طبيعة نزعة المسالمة ومعناها

تأليف: مانويل دافنبورت - ترجمة: دكتور جميل عباس ريان

لقد دبَّ الخلاف بين الفلاسفة حول تعريفهم لمعنى مصطلح المسالمة، وهذا ما سنوضّحه من خلال عملية المسح السريعة والشاملة لبعض الكتابات التي تعرّضت لتعريف مصطلح “المسالمة Pacifism”. فبعض السُلطات تُعرِّف “مبدأ المسالمة” على أنه: “الاعتقاد بأنّ استخدام العنف لأي سبب يكون خاطئًا دائمًا”، ويسمّي كلّ من فوشن (fotion) والفستروم (Elfstrom) هذا “مبدأ المسالمة القوي full-bodied”، ويدعوه كلّ من براون (brown) وماروديس (Marrodes) “مبدأ المسالمة القطعي Categorical”، وأنا سأتبع رينولد نيبور  (Reinhold Niebuhr) وأُطلق عليه “مبدأ المسالمة المطلق Absolute Pacifism”، بينما تُعرِّف بعض السُّلطات الأخرى “مبدأ المسالمة” على أنه:”الاعتقاد بأنه من الخطأ استخدام العنف كوسيلة لحل الصراعات الدولية”. وتسمِّي جيني تيكمان (Jenny Teichman) هذا بـ”المناهضة لمبدأ الحرب”، ويسميها بيتر بروك (Peter Brock) بـ”المناهضة للعسكرية”، وأنا سأتبع “نيبور” مرة أخرى وأدعوها “مبدأ المسالمة المناهض للحرب”.

لم يكن التمييز بين هذين التعريفين شأن المثقّفين أو الباحثين فحسب، ولكنّ اختيارك واتّباعك هو ما يجعل الفرق حقيقيًا أو واقعيًا وعمليًا. فعلى سبيل المثال؛ قد لا تعارض الضرورة المنطقية في استخدام العنف من قبل الشرطة أو الوالدين كوسائل لحلّ المشاكل الداخلية أو المنزلية. ولكن لو أنك داعي سلام مطلق فإنك ستعارض أو تخالف كلًّا من استخدام القوة الجسدية من قِبَل الشرطة وعقاب الوالدين.

على الصعيد الآخر، فإنّ التمييز بين “مبدأ المسالمة المطلق” و”مبدأ المسالمة المناهض للحرب” يُعَدّ ذا أهمية عملية.

إنّ العديد من دعاة السّلام المُطلَق، وعلى سبيل المثال “تولستوي Tolstoy” جادل بأنه من الخطأ أن تشارك في أو تدعِّم نشاطات أيّ دولة لأنه لكي تحكم يجب أن تكون عنيفًا، وهو ضدّ العنف من أساسه.

ليس هذا فحسب، بل إنّ داعي السلام المناهض للحرب يخالف الاعتقاد بأنه من الصحيح أخلاقيًا في ظروف محددة الدخول في حربٍ مع أُمَم أخرى. وكان من المقترح أنّ اسم العَلَم لهذا الاعتقاد الذي يعارضه دعاة السلام المناهضين للحرب هو العسكرة. وبالرغم من المحاولة فإنّ هذا الاقتراح لا بدّ أن يُرفَض؛ إذ كما يشير كيجل اكجيسباك (Kjell Akjelsback) فإنّ مصطلح العسكرة “ازدرائيّ بشكل عميق”.

إعلان

ولكي نقول أنّ شخصًا ما “عسكريّ” فإننا ننسب إلى هذا الشخص صفاتٍ شريرة. وعلى النقيض فإنّ مصطلح “داعي السلام” هو مصطلح وصفيّ ومحايد أخلاقيًا. فلو سمعتني أدعو شخصًا ما “داعي سلام” فإنك لا تعلم إذا ما كنت أقصد إهانته، ولكنك ستعرف ذلك لو أنني أدعو شخصًا ما “بالعسكري”. وهذا لأنّ العسكرة ليست الاعتقاد بأنّ الحرب ضرورية أحيانًا وصحيحة أخلاقيًا ولكنّها الاعتقاد بأنّ المؤسسات العسكرية وأشكال اتّخاذ القرار لها السيادة ولا بدّ أن تحلّ محلّ المؤسسات المدنية وأنماط اتّخاذ القرار.

وهذا الاعتقاد يدعو للّوم لأنّ من يتبنّاه هم هؤلاء الذين يعملون في الخدمة العسكرية ولهذا فإنه يخدم الذات أو المصلحة الشخصية. وأما الاعتقاد الآخر فهو الاعتقاد بأنّ الحرب تكون ضرورية أحيانًا ومشروعة “أخلاقيًا” وهذا هو المقابل لمبدأ السلام، وكما أدرك أولًا الفريد فاجتيس (Alfred Vagts) فإنه يتطلب اسمًا منفصلاً، واقترح فاجتيس تسميته “الطريقة العسكرية”. ولكن لكونه يعدّه ممارسة فضلًا عن كونه اعتقادًا، فلن يفي بالغرض، ولكن يوجد مصطلح مُتاح بالفعل ومعروف اصطلاحيًا بأنه مقابل مبدأ المسالمة وسيفي بالغرض؛ هو Bellicism الذي سأستخدمه بمعنى “الاعتقاد بأنّ الحرب تكون أحيانًا ضرورية ومبرَّرة أخلاقيًا في حلّ المشكلات الدولية”.

