium ).

وكانت النتيجة أننا أجهدنا  أنفسنا إلى الساعة العاشرة دون مكسب، ولو استمع “الأغبياء” إلى كلامي واتفقنا على عدم البقاء بعد ساعات العمل الرسمية وغادرنا في ميعادنا، كنّا وصلنا لنفس النتيجة، وأجبرنا المدير على اتباع وسيلة أخرى لتقييمنا. تبًا للأغبياء، ولتنزل لعنة ” ناش” عليهم!!

ثانيًا، العشاء مع أولاد خالتي ومعضلة الأكل في المطاعم Dinner’s Dilemma

أذكر هذا الموقف تمامًا. في أحد الإجازات الصيفية عندما قررت، أنا وخمسة من أولاد الخالات، الذهاب إلى أحد المطاعم الباذخة لتناول وجبة الغداء على أن نقتسم جميعًا قيمة الفاتورة الإجمالية لطلباتنا من المطعم. أعطى الجرسون كلًّا منّا قائمة الطعام الدسمة، ليقرر كل منا أيّ الأطباق سيطلب.

لوهلة سريعة تصوّرت ما قد يدور في عقل أحد من أولاد الخالة لَوذَعيّ الذكاء.. سيقول لنفسه أنه سيطلب طبقًا غاليًا جدًّا، عادة لا يطلبه منفردًا، على أساس أنّ الفارق بين الطلب معتدل والسعر سيوزع  على بقية الأفراد، وبالتالي نسبة الزيادة التي سيتحملها على حصّته عند سداد الشيك ستكون أقلّ بكثير من الزيادة التي يكسبها من طبقه المرتفع. ويخشى أيضًا إن طلب طبقًا متوسطًا أو رخيصًا، فسأطلب الآخر طلبًا مكلفًا فيتحمل هو ما لم يستفد منه.

ابتسمت و توقعت ما سيحدث تمامًا، حيث سيفكّر كلّ منهم بنفس الطريقة، فهذا بالضبط تطبيق حَرفيّ لمعضلةٍ معروفة في نظرية الألعاب اسمها dinner’s dilemma، والتي فيها سيحاول أحدهم تعظيم منفعته إلى أقصى درجة دون التفكير في الآخر. وهي تمثل صورة أخرى من معضلة السجين مع عدد أكبر من اللاعبين.

ومع مَقْدَم الفاتورة بعد انتهاء الطعام، “لبسنا جميعا في الحائط” عندما رأينا قيمة ما سندفعه، حيث قام كلّ فرد منا بطلب أغلى الأطباق، وكان الأَولى أن نلتزم الاعتدال جميعًا وبدون جشع!

ثالثًا، تسوية الصراعات، وخناقات “أولاد” صاحبي

كان صديقي دائم الشكوى من المشاحنات المستمرّة بين ولديه “أحمد ومحمود” على أشياء كثيرة. على سبيل المثال، عندما يقوم بتقسيم قطعة كيك أو لحم بينهما مناصفة، فدائمًا ما يحتجّ أحمد على أنّ أخيه أخذ قطعة أكبر، والكارثة الأعظم لو قام الأكبر بتقسيم الكيكة بنفسه، فإنه يأخذ قطعة أكبر فعلًا، ولو قسّمها الأصغر، لقام بالمثل.

كانت آخر حلول صديقي تقسيم قطعة الكيك إلى نصفين فقط، ودعوة الأخوين للاختيار لينفي صفة الانحياز عن نفسه، فكانا يختلفان أيضًا على من يختار أولًا.

لم أستغرب كثيرًا من تصرّفات الأولاد، فالإنسان بطبعه يسعى إلى تحقيق مصلحته الخاصة من ناحية، كما أنّ النظر إلى ما في يد الطرف الآخر دائمًا عادة بشرية ربما يقف خلفها الحسد والطمع.

اقترحت على صديقي حلًّا لَوذعيًّا: نصحته بأن يطلب من أحد الأخوين أن يقوم بالتقسيم فقط، على أن يقوم الأخ الآخر بالاختيار.

نجح اقتراحي فعلًا، حيث أصبح من مصلحة الذي يقوم بالتقسيم أن يقسم بالعدل تمامًا حتى لا يخسر إذا اختار الآخر أي قطعة.

أعترف لكم يا أصدقائي أنني لست مبتكر هذا الحل، فقد اقتبسته من نظرية الألعاب التي بحثت بكثافة سيناريوهات تقسيم الكيك هذا بين فردين وأكثر. ولتبسيط الموضوع هروبًا من مصيدة الرياضيات، فلقد قصرت الحديث على القسمة العادلة بين شخصين أو لاعبين. ويسمى الأسلوب الذي اقترحته: “اقسِم واختَر divide and choose methods”، وهو الأسلوب الأمثل، حيث يقسم أحد الأشخاص الموارد أو السلع إلى قسمين متساويين من وجهة نظره، أما الآخر فيختار النصف الذي يفضله.

وهكذا، يُحفَّز الشخص ليقسم بالعدل على قدر ما يستطيع، لأنه إن لم يفعل، فقد يحصل على الجزء الأقل أو غير المرغوب فيه. ويخلق هذا الأسلوب قسمة دون حسد.

وطبعًا، الحكاية هنا ليست مشكلة تقسيم قطعة كيك فقط، لكنها تضمّ أي مشكلة تقسيم لأي مجموعة من السلع والموارد بين عدد من الناس لهم حق في هذه الموارد، بحيث يحصل كل شخص على حقه الصحيح دون إثارة لحسد أو غيرة، ونشاهدها كثيرًا في حالات الطلاق في الغرب، وإدارة المجال الجوّي للطائرات وغيرها من المحالات.

الواقع يا أصدقائي أنه بعيدًا عن هذه القصص البسيطة، فإن نظرية الألعاب، بالإضافة إلى كونها متعة كبيرة، توسع من مداركنا وتساعدنا على فهم الكثير من العلاقات المعقّدة في الاقتصاد والسياسة والأحياء  وعلم الاجتماع، فلا تحرموا منها أنفسكم.

ودعوني أرشّح لكم ثلاثة كتب بسيطة حببتني في نظرية الألعاب وعلّمتني كثيرًا:

١- Game theory : graphic guide
٢- the joy of game theory
٣- thinking strategically

 

إعلان

اترك تعليقا