طريقة رؤيتك للألوان تعتمد على لغتك

تستطيع العين البشرية تمييز ملايين الألوان، لكنّنا لا ندرك جميعنا هذه الألوان بنفس الطريقة، إذ أنّها قد تختلف من شخص لآخر.

اختلاف الأشخاص في رؤية الألوان:

بعض الأشخاص لا يستطيعون رؤية الاختلافات بين الألوان وهو ما يطلق عليه “عمى الألوان” الذي يعود إلى وجود خللٍ في الخلايا التي توجد في شبكية العين والتي تعدُّ حسّاسة لمستويات الضوء العالية ويطلق عليها “المخاريط” أو قد يحصل عمى الألوان بسبب عدم وجود هذه الخلايا من الأصل. لكنَّ توزيع وكثافة هذه الخلايا قد يختلفان أيضًا بين الناس الذين يتمتّعون برؤية طبيعية مما يؤدي إلى إدراكنا جميعًا لنفس اللون لكن مع وجود بعض الاختلافات الطفيفة.

ومع وجود اختلاف في تركيبنا البيولوجي إلا أنّ عملية إدراك اللون ليست مرتبطة فقط بما نراه فعليًا، بل إنَّ الأمر متعلق بكيفية ترجمة أدمغتنا لهذا اللون لإيجاد شيء ذي معنى، ولأنّ عملية إدراك اللون تتم بشكلٍ أساسي داخل رؤوسنا، فإنها تكون عملية ذاتية وتتأثرُ بالتجارب الشخصية.

هل من حالات مرضيّة ترافق اختلاف رؤية الألوان بين الأشخاص؟

بعض الأشخاص قد يعانون من “الحسّ المرافق” أو “التصاحب الحسّي” وهي حالة عصبية تتمثل بالمزج بين الحوّاس المختلفة، حيث تكون عملية إدراك الشخص للألوان مرتبطة بحروفٍ وأرقام، ويصبح المصاب بهذه الحالة قادرًا على رؤية الأصوات وسماع الألوان، لكن سماع هذه الأصوات أيضًا قد يختلف من حالة لأخرى.

وفي مثال آخر يُعرف بـ”خدعة رقعة الشطرنج” وهي عبارة عن تجربة كلاسيكية ابتكرها العالم إدوارد أديلسون، وتقوم فكرة التجربة على وجود مربّعين لهما اللون نفسه إلاّ أن أدمغتنا ترى اختلافًا بينهما في اللون ولا تدركهما بنفس الطريقة.

إعلان

ثقافة الألوان:

منذ اليوم الأول لولادتنا ونحن نتعلم تصنيف الأشياء مثل المشاعر، والألوان، وكل شيء تقريبًا له معنى، باستخدام المفردات اللغوية. وبالرغم من أنّ أعيننا لها القدرة على التمييز بين آلاف الألوان إلا أنّ الطريقة التي نتحدث بها عن الألوان والطريقة التي نستخدم بها الألوان في حياتنا اليومية تُحتِّمُ علينا تقسيم هذا التنوّع الهائل من الألوان إلى مجموعاتٍ محددة ذوات معنى. فعلى سبيل المثال، يستخدم الرسّامون وخبراء الأزياء مصطلحاتٍ لغوية للإشارة إلى تدرّج الألوان والظلال والتمييز بينها، حيث أنّ كلّ هذه الاختلافات والفروقات قد توصف باستخدام مصطلح واحد فقط بواسطة شخص غير متخصّص بهذا المجال.

التصنيف اللغويّ لمصطلحات الألوان:

كما يؤدي اختلاف اللغات وتنوّعِ المجموعات البشرية إلى حدوث اختلاف في التصنيف اللغوي للألوان، فهناك بعض اللغات مثل “داني” المنتشرة في دولة بابوا -غينيا الجديدة- ولغة “باسا” الموجودة في ليبيريا وسيراليون يمتلكون فقط مصطلحين لوصف الألوان هما القاتم والفاتح، حيث يُترجم مصطلح قاتم على أنه يعني كلمة بارد ومصطلح فاتح على أنّه دافئ في هذه اللغات. لذلك فإنّ الألوان مثل الأسود، والأزرق، والأخضر تُصنّف على أنّها ألوان باردة، بينما الألوان الفاتحة مثل الأبيض، والأحمر، والبرتقالي، والأصفر تُصنف على أنّها ألوان دافئة.