ويعرَّف “مبدأ المحاربة” أو “مبدأ الدعوة إلى الحرب” بأنّه المقابل الجدليّ لـ”مبدأ المسالمة المناهض للحرب”. ولتسمية المقابل الجدلي “لمبدأ المسالمة المطلق” فإننا نحتاج مصطلح يناسب الاعتقاد بأنّ استخدام العنف في حلّ المشكلات الشخصية والاجتماعية يكون ضروريًّا وصائبًا أخلاقيًا. فإنني سأستعيد واحدًا من علم النفس السلوكي، والذي يصف العنف على أنه استخدام نتائج غير مستحبَّة. وبهذا نسمّي المقابل الجدليّ لمبدأ المسالمة المطلق بـ”مبدأ الكراهية Aversionism”.

ولاحظ أنك لو كنت “كارهًا versionist” فإنّك لا تكون بالضرورة “محاربًا bellicist”. وبهذا يمكنك أن تعتقد أنّ استخدام العنف مبرَّر أحيانًا ولكنه لا يُبرَّر إطلاقًا على أنه حرب. وعلى الجانب الآخر، لو أنك كنت “محاربًا Bellicist” فستكون “كارهًا Aversionist”. ولو أنك تؤمن بأنّ العنف أثناء الحرب يكون صائبًا أحيانًا، فإنك بالتأكيد تعتقد بأنه من الصّواب في بعض الأحيان أن تستخدم العنف لحلّ المشكلات. وبالتالي فإنك يمكن أن تكون كلا الأمرين؛ داعي سلام مناهضًا للحرب وكارهًا في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال: فإنّ دعاة السلام المناهضين للحرب صدّقوا بأنّ العقاب الرئيس يكون مبرَّرًا أحيانًا.

مما سبق، نرى التناقض واضحًا بين دعاة الحرب ومبدأ المسالمة المناهض للحرب من جانب، وبين دعاة مبدأ الكراهية ومبدأ المسالمة المطلق من جانب أخر

ومن المثير أنّ هذه الاعتقادات المتضادّة “المتقابلة” تتفاعل وتعتمد على بعضها بعضًا. وتاريخيًا، عندما يكون دعاة السلام من الأقلية فإنها تُقابَل بالأغلبية التي تسعى لزيادة استخدام العنف، فيصبح مبدأ المسالمة أقوى ومطلقًا بشكل أكبر. وعلى الجانب الآخر، عندما يتمّ قبول دعاة السلام من قبل الأغلبية أو عندما يوالوا الأغلبية. فإنّ مبدأ المسالمة يصبح أضعف ويكون مطلقًا بشكل أقلّ. ولكن لو أنّ المقابل لمبدأ السلام مطلقٌ بحد ذاته، فإنّ دعاة السلام يمكن أن يختفوا بشكل تامّ من مجتمعات معيّنة.

وفي سياق آخر، فإنّ مبدأ المسالمة يبدو متطلِّبًا لبقائه السليم معارضةً من غير دعاة السلام والذين يقعون بين الحدود القصوى للعنف المدمّر والقبول الكلّي.

لماذا يوجد دعاة سلام؟

في الواقع، لن يكون هناك دعاة سلام لو لم يمكن هناك غير دعاة سلام، ولكنّ إدراك ذلك لا يخبرنا لماذا لا يستطيع دعاة السلام قبول دعاة الحرب ودعاة الكراهية. دعنا أولًا ننظر في دعاة الكراهية، وهي الاعتقاد بأنّ العنف يكون ضروريًا أحيانًا ومبررًا أخلاقيًا في حلّ المشكلات الاجتماعية والشخصية. وتجادل اليزابيث انسكومب (Elizabeth Anscombe) الباحثة الداعمة لمبدأ الكراهية أو العنف أنّ معظم القيم الإنسانية المهمة تتطلب مجتمعًا مستقرًا، ولكن كلّ مجتمع مستقرّ سيواجهه هؤلاء الذين يريدون تدميره ولن يتوقفوا حتى يصرعوا. وهكذا فإنّ السُّلطات الاجتماعية لا بدّ من أن تُدعَم لاستخدام العنف عند الضرورة ضدّ كلٍّ من الأعداء الداخليين والخارجيين. ومن الضروريّ في هذه المجادلة وجود الاقتراحات أو الافتراضات غير المكتوبة بأنّ هناك عاملًا شريرًا في الواقع وفي الطبيعة البشرية والذي سيطغى مع مرور الوقت، ولا يمكن إخماده إلا باستخدام العنف.

