رائعة يوسف السباعي أرض النفاق ولما تفوز الروايات الخيالية دائمًا

روايات يوسف السباعي الخيالية تقترب أحيانا من أعمال ساراماجو سواء أرض النفاق أو نائب عزرائيل، نفس الخيال البعيد رغم قدم هذه الروايات إلا أن الأفكار صادمة وكأن لم يفكر بها أحد من قبل رغم بساطتها الشديدة في التلاعب بالنفس البشرية، غرض هذه الروايات ومتعتها أيضا في كونها تضعنا أمام ألف سؤال مفتوح، متعة الوقوف أمام إنسان في موضع جديد تماماً تنتظر منه فعلًا يمثل أغلب الإنسانية وتزن هذه الأفعال بعقلك أيضا فتصبح طرفاً في اللعبة.

بطل رواية أرض النفاق كما يعرف الأغلب تبعًا لشهرة الفيلم يجد دكاناً لبيع الأخلاق، لا مبرر لوجود دكان مهجور بهذه القيمة فجأه لذا يضطرب البطل ويظنها مزحة، ولتكملة المزحة يطلب الشجاعة ليجربها فمن لا يحب أن يصبح مغواراً مثل عنترة ويرد الأذى عن الناس ويتباهى بجرأته.

شجاعة

يتحول البطل إلى شخصية شجاعة ولأن الشجاعة مرتبطة في الأذهان بالمصارعين والفتوات فأن التحول يأتي علي شكل شد في العضلات وتناسق ملحوظ في الجسد، ولكن للأسف كانت هذه الشجاعة وحدها وفرحة البطل بها أنسته عقلة فانطلق إلى الشارع فرحاً بها لا يتباطأ في إظهار شجاعته، من الجميل أن يكون الانسان شجاعًا ولكن ليس متهوراً، صادف البطل العديد من المواقف المحرجة والمضحكة على مدار اليوم انتهت بكونه مضروباً في كل مرة حتى أوشك أن يفقد حياته في نهاية اليوم.

 “أيها الناس .. لا تحزنوا .. لا تحزنوا .. كيف تحزنون على شيء .. وأنتم لا شيء .. فيم حزنكم .. وبعد لحظة أو لحظات ستضحون رمة لا تستطيع حتى أن تحزن؟ أيها الناس، لا تحزنوا على ما ضاع فأنت أنفسكم ضائعون.. كيف يحزن ضائع على ضائع؟.. وهالك على هالك؟.. وزائل على زائل

مروءة

كالمستجير من الرمضاء بالنار

أثار الشجاعة لم تكن فعالة لذا اضطر إلى استبدالها بالمروءة وإذا كانت الشجاعة جعلته متهور فإن المروءة جعلته مغفل، أكثر من موقف عادى ينقلب إلى كارثة خسر المال، الملابس والكرامة وانقلب اليوم إلى جحيم سلسلة من الخدع فقط لإنه أراد أن يساعد، منطق الشخصية ذات المروءة العاليه كان ذو منهج خاطئ، عند مقابله الفقير ويقرر إعطاءه كل ما يملك وهي خمسون جنيهًا فإنه يقارن هذه الخمسون بألاف أخرى تلقى تحت أقدام الراقصات والفارق إنه ليس هو من يدفع الألاف، ولكنه من يقع في الأفخاخ ويلقي بالجنيهات إلى من لا يستحق ليكملوا عملهم على مغفلين أخرين.

“إن هؤلاء البشر كلاب مسعورة، وأفاع رقط .. فإذا دفعتك مروءتك إلى أن تعطيهم إحسانًا فاقذف به إليهم ثم اجر من أمامهم .. اعطهم الفضل وفر منهم .. لا تنتظر حتى مجرد الشكر .. انج بنفسك .. واذكر المثل .. اتق شر من أحسنت إليه “

  • بين الفضيلتين

لم يكن البطل هو المخطئ عندما اختار إحدى الفضليتين بل كان المجتمع من حوله هو من حول الشجاعة إلى رعونة والمروءة إلى غفلة، تصرفات البطل وإن كانت إندفاعية خالية من التفكير فهي ليست خاطئة بالكامل، من يتوقع أن الشحاذ مقطوع الأطراف هو متدرب لئيم؟
لا أحد

إعلان

بل الحقيقة أن الشقاء والتعاسة أصبحو منتشرين لدرجة خداع الناس بتسول، وأصبح لدى الناس حجه لعدم مساعدتهم في الطرقات بل والنظر إليهم شرذً واتهام كل من يساعدهم بالجنون والغفلة بينما هم العقلاء يعلمون إنها خدعة، ولا أعلم لما لم يلاحظ العقلاء إن تدبير التسول واختلاط الحابل بالنابل لا يدل إلا على زيادة المعاناة لا قلة الفقراء.