اًمّا شعب “وورلبيري” الذي يعيش في الإقليم الشماليّ لِأستراليا، فإنّهم لا يملكون مصطلحًا يعبّر عن كلمة لون حتى، وبالنسبة لهؤلاء ومن يشبههم من المجموعات الثقافية الأخرى فإنّ ما يطلق عليه مصطلح لون في لغتنا يتمّ وصفه باستخدام مفردات تتحدث عن بُنية الشيء نفسه، والإحساس المادي به، والغرض الوظيفيّ منه.

اللافت للنظر، أن معظم لغات العالم لديها خمسة مصطلحات رئيسيّة للإشارة إلى الألوان. وتستخدم بعض الثقافات المتنوعة مثل “شعب هيما” الذي يعيش في سهول ناميبيا، وشعب “برينمو” الذي يعيش في الغابات الاستوائية الخصبة في بابوا، غينيا الجديدة، هذه المنظومة الخماسية للألوان.

فبالإضافة إلى وجود مفردات تدلّ على بعض الألوان والتدرجات مثل: قاتم، و فاتح، وأحمر فإنه يوجد أيضًا مصطلح يشير إلى اللون الأصفر ومصطلح آخر يشير إلى اللونين الأزرق والأخضر معًا باستخدام كلمة واحدة.

تاريخيًا، كان الويلزيون، والصنيون، واليابانيون يستخدمون نفس المصطلح الذي يرمز لهذين اللونين معًا، أمّا في هذا الوقت فقد أصبح هذا المصطلح يشير للون الأزرق وحده، حيث يوجد مصطلح آخر يُستخدم للإشارة للون الأخضر. ويعود هذا التغيّر الذي حصل إمّا للتطور الذي حدث للغة نفسها كما حصل مع اللغة اليابانية أو بسبب استعارة مفردات أخرى كما حصل مع اللغة الويلزية.

بعض لغات العالم مثل اللغة الروسية، واليونانية، والتركية وغيرها من اللغات تحتوي على مصطلحين منفصلين للإشارة للون الأزرق، حيث تَستخدم المصطلح الأول لوصف الدرجات القاتمة فقط، بينما يتمّ استخدام المصطلح الثاني لوصف الدرجات الفاتحة منه. كما أنّ طريقة إدراكنا للألوان تختلف من وقت لآخر خلال فترة حياتنا، فعلى سبيل المثال يصبح اليونانيون الذين يمتلكون في قاموسهم اللغوي مصطلحين للإشارة للدرجة القاتمة والفاتحة من اللون الأزرق معرّضين لرؤية هذين اللونين كأنهما لون واحد بعد أن يعيشوا لفترات طويلة في المملكة المتحدة، حيث أنّ هذين اللونين تتم الإشارة إليهما بمصطلح واحد باللغة الإنجليزية ” Blue”.

ويرجع كل هذا التغيير إلى معايشة هؤلاء الأشخاص الحياة اليومية لبيئة ناطقة باللغة الإنجليزية وتعرضهم لها بشكلٍ كبير، حيث تبدأ أدمغتهم بتصنيف هاتين الدرجتين من اللون الأزرق على أنّهما جزء من اللون ذاته.

لكن في الحقيقة فإنّ هذا الأمر لا يعد مقتصرًا على الألوان فقط، بل إنّ اختلاف اللغات قد يؤثر على عملية إدراكنا للأشياء في جميع جوانب الحياة. وفي مختبرنا في جامعة لانكاستر، فإننا نقوم بتجارب مختلفة لمعرفة كيف يؤثر استخدام لغات مختلفة على تغيير طريقة إدراكنا للأشياء المستخدمة في حياتنا اليومية.

نهايةً، فإنّ كل ما يحدث يمكن أن يُعزى إلى أنّ تعلّم لغة جديدة هو بمثابة منح عقولنا القدرة على تفسير العالم بشكل مختلف بما في ذلك طريقة رؤيتنا للألوان ومعالجتها في دماغنا.

ترجمة: أفنان موفق

تدقيق فاطمة الملّاح

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
اترك تعليقا