رحلةٌ في كابوس بَيولوجي

تخزن ذاكرتنا صورًا وتُوَثِّقُ تواريخًا لأحداث وقعت لنا في الماضي، أثَّرت بنا، وربما غيّرت عدة مفاهيم كنا نحسبُها ثابتةً، أو راسخة، ولربما الآن وأنت تقرأ هذه الأسطر، تفكِّرُ في حدثٍ معينٍ جعل تذكُّرَه غير عاديّ، بل مرفقًا بمشاعر معيّنة، وأحيانًا روائح خاصة بلحظة وقوعه، أو على الأقل لها ارتباط به، لكن بما أن العنوان فيه مصطلح كابوس، سيكون أمرًا أيسر لو كان الحدث الذي تتذكّره الآن، ما هو إلا مضمون خيالٍ أو تعبيرٍ لدماغك أثناء نومك!

أيْ: تنَقُّلٌ قمت به بعدما طلبتَ من جسمكَ الإسترخاء، وأسدَلتَ سِتَار عينيك، أو بتبسيطٍ ثالث، هل تحمل في بياناتك حلمًا سافرت فيه ولا تزال تفاصيله مرسومةً و مخططةً في متحف مخِّك؟!

لكنّك اليوم تحمل من المحطة تذكرة سفرٍ مختلف، فربما أنت الآن؛ تقرأ المقال في الليل واقترب موعد نومك، أو لايزال هذا الموعد بعيد، لكن قدومه هذه المرة سيجعلك تبدأ الرحلة، فتغمض عينيك وتبدأ تجاوز مراحل النوم إلى أن تبدأ في نسيان الحدود بين الحلم والواقع، فتنغمسُ تمامًا في واقعك الجديد المحسوس لكن بشكل مختلف، ويبدأ انتظارنا لرجوعك، أو مراستلك لنا.

الرسالة الأولى:

فتحتُ عيني، فإذا بي أجد المكان مظلمًا قليلًا، ومزدحمًا بشدة، مِن دَفعٍ وجذبٍ وأصوات للفقاعات، شعرت أنني في واد يدفعني إلى منحًى معين، إلّا أنّ هذا الوادي لزجٌ كثيرًا وممتلىءٌ أكثر، فأنا لم أعلم كيف وصلت إلى هنا أو متى! كلّ ما عَلِمت هو أنكم أخبرتموني بشأن تذكرة المحطة، وأخذها مباشرة بعد الانتقال الليلي من الوعي إلى عالم الأحلام، ركّزت نظري جيدًا كي أستوعب ما يحدث، فإذا بي أرى أقراصًا منبَعِجة من الوسط، حمراء اللون!

كانت تجري في نفس المنحى الذي أجري فيه أنا، فجأةً شعرتُ أنّ سرعتنا نقصت قليلًا، فلاحظت أن هناك أشياء تدخل وأخرى تخرج بشكلٍ منتظمٍ ودوريّ، هذه الأشياء متكونة من ثلاثة وحدات رئيسية، أثارت إنتباهي واحدة، قريبة مني كثيرًا، أمعَنتُ النّظَر؛ فوجدت أن هناك قطعتين متماثلتين مترابطتين، وأن كل قطعةٍ تتكون من جزءٍ في الوسط تحوم حوله سحابة، بدأت تتضائل كثافة السحابة، لتظهر لي حبّات تأخذ مسارًا دائريًا بالجزء المركزيّ، أردت أن أعد عدد تلك الحبات، لكنّ قرصًا سريعًا أخذها فجأة دون إنذار، وهذا ما يحدث لأغلب هذه القطع، لكن استقرت قربي واحدة، فكانت فرصةً لي كي أعرف ماهيَّتَها،

إعلان

كانت بها حباتٌ تدور حول مركزٍ به حباتٌ مختلفة ومتنوعة، عددها ستَّةَ عشر، فجأة كأني أُلهمتُ أنها ذرة الأوكسجين، فقلت متعجبًا، إذن هما ذرتا أوكسجين تُشَكِّلا ثُنائي الأوكجسين، تنحّيتُ قليلًا جانبًا، فإذا بي أرى فتحات عديدة في جدار المكان الذي أتواجد فيه، ركّزت رؤيتي داخل هذه الثقوب الصغيرة التي تتوزع بشكل منتظم، فلاحظتُ أنَّ بعد هذا الجدار تتواجد أكياسٌ ضخمة!