بالنسبة إلى الشجاعة يمكن تدبيرها بأكثر من جهة يمكنك الوعظ بـ (خليك في حالك) وما إلى ذلك من نصائح يغلب فيها الجبن والخمول على الإنسان.

“أخلاق، شجاعة، نزاهة، إخلاص… هذه كلها أشياء موجودة فى نفوسكم، ولكنها راقدة فى غفوة لقد علاها الصدأ من طول الركود شيء واحد هو الذى يحركها وهو أن تتبعوا بإخلاص قول القائل “عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”.

ولأن البطل كان مصاباً بداء الأخلاق كان كل ما يقابلة من أحداث يخضع لعقل الحقيقة، الجرائد، الحكم، الأحزاب، الزواج وحماته.

مواقف كوميدية سوداء كثيرة…

النهاية العظيمة بلد بلا نفاق

تخيل بلدة كاملة ذات أخلاق حميدة بلا نفاق أو غش أو خداع قد يبدو لدى البعض مثل الجنة ولكن ظهر العكس حيث لا أقنعة ولا رضا بل صدق كامل ومشاعر واضحة وعلى لسان أحد الأبطال (هل يطيق الرجل العيش مع زوجته دقيقة واحدة بلا نفاق)، تنقلب الأحوال وتتسارع ويتسبب قول الحق والشجاعة والصدق إلى فساد الزواج وإصابة الحماوات بالسكتات القلبية!

تخيل النهاية فعلًا صعب بلا نفاق كيف نتعامل مع المديرين والشرطة والقضاء، إذا ما حاجتنا إلى ملايين المشاريع الأخلاقية الخداعة وقد أصبحنا بلدًا بلا نفاق، ووجد البطل نفسه في بلد منهار تمامًا لم يتعامل يومًا بشفافية ووضوح و يُحاكم أولا بتهمة الإخلال بالأمن ثم بتهمة أشد فظاعة وهى الأنانية في الأخلاق

تنتهي رواية أرض النفاق وأثرها لا ينتهى مثل باقي الروايات الخيالية، أعطى الكاتب مثلا بفضيلتين وترك لنا الباب مفتوح بألاف التخيلات، وقد بدأت بالفعل في تخيل كارثة الصدق وحاولت أن أجاري أسلوب الكاتب الساخر ومحاكاه ما يمكن أن يحدث في الشارع المصري إذا أصبحنا نقول الصدق في كل المواقف!

لهذا التلاعب مع المخ سهل وممتع

بعد تغير الوقائع الصغيرة كيف يمكنه أن يقلب العالم، لهذا مثلًا نجحت رواية العمى، لقد غير سارماجو معطى واحد وهو الإبصار إلى العتمة وأصبح لدينا عالم كامل يجب أن نتخيله في ثانية دون بصر، كم هائل من التخيلات ليصبح الفرد فجأه في حالة من المتعة تدفعة لإكمال الرواية ليروي عطشه لمعرفة القصة ولكن بطريقة أكثر هدوءًا ويبداء وينتهى وبداخله أسئلة ومواقف كثيرة لا ينهيها ويبقي في حالة المتعة هذه لفترة طويلة.

لهذا دائما تنجح الروايات الخيالية. تنجح قصص الرعب المبتذلة أحيانا لهذا السبب بينما تكتسح الروايات ذات الطابع الإنساني النفسي وتلقى نجاجاً مهولا تماماً مثل رواية أرض النفاق لذا قيمتها بخمس نجوم من أصل خمس وليس بالكثير وربما يتهمنى البعض بالميل إلى يوسف السباعي أو لأن أسلوب الكتابة سهل جدًّا ولكن هذا أهم عوامل نجاحها، السخرية والسوداوية والتخيل ثلاث عناصر صعبة لوضعها منفردة ووضعها الكاتب في قالب واحد لذا أظل أحترم يوسف السباعى دائمًا وأبداً كواحد من أفضل الكتّاب لديّ.

يا أهل النفاق !! تلك هى أرضكم.. و ذلك هو غرسكم.. ما فعلت سوى أن طفت بها و عرضت على سبيل العينة بعض ما بها.. فإن رأيتموه قبيحاً مشوهًا، فلا تلوموني بل لوموا أنفسكم.. لوموا الأصل و لا تلوموا المرآة.
أيها المنافقون!! هذه قصتكم، ومن كان منكم بلا نفاق فليرجمني بحجر”

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: آية حسن

تدقيق لغوي: ضحى حمد، محمد حسنين، أميرة قطيش

اترك تعليقا