هوكينج… انتصار العقل على المادة

بعد 76 عامًا قضاها على ظهر البسيطة، رحل ستيفن هوكينج الرّجل الذي شغل الدنيا وفتن الناس، ذلك الرجل الذي تقلّصت حدود عالمه فلم يعد قادرًا على الحركة قيد أنملة، فانزوى في كرسيّه المتحرّك وقد تشابكت يداه فوق صدره، ومالت رأسه جانبًا، عاجزًا عن النطق الطبيعي في مشهد يظهر العجز الجسدي التام.

وهنا تأتي المفارقة، فهذا الجسد الأسير فاقد القوى حوى عقلًا جبّارًا تخطّت قدراته الزمان والمكان، عقلًا خرج علينا بنظريات فيزيائية جبارة حارت عقول الأصحاء في فهمها، ليصير رمزًا لانتصار العقل على المادة، وتحديًا للمقولة الشهيرة (العقل السليم في الجسم السليم).
وكما يُروى في أسطورة كاهنة دلفي في العصور اليونانية القديمة، فقد وُهب الرّجل قدرات عقلية خارقة عوضًا عن حرمانه من حيوية الجسد، وبالطبع فإنّ ذلك كله ربما يمثّل جانبًا بسيطًا من حياة الرّجل، فإنّ المخالطين له وجدوا فيه إنسانًا حقيقيًا مسيطرًا، مستمتعًا بالحياة، ذا عزم هائل وروح دعابة طاغية، وبجانب نقاط ضعفه الطبيعية فإنّ نقاط قوته تبدو أكثر وضوحًا، كان دومًا مسرورًا بأنه العالِم المشهور الذي يحضر جمهور ضخم محاضراته العامّة ليس بدافع الاهتمام بالعلم فقط وإنما رغبة في التعرّف عن قرب على رمزٍ للتحدي.

نعم، حظي الرجل بإعجاب العامة في كلّ مكان، لكنّ التقدير الحقيقيّ لهوكينج جاء من المجتمع العلمي، نظرًا لإسهاماته العديدة المثيرة للإعجاب، والتي شكّلت في الكثير من الأحيان ثورة في فهم الفيزياء والكون.

خبر حزين في عيد الميلاد الحادي والعشرين

بينما يستعدّ الشابّ ستيفن هوكينج لإطفاء إحدى وعشرين شمعة في الاحتفال بعيد ميلاده، نزل عليه الخبر الصاعقة. ستيفن أنت مصاب بمرض عضال غير محدّد، ويتبقّى لك شمعتان فقط لتضيفهما إلى تورتة عيد الميلاد. وبينما يخضع الجميع في هذه الحالات للاكتئاب إلا أنّ الفتى لم يستسلم وبدأ عقله في النظر إلى الأسئلة الأساسية المتعلقة بالطبيعة الفيزيائية للكون، وبدلًا من أن يقضي عليه مرض التصلّب الجانبي الضروريّ، وهو مرض تنكّسي عضليّ مميت، في ظرف عامين، تمكّن ستيفن هوكينج من العيش لـ55 عامًا أخرى.

ورث ستيفن هوكينج التفكير الحرّ من والدته

ولد ستيفن هوكينج في أسرة تضمّ والده، فرانك الطبيب الخبير في طبّ المناطق المدارية، ووالدته ايزوبيل التي تأثّر بها شديدًا في إطلاق الحرية لعقله. ولد هوكينج في أكسفورد وانتقل في الثامنة من عمره إلى سانت ألبانز هيرتفور دشاير. وقد تلقّى تعليمه في مدرسة سانت ألبانز وفاز بمنحة لدراسة الفيزياء في جامعة أكسفورد. واعترف معلّموه بقدراته غير العادية، لكنّه لم يأخذ عمله بشكل جديّ. على الرّغم من حصوله على درجة من الدرجة الأولى في عام 1962م، إلا أنه لم يكن متميزًا بشكل خاصّ.

إعلان

قرّر أن يواصل مسيرته في الفيزياء في كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، متوقعًا أن يدرس تحت إشراف عالِم الكونيات الفريد “فريد هويل”. لكنه شعر بخيبة أمل عندما وجد أنّ هويل غير قادر على تدريسه، وبدلًا منه سيكون دينيس سيكام؛ تلك الشخصية غير المعروفة لهوكينج في ذلك الوقت. في الواقع، أثبت هذا الأمر أنّه كان مصادفة لأنّ سيكام أصبح شخصية مثيرة في علم الكونيات البريطاني، وسيشرف على العديد من الطلّاب الذين سيكونون أسماء رائعة في سنوات لاحقة (بما في ذلك الفلكي اللورد ريز).

