عرض كتاب مبدأ الريبة

اينشتاين، بور وهايزنبرج والصراع من أجل روح العلم

في سنّ السادسة والعشرين، وبعد مرور سنوات أربع منذ حصوله على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة ميونخ، قرّر ذلك الشاب الألماني بجرأة يُحسَد عليها أن يدقّ المسمار الأخير في نعش الفيزياء الكلاسيكية، ويعلن عن قيام صرح جديد للعلم تتوارى معه مبادئ السببية والحتمية، التي سادت لقرون طوال، ليسود مبدأ الريبة (مبدأ عدم التحديد) أو (عدم التأكد) والذي يُعَدّ لبنة أساسية في بناء ما يسمّى بنظرية الكمّ الجديدة والتي يعدّ من روّادها الأوائل مع أقرانه شرودنجر وبورون وبول ديراك.

تلك النظرية التي احتاجت الرياضيات من نوع جديد فظهرت مصفوفات هايزنبرج جنبًا إلى جنب مع معادلة شرودنجر الموجية ليفسّرا كلّ بطريقته سلوك الإلكترونات كما لم يفعل أحد من قبل، وإن كان شرودنجر قد وضع معادلته لتفسّر سلوك جسم تقليديّ من وجهة نظره وأيّده في ذلك أينشتاين الذي تحدّى وجهة النظر الاحتمالية عند هايزنبرج وصرّح بمقولته الشهيرة (إنّ الله لا يلعب النّرد)، فإنّ هايزنبرج مضى بنظرية الكمّ إلى آخر الشوط ليعلنها صريحة وبمساندة من أستاذه بور وأعلن صراحة مبدأه الخالد:

تستطيع أن تقيس سرعة الجسم، أو قد تستطيع أن تحدّد موضعه، لكن لا يمكنك أن تنجز المهمّتين معًا بدقّة، فكلما زادت دقّتك في تحديد أحدهما قلّت دقّتك في تحديد الآخر

إذن هي الريبة وعجز عن المعرفة التامّة والإحاطة بالعالم من حولنا. عجز  ليس مردّه القصور البشريّ أو إلى عيوب آلات القياس، بل يعود إلى طبيعة الجسم نفسه، وعند هذه النقطة بالذات بدأ الصراع.

ولأنّ الميدان لم يكن خاليًا لهايزنبرج وحده، فقد توالت الاعتراضات على أفكاره الثورية ولعلّ أهمها ما جاء به أينشتين ومساعديه، بودلسكي وروزن في تجربتهما الذهنية الشهيرة (ا ب ر).

واعتراضات شرودنجر في تجربته الذهنية بدورها، تجربة القطة الشهيرة (قطة شرودنجر الحبيسة وحدها مع قنينة السمّ والمادة المشعّة، تلك القطة التي وضع  هايزنبرج حدًا لمعرفتنا التامة بمصيرها، وما زالت القطة المسكينة إلى اليوم شاهدة على ذلك الصراع المحتدم حول روح العلم). ذلك الصراع الذي يأخذنا الكتاب موضع العرض اليوم إلى حلباته متنقّلين على بساط الزمن ما بين لندن ومانشستر وميونخ وجونتجن وكوبنهاجن وباريس و كاليفورنيا.

إعلان

كتابنا اليوم يأتي تحت عنوان مبدأ الريبة، هايزنبرج، بور وأينشتين والصراع من أجل روح العلم. ومؤلّف الكتاب هو ديفيد ليندلي، المحرّر العلميّ والحائز على الدكتوراه في الفيزياء الفلكية. بينما تولّى مهمّة نقله للعربية: الدكتور نجيب المحجوب الحصادي، الحاصل على الدكتوراه في فلسفة العلوم من جامعة وسكنسن. يتصدّر الكتاب مقدّمة وافية للدكتور الحصادي بيّن فيها ما يعنيه مبدأ الريبة من إنكار للمبدأ الحتميّ الذي طالما فرض هيمنته على الفكر الإنساني.

كما بيّن أهمية مبدأ الريبة من حيث أنه يضع قيدًا على قدرة الإنسان على التوصّل إلى فهم حقيقيّ للعالم الفيزيائي من حوله، فكلّ ما هنالك مجرّد احتمالات، كما ثمّن المترجم في مقدمته جهود المؤلف في عرضه لمحتوى الكتاب في إطار سرديّ ملحميّ حيث يأخذنا في رحلة أوديسية عبر تخوم العلم لنلتقي ببشر من لحم ودم يخوضون صراعًا من أجل روح العلم.

فالكتاب يتناول صراعًا ضاريًا، أو في حقيقة الأمر معركة فكرية جبارة بين عقول متميزة صنع أصحابها مجدًا تليدًا حتى أنه لا يخلو كتاب علميّ في العالم من ذِكر أسمائهم ولا يزال طلاب العلم حول العالم يلهجون بأسماء هايزنبرج وشرودنجر وباولي ودي برولي وسمرفيد وماكس بورون ومن قبلهم بور وأينشتين.