أكياس تنتفخ فتدخل جزيئات الأوكسجين، مع جزيء آخر أظنه ثنائي ذرَّتَي الآزوت، ليخرج هذا الأخير مع جزيئَي أوكسجين مرتبطة بعنصر فهمت أنه الكربون، أي ثنائي أوكسيد الكربون. من ملاحظاتي فهمت أن هذه الأقراص إنما هي كرياتٌ حمراء، تقوم بعمليات تنفسية، فوددت أن أشارك أصدقائي الجدد عملهم ومساعدتهم، لأن هناك الكثير من جزيئات الأوكسيجين، لكن هناك عدد قليل من أصدقائي، فتسائلت لمَ عدد الكريات قليل؟ فإذا بكُرَيَةٍ حمراء اللون تدفعني وتقول لي أسرع، الأعضاء تحتاج للأكسدةِ الخَلَويّة! لَبَّيتُ النّداء، وكانت هذه رغبتي منذ البداية.

توجهت نحو العديد من الوحدات الأوكسجينية لأحمل بعضها، فوجدت أنه يمكنني حمل ثلاث وحدات دون أي مُشكِل، ففضّلت أن أحمل جزيئة رابعة، لكنّ ذلك كان صعبًا حقًا.

اكتفيت بثلاث فقط، وهذا مايفعله أغلب الأصدقاء، بعد ذلك استمرينا في الرحلة، إلى أن وصلنا إلى بوابة فُتحت لنا فجأة، فدخلنا بشكل مكتظّ وسريع في مكان يُشبه نفّاخة يزدادُ حجمها بسبب دخولنا، ويعقُبُ ذلك ضغطٌ كبيرٌ علينا، جعل البوابة التي دخلنا منها تنغلق، فتساءَلتُ عن سبب هذا الضغط وما هي عِلّتُه، استمر هذا الضغط إلى أن انفتحت بوابةٌ أخرى، خرَجَت منها أغلب الكريات الحمراء والوحدات والأفراد المتواجدون، إلا قليلًا بقيَ معنا، فانغَلَقت كلتا البوابتين علينا، منتظرين ماذا سيحدث بعد ذلك، في نفس الوقت شغل تركيزي مجموعة كانت أمامي تُشبه الخيوط، تحيط بالمكان الذي أتواجد فيه، وبها أشياء سريعة تتحرك كأنها تيارات كهربائية في منحًى واحد،


وكعادتي، حاولتُ فهم ما يحدث، وإيجاد تفسيرٍ للوضع الذي أنا فيه، بعد ثوان معدودة انفتحت البوابة الأولى ثانيةً، ودخلت مجموعات أخرى زاحمتنا ورفعت الضغط مجددًا وبشكلٍ كبير، حتى تضَخَّم المكان جاعلًا بوابة الدخول منغلقة، لكن بعد ذلك مباشرة ظهر مخرجُ البوابة الأخرى، فتقدَّمْتُ وخرَجتُ من المكان مسرعًا، لأسقط في مكانٍ مشابهٍ كثيرًا للمكان الأول، إلّا أنه أوسع،

وانتفخ بسبب تجمع كل الوحدات فيه وتراكمها في الداخل، تَبِعَ ذلك مباشرة حدث غَلقِ البوّابة التي مررنا بها، فشعرتُ أنني الآن في ضغطٍ أكبر وأشدّ، فهمت أين أنا وأصبحت متأكدًا، وبِتُّ أعلم ما القادم، تمّ إرسالنا كقذائف سريعة عبر البوابة الأخيرة نعم! ذلك المكان الغامض، كان قلبًا نابضًا قويًا، لقد أدركت أن تلك الدَّفعة القوية كانت لِجَعلِنا نصل لأبعد نقطة، و إيصال الأوكسجين، كما أنَّ قوة انغلاق البوابتين يُعدّ السبب في سماع دقات القلب، إضافةً إلى أن الذي عبرنا إليه أولًا، كان الأُذَين الأيسر، لأنّ الكُريات التي تحمل الأوكسيجين تمُرُّ عَبرَهُ، والخيوط وإشاراتها الكهربائية كانت تُنشِؤها خلايا مسؤولة عن تلقائية تقلصات القلب، وعبورنا الثاني كان نحو البُطين الذي به نسيجٌ عضليٌّ قويّ رَمَانا بطاقةٍ كبيرة.