عندما كان ستيفن هوكينج في عامه الثاني من الأبحاث في كامبريدج، كنتُ قد قدّمت نظرية رياضيّة تقوم على أساس افتراضات قليلة معقولة (باستخدام تقنيات طوبولوجيا/ عالمية غير مألوفة إلى حدّ كبير للفيزيائيين في ذلك الوقت) أنّ نجمًا هائلًا ينهار بشكل كبير سيؤدي إلى تفرّدٍ في الزّمكان حيث توقّعت النظرية أن يتقوّس الزمكان بلا حدود – مما يمنحنا صورة ما نشير إليه الآن على أنه ثقب أسود، لا يمكن لأيّ جسم أو إشارة ضوئية الهروب من خلاله. (تمّ تقديم هذه الصورة من قِبَل اوبنهايمر وشنيدر في عام 1939م، ولكن فقط في الظروف الخاصة حيث تمّ افتراض التناظر الكروي الدقيق. وكان الغرض من هذه النظرية الجديدة هو تجنّب هذه الافتراضات غير المتماثلة وغير الواقعية). في هذا التفرّد المركزيّ كانت نظرية أينشتاين الكلاسيكية للنسبية العامة تصل إلى حدودها.

في هذه الأثناء ، كان ستيفن هوكينج يفكر في هذا النوع من المشاكل مع جورج إليس ، الذي كان يحضر شهادة الدكتوراه في كلية سانت جون في كامبريدج. كان الرجلان يعملان على نوع أكثر محدودية من نظرية المفردة التي تتطلب فرضية تقييدية غير معقولة.

أنا و ستيفن هوكينج

عند سيكام اجتمعتُ أنا و ستيفن هوكينج ولم يمرّ وقت طويل حتى عثر هوكينج على طريقة غير متوقعة لاستخدام نظريتي، بحيث يمكن تطبيقها بطريقة عكسية، لإثبات أنّ الانفجار العظيم لا يقتصر فقط على النماذج الكونية المتناثرة للغاية، ولكن أيضًا على النماذج الأخرى غير المتناظرة. ولأنّ بعض الافتراضات في نظريّتي لا تسير بصورة طبيعية عند استخدامها لتفسير بداية الكون مما هي عليه عند تفسير انهيار الثقب الأسود، فقد شرع هوكينج في دراسة التقنيات الرياضية اللازمة لتعميم تلك الفروض في الحالتين على حدّ السواء، ووجد ضالّته في نظرية مورس والتي هي عبارة عن بناء رياضيّ مُحكَم، يشكّل آلية يعمل عليها علماء الرياضيات النشطين في مجال الدراسة الطوبولوجية لفضاء ريمان. ورغم ارتباط نظريات انهيار الثقوب السوداء والانفجار العظيم النظرية النسبية لآينشتاين إلا أنّ الفضاء عند أينشتاين لا يتفق تمامًا مع فضاء ريمان ولا نظرية موريس.

طوّر هوكينج نظريّتي (بمساعدة، في جوانب معينة، من قِبَل تشارلز ميسنر وروبرت جيروش وبراندون كارتر) وكان قادرًا على استخدامها لإنتاج نظريات جديدة ذات طبيعة أكثر قوة، حيث يمكن أن تكون افتراضات نظريتي ضعفتْ إلى حدّ كبير، وأظهر أنّ التفرّد من نوع الانفجار الكبير كان أحد الآثار الضمنية لنسبية أينشتاين العامة في الظروف العامة.

بعد بضع سنوات (في بحث نشرته الجمعية الملكية في عام 1970م، وفي الوقت الذي أصبح فيه ستيفن هوكينج زميلًا لكلّ من جونفيل وكايوس كوليدج في كامبريدج)، توحّدنا معًا لنشر نظرية أكثر قوة والتي غطّت تقريبًا كلّ العمل السابق في هذا المجال.

