درويش الحاضر دومًا.. رغم الرحيل

*وقد تكون جنازةُ الشخصِ الغريب جنازتي
لكنَّ أمرًا ما إلهيًا يُؤجِّلُها
لأسبابٍ عديدةْ
من بينها: خطأ كبير في القصيدةْ!
_ محمود درويش

عشر سنوات مرّت على صدور الأمر الإلهي على صاحب الأبيات ولم يتم تأجيله، عشر سنوات مرّت وغادر عالمنا محمود درويش الفلسطيني الرحّال، حاملًا بلده بين ثنايا قلبه.

هو مقاوم من طراز فريد، حمل قضية بلاده بقصائده فكان مدافعًا عنها، حاملًا لواءها بأرجاء الأرض، ولأجلها كان يرى استحقاقه للحياة: “على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة، على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة”

لم تُنسَ يا درويش ولن تُنسى قضيتك الأسمى التي ما لبثتَ طوال حياتك تدافع عنها، بل ظللت، وخلدت اسمك بقصائدك وكلماتك التي مازالت تردد حتى الآن بعد مرور عشر سنوات من وفاتك. وكلّ محب للشعر وبخاصة الشعر العربي لا يمرّ بدون القراءة لك، وبدون الاستماع إليك وأنت تلقي قصائدك، لا يمرّ بدون مشاهدة أمسياتك الشعرية والجماهير قلوبها تخفق حولك تستمع إليك بشجن ووقار.

لم تنس. كأنك لم تكن خبرًا أو أثرًا، بل كنت أنت المبتدأ والخبر. منك نبدأ وإليك ننتهي، مبهورين بعنفوانك، بأمسياتك أثناء شبابك، وحتى تلك بالسنوات الأخيرة التي ظهر بها أثر الزمن عليك وعلى هدوئك، على شيخ أثقلته السنون والخطوب.

بكل تأكيد أنت بشر مثلنا تربح حينًا وتخسر حينًا، ولكنك رابح دومًا كلّ هذا الحب وكل هذا الشوق الذي انغمسنا به كلما قرأنا إحدى قصائدك التي خلالها مشينا وهرولنا وركضنا وصعدنا وصرخنا معك وجُننا حتى أغمي علينا.

إعلان

استمعنا إلى شعرك بصوتك وبصوت من تغنّوا به، استمعنا إلى مارسيل خليفة يتغنى لك ويشجو بصوته العذب، ليتعرف إليك من خلال صوته مَن لم يكن يعرفك، استمعنا إلى إحدى مناضِلات فلسطين، الرائعة والجميلة التي رحلت عن عالمنا عن قريب ريم البنا، تتغنى بشعرك بألق وزهو.

لم تفارق كلماتك أحد محبيك إن لم يحفظوا بعض القصائد لك. بعض أبياتك حفرت بالذاكرة، كأننا ولدنا وتلك الكلمات بعقولنا.

خروجك من فلسطين، لم يكن هربًا مطلقًا ولكن مقاومة من نوع أخر، مقاومة بالكلمة التي ترهب العدوّ المغتصب الذي يريد إسكات صوت صاحبها. وكما يروي أحد أصدقائك الذي مازال على قيد الحياة بإحدى مقالته إحياءً لذكراك العاشرة لمجلة الهلال، يحكي بأنّ الموساد استهدف أحد الأصدقاء لكم بالعاصمة الإيطالية خلال حضور مؤتمر ثقافي، وخوفًا على حياتكم وضعتكم الشرطة الإيطالية بأحد الفنادق، ولكنك كما أنت لا تهاب الموت خرجت غير مكترث بالخطر الذي يحدق بك، خرجت -كما يُروى- لتجربة الموت.

كلّ مغترب عن بلاده وكلّ مرتحل يحنّ معك إلى خبز أمه وإلى قهوتها ولمستها، يعشق عمره لأنه يخجل من دمع أمه عند الوفاة، لأي سبب كان.

أحببتَ الحياة وقاومت بكل ما تملكه من سبل للمقاومة، وأرى سبيلك بالمقاومة من أقوى السبل، فالكَلِم كثيرًا ما يرعب، فهو يعري تلك الجماعات المغتصبة، يعرّي همجيتها أمام العالم، وهذا عكس ما يريدونه، تشبثت بالكلمات حتى جاء موعد الرحيل.

ورحلت ياصاحب القصيدة، بعد ارتحالك الطويل من بلادك الأحب إلى قلبك، فلسطين، ثم إلى الاتحاد السوفيتي دارسًا، وإلى مصر ولبنان وسوريا وقبرص وتونس، إلى أن استقررت بباريس آخر محطات حياتك، قبل أن يعود جثمانك إلى بلدك ليشيعه آلاف الفلسطينيين المحبين لك، كما بكل تأكيد شيعته آلافٌ مؤلفة حول العالم العربي والعالم أجمع.

رحل جثمانك ولكن لم ترحل ذكراك ولم يرحل أثرك، تركت خلفك ما هو أبقى وأشد تأثيرًا، تركت كلمات أقوى من الرصاص بوجه المحتلّ الغاصب.

* القصيدة كاملة: لا أعرف الشخص الغريب

إعلان

اترك تعليقا