بعد ابتعادنا عن القلب، بدأت أتسائل: كيف يمكنني معرفة الحيِّز الذي عليَّ إيصال الأكسجين إليه، أو ما هي الإشارات التي وَجَبَ تتَبُّعُها؟
في طريقنا، بدأَت ترتَفِعُ الحرارَةَ تدريجيًّا، إلى أن رأيت تجمُّعًا كبيرًا للكريات الحمراء، وتصادمات قوية تحدث فجأة، وكان هناك الآلاف من جزيئات ثنائي أوكسيد الكربون، فلاحظتُ أن هناك كريات سريعة تأتي لتضع الأوكسجين، وتأخذ ثنائي أوكسيد الكربون، دون تردُّد، قلت في نفسي: لا يمكنني أن أبتعد عن هذا المكان حتى أفهم ماذا يحدث هنا.
عندما تترك هذه الكريات الأوكسيجين، يخترق هذا الأخير محيطنا عابرًا فتحات صغيرة إلى المكان المجاور، دقَّقتُ جيدًا، وحاولت تَتَبُّع جزيء ثنائي أوكسجين واحد، لكن ما بدا لي واضحًا، هو أنَّ هذا الجزيء دخل لمكان يشبه مصنعًا كبيرًا به معدَّاتٍ معقَّدة، تقدَّمْتُ قليلًا نحو تلك الفتحات كي يسهل التلصُّصُ أكثر على ما يحدث لها داخل المصنع، أو المعمل المنظَّم الذي استنتَجتُ لاحقًا أنه خلية بيولوجية، تعمل بشكل دقيق جدًا.

لكن الأمر الذي كان صعبًا في تَتَبُّع جزيئة ثنائي الأوكسجين، أولًا: أن هناك الآلاف منها، ثانيًا: أنني أراها تدخل في تكوين الجزيئات الكبيرة من بروتينات ومكونات الجدار الخلوي.
إضافةً لِمُعيقاتٍ أخرى جعلتني أفقد الجزيئة التي ودَدْتُ ملاحظة ما يحدث لها، لكن لحسن حظي؛ أن هناك كُرَية أخرى وضعت ثنائي الأوكسجين، و كانت واحدة من الذرَّتَين تبعثُ إشعاعًا بشكلٍ مُستمر، وهذا سَهَّلَ عليَّ أمرَ تَتَبُّعِ الذي سيحدث لها.
بعدما تم إدخال الجزيئة إلى داخل الخلية، بقيت أنتظر، وأتَتَبَّع الجُزيئة، في هذا الوقت، شعرتُ أن المكان الذي نتواجد فيه يتوسَّع، و الحرارة ترتفع أكثر، بدأ الكل يتصرف بغرابةٍ كبيرة، وأصبَحَت الحركة أكثر صعوبةً عن ذي قبل، كانت الكريات كلها في توتُّرٍ كبير، كما أنَّ هناكَ أفرادًا آخرين غريبين لم أكن أريد التواصل معهم منذ البداية، أبرزوا أسلحةً عديدة، كما أن الفتحات التي كانت صغيرة، وتسمح بمرور وحدات معينة ومحدودة، أصبحت كافية لمرور ”الغرباء” للداخل، بقيت ساكنًا لفترة من الزمن، ليدهشني مشهد مُرَوِّع، حرب من نوع آخر، أولئك الأفراد الغرباء يُطلِقون موادًا تُهاجم مجموعات غريبة، سمعت أنها مستعمرات بكتيرية.