ثقوب سوداء مستقرة وأخرى دوارة

عام 1967م، نشر فيرنر إسرائيل ورقة غير عادية كانت تتضمن أنّ الثقوب السوداء غير الدوارة عندما تستقر في النهاية لتصبح ثابتة ستصبح بالضرورة متناظرة بشكل كرويّ تمامًا، وجاءت النتائج التالية التي قام بها كارتر وديفيد روبنسون وآخرون لتعميم فرض إسرائيل ليشمل الثقوب السوداء الدوارة، المعنى الضّمني هو أنّ الهندسة الفراغية النهائية يجب أن تتوافق بالضرورة مع مجموعة من الحلول الصريحة لمعادلات آينشتاين التي عثر عليها روي كير في عام 1963م.

كان المكوّن الرئيسي للحُجّة الكاملة أنه إذا كان هناك أيّ دوران موجود، فيجب أن يكون هناك تناظر محوريّ كامل، وقد تمّ توفير هذا المكوّن أساسًا بواسطة هوكينج عام 1972م.

الاستنتاج الملحوظ جدًّا لكلّ هذا هو أنّ الثقوب السوداء التي نتوقّع العثور عليها في الطبيعة يجب أن تتوافق مع هندسة كير هذه.
وكما علَّق عالِم الفيزياء الفلكية النظريّ سوبرامانيان شاندراسيخار، لاحقًا، فإنّ الثقوب السوداء هي أكثر الكائنات المجهرية مثاليةً في الكون، والتي يتمّ إنشاؤها من الفضاء والزمن؛ علاوة على ذلك، فهي أبسط؛ حيث يمكن وصفها بدقّة من خلال هندسة معروفة بوضوح (وهي لغة كير).

بعد عمله في هذا المجال أسّس هوكينج عددًا من النتائج المهمّة حول الثقوب السوداء؛ مثل الجدال بأنّ أفق الحدث (سطحه المحيط) الذي يجب أن يكون ذو مجال طوبولوجي.

بالتعاون مع كارتر وجيمس باردين في العمل المنشور في عام 1973م أنشأ بعض التشابهات الرائعة بين سلوك الثقوب السوداء والقوانين الأساسية للديناميكا الحرارية، حيث تبين أن مساحة سطح الأفق وجاذبية سطحه متشابهة مع الكميات الديناميكية الحرارية للإنتروبيا ودرجة الحرارة.

سيكون من الإنصاف القول أنّه في الفترة النشطة للغاية التي أدّت إلى هذا العمل، كانت أبحاث هوكينج في النسبية العامة الكلاسيكية هي الأفضل في أيّ مكان في العالم في ذلك الوقت. اتّخذ هوكينج وباردين وكريتر سلوك الديناميكيات الحرارية للثقوب السوداء ليكون أكثر قليلًا من مجرّد تشبيه.

بعد عام أو أكثر من ذلك أظهر جاكوب بيكنشتاين أنّ مطالب الاتّساق الفيزيائي _في سياق ميكانيكا الكم_ تشير إلى أنّ الثقب الأسود يجب أن يكون له في الواقع انتروبيا فعلية (الانتروبيا مقياس فيزيائي للاضطراب) يتناسب مع مساحة سطح الأفق، لكنه لم يتمكّن من تحديد عامل التناسب على وجه التحديد.

ومع ذلك فقد بدا، من ناحية أخرى، أنّ درجة الحرارة الطبيعية للثقب الأسود يجب أن تكون صفرًا تمامًا، بما يتناقض مع هذا التشابه، حيث لا يمكن لأيّ شكل من أشكال الطاقة أن يهرب منها، ولهذا السّبب لم يكن هوكينج وزملاؤه مستعدّين لاتخاذ تشابههم على محمل الجدّ.

ثم حوّل هوكينج انتباهه إلى التأثيرات الكموميّة فيما يتعلّق بالثقوب السّوداء، وشرع في حساب لتحديد ما إذا كانت الثقوب السوداء الصغيرة الدوارة التي ربما تكون قد خُلقت في الانفجار الأعظم قد تشعّ طاقة دورانها. وما لبث أن خرج على العالم بفرضه الشهير عن أنّه بغضّ النّظر عن أيّ دوران، فإنّ الثقوب السوداء ستشعّ طاقتها – التي تعني حسب معادلة آينشتاين – كتلتها.