في هذا الكتاب سوف نقترب من هذه الشخصيات كما لم نفعل من قبل، سوف نعيش مع  عباقرة تتصارع عقولهم وتتلاقى أجسادهم في أروقة الجامعات ومعاهد العلم حول العالم تجمعهم المؤتمرات العلمية  لكنهم في النهاية بشر، يحبّون ويكرهون، لهم نزواتهم وتؤثّر فيهم ظروف المجتمع، وحين تصبح ضغوط المجتمع فوق الاحتمال يهجرون الأوطان بحثًا عن مناخ يوفّر لهم حريّة البحث العلمي.

وبدأ تراب أبي الهول في الحركة

في الفصل الأول والثاني من الكتاب نعود بالزمن مع الكاتب إلى عام1827 لندخل إلى معمل العالِم الكبير (روبرت براون) حيث نراقبه أثناء فحصه لحبوب لقاح نبات Clarke pulchella تحت الميكروسكوب، ونرى مدى حيرته في تفسير الحركة الدائبة لحبوب اللقاح في الماء، ثمّ نرى علامات الحيرة تزداد على وجهه حين قام باستبدال حبوب اللقاح بفتات من لحاء الأشجار، ثمّ بمساحيق غير عضوية ومن ضمنها مسحوق من قطعة صخرية من تمثال أبي الهول حصل عليها بصفته قيّمًا على المتحف البريطاني، وكاد الرجل أن يفقد عقله، فها هو الفتات الصخري يتحرك خلال الماء في رعشات محمومة، وتذكّر ما سبق أنّ علمه من السيد باي ووتر من ليفربول والذي لاحظ ذلك الهياج من قبل. ويبدو أنّ عالمنا الكبير وأجيالًا من بعده ستكتفي بالحيرة، أمام لغز تلك الرعشات المحمومة.

وبوفاة براون دُون أن يكشف سرّ الحركة التي سُمّيت باسمه، رأينا العلم يولي ظهره لتلك الحركات الغامضة ونأي العلماء بأنفسهم عنها، حتى جاء الألماني (كريستيان فاينر) باقتراح يُرجع تلك الحركة إلى الصدمات بين الجسيمات المادية الدقيقة وجزيئات الماء، ويمضي بنا قطار الزمان لنحطّ الرحال في عام 1905 لنتابع جهود الشابّ ذو الستة والعشرين عامًا حينها البرت أينشتين وهو يضع التفسير الصحيح للحركة البراونية لبدء عهد الدراسات الإحصائية معها ويتعاظم دور الرياضيات في وصف العالم الذري.

الصدمة

القرن التاسع عشر على وشك الانتهاء، والعالم يحفل بالعديد من الذرات، فلِعلماء الفيزياءذرّاتهم التي تشبه كرات البلياردو، وتحكمها قوانين الحرارة، لتتجمّع في شكل جزيئات، ولا يبدو في الأفق من شيء يجمع بين نوعي الذرات. ثمّ كانت الصدمة التي أصابت الجميع حين اكتشف هنري بيكريل النشاط الإشعاعي، تزامنًا مع توصّل رونتجن بالصدفة إلى اكتشاف أشعة غير مرئية تنبعث من أنابيب التفريغ الكهربيّ سمّيت بالأشعة السينية أو أشعة إكس (وإن ظلّ الألمان يطلقون عليها إلى اليوم أشعة رونتجن تكريمًا له)، ثم تأتي بعد ذلك جهود ماري كوري وزوجها في مجال النشاط الإشعاعي لتضع على عاتق العلماء عبئًا جديدًا، فالسؤال الآن يفرض نفسه: من أين ينبعث ذلك الإشعاع المادي (أشعة الكاثود) والكهرومغناطيسي (أشعة اكس)؟ وماذا يحدث داخل ذلك الكيان العجيب المسمى بالذرة.

وهنا يظهر الرجل المناسب في الوقت والزمان المناسبين تمامًا، جاء إرنست راذرفورد من نيوزلندا ليدرس على يد جي جي تومسون، الرجل الذي أثبت أنّ أشعة الكاثود هي سيل من الإلكترونات، ليحصد جائزة نوبل ويضع نموذجًا للذرة عُرف باسمه (ذرة تومسون) حيث تتحرّك الإلكترونات بشكل ما في وسط هلامي موجب.