كانت آلية الهجوم جذابة إلى حد ما، حيث أن الغرباء هم خلايا أيضا تضم حمض نووي.
مرت الكثير من الخلايا قربي متجهة بشكل دقيق نحو مكان الحرب، لكن أثناء المرور لاحظت أن هذه الخلايا تتبع أثرًا من نوع شيميوكينات، والذي كان سببًا في إرشادهم نحو الحرب.

أُعجِبتُ كثيرًا بعمل الخلايا الدفاعية التي رأيتها، فاقتربتُ من إحداها، كانت قد وصلت قبل مدة، فأردتُ أن أعرف كيف ستبدأ الهجوم لأُقلِّدَها.
اقترَبَتْ هذه الخلية من البكتيريا، وبدأت بتفريغ حويصلات بها مواد، من أجل إحاطة البكتيريا بهذه المواد؛ التي تعد ألغامًا مدمّرة وأفخاخًا، تَدَمَّرت أجزاءٌ منها بشكلٍ تدريجيّ، وطبعًا، لم أستطع المساعدة.

تركت تلك الجزيئات الثلاثة من الأوكسجين، وتوجّهت مُلاحِقًا كرياتٍ حمراء أخرى، لأنّي عَلِمتُ أنّ هناك المئات ضاعت في هذه الحرب التي كنتُ فيها، وكانت سبب عدم تواجد عددٍ كافٍ من الأفراد عندما كنا ننقل الأوكسجين.
أثناء ابتعادي عن بؤرة المعركة، رأيت هناك خليةً كبيرةً فيها نواة، تأتي قرب كريَةٍ حمراء، فتلُفُّ جِدَارها على هذه الأخيرة، وتُدخِلُها ببطىءٍ في الجوف مُلتَهِمةً إيّاها، إلى أن اختفى وجودها، وبقِيَ شكلُها واضحًا داخل الخلية.

ظنَنتُ بدايةً أنها ربما عمليّةُ ترميمٍ وإصلاحٍ، أو تدريب، لكنّ الظاهر أن شكل الكُرَيَة بدأ يندثر، إلى أن أصبحت الخلية الكبيرة عادية جدًا، وأخرجَت على جِدارها بعض المواد التي كانت تحمِلُها الكُرَيَة في البداية.

صُعِقْتُ من هذا المشهد، كيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ لقد دمَّرَتها تدميرًا كاملًا، وبعد ذلك تنشر للأفراد ما أخذَتْه؟ لم أُرِد السكوت عن الأمر، غضِبتُ كثيرًا، لكنَّ الخليّة تلك أدرَكَت أنني كنتُ أراقِبُها، وسرعان ما توجهت إليَّ مُسرعة، تجَمَّدَتْ موادّي البيولوجية في مكانها ولم أستطع الحركة، ظانًّا أَنّها الآن ستقوم بنفس العملية، إلا أنّها قالت بصوتٍ يُطَمئِن: أأنتَ جديدٌ هنا؟! كم مضى من عمرك منذ قدومك من النخاع العظميّ؟
فقلت: مالذي قمتِ به؟ لمَ دمَّرتِ تلك الكُرَيَة الحمراء؟ وأخذتِ ما كانت تحمل؟

أجابتني هادئة: لقد تأكَّدَت شُكوكي بأنَّكَ جديدٌ هنا، فوَجَبَ عليَّ أن أُوَضِّحَ لكَ أمرًا مهمًا يُعَدُّ أساسًا من أسس الحياة، وسنةً مستمرةً مُنذ القِدَم؛ كلُّ مادةٍ لها دورٌ مهم في المنظومة، تنشأ في اللحظة أَلِف، وتبقى متواجدة إلى اللحظة باء؛ حيث تندمج مع مادةٍ أخرى أو تتحول إلى عنصر آخر، وقد يسمى هذا التحول ”تفاعلًا” عندما يكون إزاءَ إتمام عمليةٍ تحتاج لنواتج هذا التفاعل، أو يكون هذا التحول ”موتًا” عندما تنتقل مواد الفردِ من حالة استقراره واستمراره في التواجد ككائن حي، إلى حالةٍ يفقدُ فيها هذه الخاصيّة.