وعليه، فإنّ أيّ ثقب أسود لديه درجة حرارة غير صفرية، حيث يتّفق بالضبط مع قياس باردين كارتر هوكينج. علاوة على ذلك، استطاعت هوكينج أن تقدّم القيمة الدقيقة لثابت تناسب الإنتروبيا الذي لم يتمكّن بيكنشتاين من تحديده. هذا الإشعاع القادم من الثقوب السوداء التي تنبّأ هوكينج يشار إليه الآن بإشعاع هوكينج. على أيّ ثقب أسود من المتوقّع أن ينشأ في العمليات الفيزيائية العادية، فإنّ إشعاع هوكينج سيكون ضئيلاً للغاية، ومن المؤكّد أنّه لا يمكن رؤيته مباشرة بأيّ تقنيات معروفة اليوم. لكنّه جادل بأنّ الثقوب السوداء الصغيرة جدًّا يمكن أن تكون قد نتجت في الانفجار الأعظم نفسه، وأنّ إشعاع هوكينج من هذه الثقوب يمكن أن يتراكم في انفجار نهائيّ يمكن ملاحظته.

يبدو أنه لا يوجد دليل على حدوث مثل هذه الانفجارات، مما يدلّ على أنّ الانفجار الأعظم لم يكن مريحًا إلى هذا الحدّ كما تمنّى هوكينج، وهذه كانت خيبة أمل كبيرة له. هذه الإنجازات كانت بالتأكيد مهمة في الجانب النظري. لقد أسسوا نظرية الديناميكا الحرارية للثقب الأسود: من خلال الجمع بين إجراءات نظرية الكمّ (المجال) مع نظرية النسبية العامة، أثبت هوكينج أنه من الضروري أيضًا إحضار موضوع ثالث، الديناميكا الحرارية. ورغم أنّ تلك الإسهامات يتمّ اعتبارها عمومًا على أنّها أفضل مساهمات هوكينج إلا أنّه لا يمكن إنكار انعكاساتها عميقة لنظريات مستقبلية في الفيزياء الأساسية، لكنّ الطبيعة التفصيلية لهذه الانعكاسات لا تزال مسألة نقاش حاد.

استطاع هوكينج نفسه أن يستنتج من كلّ هذا (على الرّغم من أنّه ليس قبولًا عالميًّا من قِبَل فيزيائي الجسيمات) أنّ تلك المكونات الأساسية للمادة العادية – البروتونات – يجب أن تتفكّك في نهاية المطاف، على الرّغم من وجود معدّل اضمحلال يتجاوز التقنيات الحالية لمراقبته.
كما قدّم أسبابًا للاشتباه في أنّ قواعد ميكانيكا الكمّ قد تحتاج إلى تعديل، وهي وجهة نظر بدا أنه يفضّلها في الأصل.
ولكن في وقت لاحق (لسوء الحظ، في رأيي الخاصّ)، توصّل إلى وجهة نظر مختلفة، وفي مؤتمر دبلن الدوليّ حول الجاذبية في يوليو 2004م، أعلن علانيةً عن تغيير في العقل (وبالتالي التنازل عن رهانٍ مع عالم الفيزياء في كاليفورنيا جون برسكيل John Preskill) بشأن تنبّؤه الأصلي بفقدان المعلومات داخل الثقوب السوداء.

من الثقوب السوداء إلى الجاذبية الكمية

بعد عمله في الثقب الأسود حوّل هوكينج اهتمامه لمشكلة الثقل الكمّي، وتطوير أفكار بارعة لحلّ بعض القضايا الأساسية. تعتبر الجاذبية الكمية – التي تنطوي على فرض الإجراءات الكمية لفيزياء الجسيمات بشكل صحيح على بنية الزمكان – هي المسألة الأساسية الأكثر أهمية في الفيزياء. أحد أهدافها المعلنة هو إيجاد نظرية فيزيائية قوية بما يكفي للتعامل مع التفرعات الزمانية الكلاسيكية للنسبية العامة الكلاسيكية في الثقوب السوداء والانفجار الأعظم.

عمل هوكينج، حتى هذه النقطة، على الرّغم من أنه كان قد ضمّن إجراءات ميكانيكا الكمّ في إطار الزمكان المنحني في نظرية آينشتاين العامة للنسبية، إلا أنّه لم يقدّم نظرية الجاذبية الكمية، حيث يتطلّب ذلك تطبيق إجراءات الكَمِّية على الزمكان المنحني الخاصّ بآينشتاين نفسه، وليس فقط على الحقول الفيزيائية داخل الزمكان المنحني.