وللرّدّ على هذه الحُجّة، وبينما يوافق الداعي للسلام المطلق على أنّ الاستقرار الاجتماعي ضروري للقيم الإنسانية الأساسية، ويوافق أيضًا على وجود هؤلاء الذين تشكّل أفعالهم خطرًا على الاستقرار الاجتماعي، فإنّه سيرفض الاعتقاد بأنّ العنف يكون ضروريًا في بعض الحالات للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فبالنسبة لداعي السلام المطلق العنف نفسه فعل شائنٌ، واستخدامه لأيّ غرض يولّد ببساطة شرًا أكثر وعنفًا أكثر. وبالتركيز على هذا فإنّ رفض العنف يكون ضروريًا وافتراضًا واقعيًا بأنّ هناك قانون أخلاقيّ يحكم الواقع الذي يضمن بأنّ كلّ الأفعال الشريرة ستعاقَب وكلّ الأفعال الخيّرة ستُكافأ.

وهذا القانون الأخلاقيّ ربما يُدعَم بالإله الشخصي أو ربما يكون قانونًا غير شخصيّ مثل: قانون الجاذبية. ولكن المهم هو استخدام مثل هذا القانون واستخدام الاعتقاد بأنّ العنف دائمًا سيئ (شرّير) وبالتالي فإنّ كلّ الشرّ سينتهي، ويمكننا الوصول لهذه الغاية المنشورة من خلال ممارسة مبدأ “المسالمة المطلق”.

إنّ كلًا من اعتقاد داعي السلام المطلق في القانون الأخلاقي الذي يضمن التخلّص الحتميّ من كلّ الشّرور، واعتقاد داعي العنف أو الكراهية بأنّ هناك شرًا عالميًا يمكن التحكم به فقط من خلال العنف تكون افتراضات ميتافيزيقية؛ لا يمكن اختبارها بتطبيقها على الحقائق. وفي الوقت نفسه يدّعي داعي السلام المطلق أنّ العنف دائمًا يؤدّي إلى عنفٍ إضافيّ. ويدّعي داعي العنف أنّ استخدام العنف أحيانًا يقلل العنف، وتبدو كلّ منهما ادعاءات حقيقية أو واقعية. ولكنّ الصعوبة تكمن في كلّ مجموعة تتبع اقتراضات ميتافيزيقية مقابلة للأخرى فتصل إلى تفسيرات مختلفة لمجموعة من الحقائق نفسها.

وعلى الجانب الآخر فإنّ دعاة السلام المناهضين للحرب وغير المطلقة، المشتملة على الكويكرز”Quakers”، جادلوا بأنّ الفوضى Anarchy  أسوأ من استخدام العنف، وأنّ القيمة أو الفائدة الواضحة للقانون والنظام تبرِّر استخدام القوة من قِبل الحاكم. في الواقع، في الأيام الأولى للولايات المتحدة تمّ الإبقاء على العبيد وتأييد عقوبة الإعدام.

وعنف الحرب لا يتغذّى فقط على شدّته أو تكثيفه، ولكن مع زيادة تكثيفه يؤدّي حتميًا لتدمير الأبرياء. ولو أنّ عنف الشرطة يصيب غير المجرمين يكون مكروهًا ومقيدًا، ولكنّ الأبرياء يكونون بشكل روتينيّ ضحايا لعنف الحرب. وبهذا فإنّ استخدام عنف الحرب لا يمكن أن يكون مبررًا أخلاقيًا إطلاقًا.

من كلّ ما سبق، فيما يتعلّق برأي “لاكي” من موقف غاندي يتضح رفض الأخير تمامًا – وهو داعي سلام مطلق- مشاركة أو دعم أيّ دولة تخوض الحرب، حتى وإن كانت دولته هي المستعمَرة؛ وذلك لاعتقاده أنّ الدولة غير العنيفة، المشتملة على القوة البوليسية غير العنيفة، هي الدولة الممكنة والباقية.

على هذا يمكن القول:”إنّ العلاقات المنطقية الرسمية الموجودة بين صيغتي مبدأ المسالمة ومقابلَيها [مبدأ الدعوة للكراهية ومبدأ الدعوة للحرب] يمكن أن تُلخَّص ببساطة كالتالي: ليس هناك داعي سلام مطلَق داعٍ للكراهية؛ ولا يوجد داعي سلام مناهض للحرب داعٍ للحرب؛ فجميع دعاة السلام المطلق هم دعاة سلام مناهضون للحرب؛ وجميع دعاة الحرب دعاة الكراهية؛ وبعض دعاة السلام المناهض للحرب دعاة للكراهية.

وما لا يمكن الانتهاء منه كليًا أو إجماليًا هي التوتّرات الجدلية التي هي من حيث كونها متنافرة تدفع كلًا من دعاة السلام وغير دعاة السلام إلى مواقف ميتافيزيقية وعدائية بشكل متزايد، ومن حيث كونها متجاذبة تستدرجهم إلى مواقف براجماتية تساومية بشكلٍ متزايدٍ. ولقد عُرف منذ وقت طويل أنّ “فكر كلّ مجموعة” يمكن أن يُصوَّر أو ينظر إليه “على أنّه نابع من ظروف حياتها”.

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
اترك تعليقا