وبما أنك جديدُ الولادة، سأعطيك مثالًا يُبعِدُ الضّبابية عن جداركَ الخَلَويّ، ويجعلك تفهم، أنت قد جئت من مكان الالتهاب -وربما فَهِمتَهٌ حربًا لأنّك رأيت أسلحةً وتدميرًا هناك-، لقد كانت هناك خلية من فريقي أنا، تقوم بإطلاق ذخائر تسمى البروتستاغلوندين على المكان المحيط بنا، وجعلِه أوسع من أجل حضورنا وحضور الوحدات القتالية الأخرى، إذن؛ هذه الذخائر تساعد الخلايا -المكوِّنة لما يحيط بنا- على التمدد، وهذا نوع من التحول الذي سمَّيته لك تفاعلًا، أما الموت البيولوجي؛ فهو الذي لاحظتَه أنت أثناء ابتلاعي للكُرَيَة الحمراء، هل اتَّضَحَ الفارق؟
قلت أنا: نعم، لكن لم تقومي بتعليل الحدث، ما الدافع؟

أجابت: دون تسرُّع، فإن الأحكام المتسرعة تدَمِّرُ أحيانًا حياةً كاملة، نعم؛ فلولا تأنِّ العمال هنا من خلايا وأنزيمات، لربما تسارعت التفاعلات وتدمَّرت المنظومة البيولوجية فور حدوث ذلك، لكنَّ العملَ الجادّ، والجُهد الفعّال مَنَعَا ذلك، ومثالنا البسيط هو الهوميوستازي.
أما تعليلي لماذا قمت بذلك؛ فهو أمرٌ وجب عليكَ أنتَ استنتاجه، فلو سألتُكَ ما هدف وجودك؟ ما هي وظيفتك؟ ستقول لي أنك هنا لإيصال الأوكسجين، إذن ماذا لو جاء وقتٌ كانت فيه كل الخلايا مكتفيةً بقَدْرِها من الأوكسجين؟ وكل ثنائي أوكسيد الكربون؟ ماذا ستفعل أنت؟
قلت سأبحث عن عمل آخر! أجابت مباشرة: أجل فلديك قدرات عديدة، وليس فقط حمل الأوكسجين وإيصاله، بل يمكنك حمل العناصر المُغَذِّية مثلًا، كما يمكنكَ المشاركة في القتال ضد الأعداء.

قلت: نعم معكِ حق، لكن كيف يمكنني المشاركة في القتال، وأنا لا أملك مدَّخرات بروستاغلوندين، ولا مواد أنزيمية أُهاجم بها البكتيريا؟!
قالت: لكن كل كائن يقوم بوظيفته البيولوجية حسب القدرة المجبول عليها؛ لذلك أقول لك، تلك الكُرَيَة الحمراء التي رأيتها، جلبت معها عدوًا ميكروبيًا ملتصقًا بجدارها، وقد تمكَّنْتُ من إمساكِه بفضل مساعدة العوامل المُكَمِّلة البروتينية لها.

قلت: لكن كان عليك تدمير العدو فقط، وذلك بفصلهما عن بعضهما!
قالت: لكن هي التي أرادت التضحية بنفسها، وأنا أقدِّر لها ذلك، وحكمَتُهَا من هذه التضحية؛ أنها لو أطلقت الأعداء المايكروبية قُربي، على الأغلب لم أكن لأستطيع إمساكها، وهروبها سيعني نقل التعفن لهذا المكان، وإنتاج أعداء آخرين، ليكبر الأمر، لكن تضحيتَها هذه، جعلتنا قادرين على تفادي حدوث مشكلة كانت ستقتل ملايين من الأفراد دفعةً واحدة في زمنٍ وجيز.

كما أنَّ الأشياء التي كانت تحملها واتّهَمْتَنِي أنتَ بأنّي أخذتُها منها، إنّما كانت معلومات أعطتني إياها كي أستعملها و أُظهرَها للخلايا الدفاعية الأخرى، لكي يستطيعوا تحديد أي كتيبة خلايا لديها سلاح فعال ضد هذا العدو.