طوّر هوكينج مع جيمس هارت إجراءً كميًا للتعامل مع التفرّد الكبير، ويشار إلى هذه الفكرة باسم لا حدود، حيث يتمّ استبدال التفرّد بـ غطاء سلس، وهذا يشبه ما يحدث في القطب الشمالي للأرض، حيث يفقد مفهوم خطّ الطول المعنى (يصبح المفرد) في حين أنّ القطب الشمالي نفسه له هندسة جيّدة تمامًا.

لفهم هذه الفكرة، احتاج هوكينج إلى التمسّك بمفهومه للزمن التخيّلي (أو Euclideanisation)، والذي كان له تأثير تحويل الهندسة الزائفة ريمانيا هندسة زمكان أينشتاين إلى فضاء ريماني Riemannian أكثر اعتيادية.

على الرغم من براعة العديد من هذه الأفكار، إلا أنّه لا تزال هناك صعوبات جمّة (واحدة من هذه هي الطريقة التي يمكن بها تطبيق إجراءات مماثلة على التفرّدات داخل الثقوب السوداء، والتي هي إشكالية بشكل أساسيّ).

العديد من الطرق الأخرى التي تتبع جاذبية الكَمّ في جميع أنحاء العالم، ومع أنّ إجراءات هوكينج، رغم احترامها الشديد والتحقيق فيها، ليست هي الأكثر متابعة، على الرّغم من أنّ جميع الآخرين لديهم نصيبهم من الصعوبات الأساسية أيضًا.

تاريخ موجز للزمن

في نهاية حياته، واصل ستيفن هوكينج بحثه في مشكلة الجاذبية الكمومية، والقضايا ذات الصلة من علم الكونيات. لكن في الوقت نفسه، جنبًا إلى جنب مع اهتماماته البحثية الصارمة، ازداد انخراطه في تعميم العلوم، وعلى أفكاره الخاصة بشكل خاصّ. بدأ ذلك بكتابة كتابه الناجح المذهل تاريخ مختصر للزمان (A Brief History of Time, 1988)، والذي تُرجِم إلى حوالي 40 لغة وباع أكثر من 25 مليون نسخة في جميع أنحاء العالم.

كان ستيفن هوكينج دوما حريصًا على التمتّع بشهرته، حيث أخذ العديد من الفرص للسّفر ولديه خبرات غير عادية (مثل النزول إلى أعماق منجم، وزيارة القطب الجنوبي وخضوعه لخطورة السقوط الحرّ) بالإضافة دومًا لمقابلة أشخاص بارزين آخرين. في السنوات الأخيرة أصبحت محاضراته العامة أكثر تميزًا؛ إذ صاحبتها عروض بصرية رائعة. فبعد أن كانت المادة البصرية المصاحبة للمحاضرة عبارة عن رسومات خطية على الورق الشفاف يقدمها أحد الطلاب، شهدت السنوات اللاحقة استخدام عناصر مرئية مثيرة للإعجاب من إنتاج الكمبيوتر، بينما كان هوكينج يسيطر على المادة اللفظية بواسطة صوته المنتَج بالحاسوب الأمريكي. كذلك تميّزت كتبه الشهيرة بالصّور عالية الجودة والرسومات المنتجة بواسطة الحاسب كما في كتابيه (مختصر تاريخ الزمان الزائف 1996م، والكون في قشرة جوز 2001م)، ولم يغِب الأطفال أيضًا عن بال هوكينج، فمع ابنته لوسي قام بكتابة كتاب علوم الأطفال مفتاح جورج السرّيّ للكون (2007م)، وعمل كمحرّر ومؤلف مشارك ومعلّق للعديد من أعمال العلوم الشعبية الأخرى.

التكريم

حصل هوكينج على العديد من الأوسمة الرفيعة والتكريم؛ على وجه الخصوص فقد انتُخب زميلًا للجمعية الملكية في سنّ مبكّرة جدًّا وعمره 32 وتلقّى أعلى شرف له، وسام كوبلي، في عام 2006م. في عام 1979م، أصبح الأستاذ رقم 17 لكرسي لوكاسي للفلسفة الطبيعية في كامبريدج، بعد 310 عام على تولّي السير إسحاق نيوتن لنفس المنصب. أصبح رفيقًا شرفًا في عام 1989م. ظهر ضيفًا في البرنامج التلفزيوني ستار تريك: الجيل القادم، وظهر بشكل رسوم متحركة على سيمبسون The Simpsons، وتمّ تصويره في فيلم نظرية كلّ شيء عام 2014م.

