عندما تُفسِد السياسةُ الإبداع

تحدّث علاء الأسواني كثيرًا عن روايته التي صدَرَت مؤخرًا: “جمهورية كأَنَّ”، قبل أن يكتبها بوقتٍ طويل، وظلَّ مُتابعوه ومُحبّوه يتابعون أخبارها حتى صدرَت أخيرًا عن دار الآداب اللبنانية، بعد أن رفضت دور نشر مصريّة طباعتها، خوفًا -كما قيل- من فكرتها، خاصّة وأنها تستعرض -في جزء كبير منها- فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلّحة عَقِبَ تنحّي مُبارك في فبراير 2011.

وعلى ما يبدو؛ فإنّ كثرة الكلام عن الرواية، قبل وأثناء كتابتها، والمشاكل التي واجهت طباعتها داخل مصر، أضَرَّها أكثر ممّا نفعَها، حيث إنَّ كثرة الكلام عنها أوحى للبعض أنها سوف تكون عملًا أدبيًا لا مثيل له، تُماثِل أعمالًا خالدة في تاريخ الأدب المصري والعالمي، لكن التوَقُّعَ خاب، وجاءت الرواية، بعيدًا عن الموقف السياسي مما تطرحه، عادية جدًا، بل ونمطيّة لحدٍ بعيد، ولعلَّ رواياتٍ سابقة للكاتب نفسه، ك “عمارة يعقوبيان” أو “شيكاجو”، تُعتبر من زاوية فنية ونقدية، أكثر قيمة وأعلى فنيًا وروائيًا.

ولعل المشكلة هنا هي الموقف السياسي الشخصي للكاتب، والذي يبدو واضحًا وجليًا على طول الرواية، حيث جاء مباشرًا وصريحًا بدرجة كبيرة جدًا، ما أثّرَ بالسّلب على الشّكل العام للرواية وأفقَرَها فنيًا.

إن كلّ كاتب له، بالطبع، موقفٌ سياسيّ من الأحداث الجارية في بلده وفي العالم، وله رأيه فيها، لكن ذلك مجاله، إذا أراد التعبير عنه، هو كتابة المقالات، ولكن في فن الرواية فإن الأدوات والأسلوب تتخذ، ويجب أن تتخذ، شكلًا آخرًا، وقطعًا هذا لا يَخفى على كاتب بحجم وخبرة علاء الأسواني، لكنها السياسة، لعنة الله عليها، التي لا تتوانى عن إفساد كل شيء في حياتنا، حتى الروايات!

لا يخفى على أحد أنّ الروايات تُكتَب لإعلانِ موقفٍ ما، قد يكون سياسيًا أو اجتماعيًا، أو تسجيلًا لحالة أو طبيعة فترة زمنية ما، لكن ذلك يحدث عن طريق “الحكي” المسترسِل على لسان الراوي أو الأبطال، دون إعلان رأيِيّ صريح، لأن القيمة هنا في عرض الحدث بحدِّ ذاته وليس التّعليق عليه، تمامًا كما في روايات مثل “1984” لچورچ أورويل، أو “الأم” لمكسيم چوركي، أو “الثلاثية” لنجيب محفوظ، وغيرها من الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب، حيث برع كُتّابها في الوصف والرّصد، وتقديم أفكارهم وآرائهم، على لسان أبطالهم، دون أي تجاوز أو خرق لأسس وأساليب العمل الروائيّ، وهذا هو السبب في أن مثل تلك الروايات تصلح للقراءة في أي زمان.

إعلان

للمرة الثانية، بعد روايته “نادي السيارات“، لم يكن الأسواني مُوَفَّقًا في اختيار شخصيّاته وأبطاله، فكلها شخصيات نمطيّة أحاديّة الجانب، وعلى الأغلب فإنه نَقَلَها من الواقع إلى الرواية دون أي لمحة أو لمسة فنية، وما عدا شخصية المسيحي الثريّ، الممثل الفاشل وخادمته، وقصة الحب التي جمعتهما، فإن حضور باقي الشخصيات ظل باهتًا وبدون أي تأثير، حتى لو أننا حذفنا نصفها، لن يحدث أي خلل أو ارتباك في الرواية، ومن المؤكد أن الأسواني قابلها أو تعرف عليها خلال أحداث الثورة، أو فيما تلاها من أحداث، لكن الواضح أن رغبة المؤلف في كتابة رواية سياسية صادمة، جعلَته يتناسى أولويات كتابة الرواية، وهي تقريبًا نفس الرغبة التي دفَعَتْهُ لكتابة أسماء الأعضاء التناسلية للأنثى بألفاظها العامية الدّارِجة دون أي مُواراة أو تلميحات.

وفي المُطلق، فإن تلك الرواية ينطبق عليها قول الشاعر القديم:
أوردها سعد وسعدٌ مُشتَمل
ماهكذا تُورَدُ ياسعد الإبل
وكلنا أمل أن يعود علاء الأسواني في المرة القادمة لكتابة الرواية بعيدًا عن السياسة وألاعيبها التي تضره ولا تنفعه!

إعلان

اترك تعليقا