طبعًا هذا كان هدفها وسبب وجودها، فقد انتهى وجودها بتأديتها لواجبها، وهذه قِيَمٌ تَفهمُها الأفراد البيولوجية، وعليكَ أنت كذلك فَهمُها واستيعابُها، فأنتَ في أغلب الأحوال ستقضي 120 يومًا من حياتك تنقل الأوكسجين من الرئتين إلى الخلايا الأخرى، والعناصر المُغذّية من الأمعاء إليها، إضافةً لوظائفَ أُخرى قد تكون التّضحيةُ من بينِها، فلَو كان سبب وجودِكَ هو التضحية، ألن ترضى بذلك؟! لكنّ الأمر الجميل؛ أن وجودَنا ليس له ضروريّة واحدة، فكما تعلم؛ فالخلايا لها عدة حاجات تقضيها لها أنت.

قلت لها مقتنعًا: لقد فهمت ما ترمينَ إليه، والآن استوعبت الأمور.
قالت: هيا امضِ إلى وظائفكَ المتاحة، وَضَع في بالك بأن هناك أحداثًا انتظاميّة، يمكننا توقُّعها، تجعلنا نتابع أشغالنا بشكلٍ مستمرّ، لكن أحيانًا يحدث توترٌ نتيجة لعوامل معينة تأتي بغتة، فيتوجَّب علينا أثناءَها تغيير أعمالنا؛ وهذا سبب تعدد مهاراتنا وقدراتنا، امضِ إلى عملك!
قلت: نعم فهمت، شكرًا لكِ، وابتعدتُ مستفهمًا شاغلًا تفكيري حول الحياة، والعديد من الأسئلة، بعد معرفة أجوبة جميلة واضحة، لكن لا أخفي رغبتي في أن أصبح مقاتلًا أيضًا، يدفع الأعداء بتلك الأسلحة البيولوجية الفريدة، توجَّهَ بعد ذلك ناظري نحو جُزيئةٍ قادمة، تضُمُّ جوابًا آخرًا بحثتُ عنه، هذه الجُزئية تحتوي على ذرَّتي هيدروجين وذرَّة أوكسجين؛ إنها جُزيئة الماء، لكن ذرَّة الأوكسجين تلك، هي التي كانت جوابًا لي؛ فقد كانت الذرَّة المُشِعَّة التي ودَدْتُ أن أعلم أين ستذهب، وماهي وظيفتها عندما كانت مرتبطة بذرَّة أوكسيجين أخرى، لكن بما أنها تتركب في جُزَيئةِ الماء، استنتجتُ أنها تدَخَّلَت في الأكسدةِ الخلوية من أجل إنتاج الطاقة عبر استقبال بروتونات الهيدروجين المطرودة إلى ماتريس الميتوكوندري، وهذا الطرد كان سببًا في تكون جُزيء الطّاقة أدينوزين ثلاثي فوسفاط، وجُزيئة الماء التي حملت معها الجواب على سؤالي، وبينما أنا أتابع المسير، تدمَّر المكان أمامي، فإذا بالكثير من الكريات الحمراء خرجَتْ بسرعة.

حاولت أنا الابتعاد، لكنّ الجذبَ كان كبيرًا، وما إِن خرجت، حتى فقدت الرؤية مؤقتًا، لأسمع مباشرةً أصواتًا خائفة، إنها خليةٌ سرطانية! ما إن وَضَحت رؤيتي، رأيتُ خليّة مختلفةَ اللون، وذات أشكالٍ غريبة، وأسمع أصواتًا تأمرني، هيّا اهجِم!
لكن كيف؟! ماذا عليّ أن أفعل؟!

أنهيت هنا رسالتي، لكنّي أملِك الرغبة في استعمال تذكرة المحطة أكثر، واستغلالها للحصول على أجوبةٍ لعدّة أسئلة، فأُرفِقُها في رسالةٍ ثانية، ساردًا أحداثًا متسلسةً  أخرى.

التدقيق الّلغويّ: أفنان سعادة.

إعلان

اترك تعليقا