حياته الأسرية

من الواضح أنه يدين بقدر كبير لزوجته الأولى جين وايلد، التي تزوّجها في عام 1965م، والتي أنجب منها ثلاثة أطفال، روبرت ولوسي وتيموثاوس. كانت جين داعمة بشكل استثنائي له بطرق عديدة. وقد يكون أحد أهم هذه الأمور هو السماح له بالقيام بنفسه بأداء بعض الأمور غير الاعتيادية في مثل حالته، فقد كان شخصًا ذا إصرار غير عادي. كانت لديه الرغبة دومًا في أداء شئونه بنفسه، ولعلّ هذه العزيمة هي التي ربما أبقت عضلاته نشطة بطريقة تؤخّر ضمورها، وبالتالي تباطؤ تقدم المرض. ومع ذلك، استمرّت حالته في التدهور، حتى لم تتبقَّ أيّ حركة تقريبًا، وكان بالكاد يمكنه إلقاء خطابه.

في عام 1985م، وأثناء وجوده في سويسرا، أصيب بالتهاب رئويّ حاد، وكان من الضروريّ إجراء شقّ القصبة الهوائية لإنقاذ حياته، وربما أنّ هذه المناوشة مع الموت قد أدّت فيما يبدو إلى دفع تقدّم مرضه التنكسي البطيء إلى التوقّف الافتراضي. ومع ذلك، فإنّ جراحة القصبة الهوائية أفقدها قدرته على النطق نهائيًا، ومن هنا جاءت أهمية جهاز الكمبيوتر المتّصل بكرسيّه المتحرك والذي زُوّد ببرنامج توليد للكلام من شركة إنتل يتمّ تفعيله عن طريق كاميرا تراقب اهتزازات جفون الرّجل التي يشير بها إلى الحروف المعروضة على شاشة أمامه. في أعقاب مواجهته للالتهاب الرئوي أصبح محاصرًا في منزله بالأطباء والممرضات، وانفصل عن جين ليتطلقا في عام 1995م.

في العام نفسه تزوّج ستيفن هوكينج من إيلين مايسون، التي كانت واحدة من ممرضاته. أخذ دعمها شكلًا مختلفًا عن أسلوب جين. في حالته البدنية الأضعف، كان الحبّ والرعاية والاهتمام الذي قدمته له مستدامًا في جميع أنشطته. ومع ذلك، وصلت هذه العلاقة إلى نهايتها وتطلقا في عام 2007م.

على الرغم من ظرفه الجسدي الرهيب، كان دائمًا ذا نظرة إيجابية إلى الحياة. كان يتمتع بعمله، وبالشراكة مع علماء آخرين، كان محبًا للفنون ومغرمًا بالأسفار. في بعض الأحيان، كان بإمكانه أن يُظهر شيئًا من الغطرسة غير المألوفة بين الفيزيائيين الذين يعملون في الطليعة، وكان لديه سلسلة استبدادية. ومع ذلك يمكنه أن يُظهر تواضعًا حقيقيًا يمثّل علامة العظمة.

كان لدى ستيفن هوكينج العديد من الطلاب، صار بعضهم أسماء كبيرة في عالم الفيزياء. ومع ذلك، فإنّ كون المرء طالبًا لدى هوكينج لم يكن سهلاً. كان معروفًا أنه كان يدير كرسيه المتحرك على قدم الطالب الذي يستثيره. حملت تصريحاته سلطة كبيرة، ولكنّ صعوباته الجسدية غالبًا ما تسببت بإبقاء طلبته في منطقة الغموض؛ فقد يكون بمقدور زميل له أن يفهم القصد من تعبيراته، ولكنه سيكون مسألة مختلفة بالنسبة لطالب غير متمرّس. ولمثل هذا الطالب، قد تكون الدراسة بحضرة هوكينج تجربة مروّعة. فقد تطلّب هوكينج من الطالب متابعة بعض الطرق الغامضة في البحث، دون أن يبدي سببًا لذلك. وكانت تعاملاته مع المسائل الفيزيائية وكأنه كشف الوحي – وهو أمر لم يكن من الصّعب التشكيك فيه، وإذا تمّ تفسيره وتطويره بشكل صحيح، فسيؤدي بالتأكيد إلى حقيقة عميقة.

ربما كان هذا هو الانطباع الذي بقي لنا من ستيفن هوكينج، وربما سيبقى حيًّا بسبب تلاميذه.

إعلان

اترك تعليقا