كيف يقرر الإلكترون

بوصوله إلى كمبردج في سبتمبر 1907، في سنّ السادسة والعشرين كان نيلز بور على موعد مع القدر، فقد كانت مناوشاته مع جي جي تومسون والصعوبات التي واجهها في الاعتياد على أسلوب الحياة الإنجليزية، دافعًا نحو تغيير مساره إلى مانشستر حيث التقى مع رذرفورد العائد لتوّه من كندا، وعلى العكس من تومسون كان ودودًا لطيفًا، كما أنّ بور بفطنته الثاقبة أدرك أنّ الزمن القادم هو زمن رذرفورد، وأنّ عهد ذرة تومسون قد ولّى وغربت شمسه، فيقرّر بور أن يظلّ بجواره ليتعلم التجريب في النشاط الإشعاعي، وليكون شاهدًا على مرحلة بالغة الأهمية في تاريخ العلم، حيث بدأ رذرفورد في كشف اللثام عمّا يبدو أنه التركيب الحقيقي للذرة. وهنا يأخذنا الكاتب على معمل رذرفورد، لنتابعه وقد بدأ في نقض مفاهيم أستاذه طومسون، وحدا تلو الآخر، فبعد توصّله مع فريدريك سودي إلى نظرية التحلل الإشعاعي لتفسير الإشعاع المنبعث من الذرة، كان على موعد مع التاريخ حين صمّم وأجرى مع تلميذيه جيجر ومارسدن ما عُرف بتجربة رذرفورد، والتي وضعتنا أمام تصوّر جديد للذرة تبدو فيه النواة كشمس صغيرة تدور حولها الإلكترونات كما الكواكب في فضاء شاسع.

فذرة رذرفورد التي منحته جائزة نوبل كانت في معظمها فراغ، وإلكتروناتها تدور بطريقة فشلت نظريات الميكانيكا وقتها في تفسيرها. وهنا يظهر بور من خلف الستار ليقرّر أنّ الإلكترونات لا يمكنها حمل أيّ قدر تريده من الطاقة، بل فقط لكلّ إلكترون كمّ محدّد من الطاقة يتحدّد من خلال المدار الموجود فيه.

فكرة كمّات الطاقة ليست جديدة، فقد وُلدت على يد رائد الكمّ القديم ماكس بلانك حين فسّر بها إشعاع الجسم الأسود ليدقّ بذلك المسمار الأول في نعش الفيزياء الكلاسيكية رغم عدم إرادته، فهو كما يخبرنا الكاتب لم يكن مقتنعًا بوجود مبرر فيزيائيّ يجعل الطاقة الكهرومغناطيسية تظهر في صورة كمات، لكنّ ذلك كان ضروريًا لتفسير التجارب العملية، ولذا ظلّ إلى نهاية حياته يحاول التخلص من تلك الكمّات دون جدوى ويضع اللبنة الأولى لنظرية الكمّ.

ولمّا جاء بور ليطبّق المبدأ نفسة على الإلكترونات، لم يكن يملك أيضًا مبررًا فيزيائيًا، لكنّ ذلك بدا فكرة صائبة، وإن كان رذرفورد بتجربته الشهيرة قد بدأ عهد الفيزياء النووية، فإنّ بور الآن على وشك بدء عهد جديد للفيزياء الذرية، وبنجاحه في تفسير طيف ذرة الهيدروجين بدا نموذج بور، الذي تدور فيه الإلكترونات في مدارت محدّدة حول نواة مركزية، كما لو كان النموذج الأمثل للتركيب الذرّيّ، وإن ظلّ تساؤل رذرفورد لتلميذه بور يتردّد دومًا من حوله: كيف يقرّر الإلكترون تردّده؟ وكيف يتنقل من حالة سكون لأخرى؟

إذن هي تلقائية الانحلال الإشعاعي عند رذرفورد، تعود مرة أخرى في صورة تلقائية انتقال الإلكترونات في ذرة بور. مرة أخرى سببية الفيزياء الكلاسيكية على المحكّ.

مدرسة العباقرة

حينما بدأت ذرة بور في الترنّح إثر فشلها في تفسير أطياف العناصر ما بعد الهيدروجين، قيّض الله لها رجلًا عظيمًا أعاد تصميمها لتصبح قادرة على الصمود في وجه المشككين، كان هذا الرجل هو أرنولد سمرفيلد ،ذلك العالم الألماني، الذي كان حينها رئسًا لقسم الفيزياء بجامعة ميونخ  وشاء القدر أن يدرّس على يديه مؤسّسَي نظرية الكمّ الحديثة باولي و هايزنبرج.

ويمضي بنا الكاتب إلى أروقة جامعة ميونخ لنشهد ولادة الذرة الكمومية على التي سميت ذرة بور- سمرفيلد  والتي جاءت نتاجًا لتعاون العالمين الكبيرين، فمقدرة بور المحدودة في عالم الرياضيات، عوّضها عقل سمرفيلد الرياضي والمدرّب جيّدًا على نظريات الميكانيكا والكهرومغناطيسية، وهكذا تحوّلات اللمحات العبقرية لبور حول تركيب الذرة والتي كانت في معظمها حدسًا يأتيه – كما قال هايزنبرج -على هيئة صور إلى بناء رياضي محكم علي يد سمرفيلد.

ومن خلال سرده لقصص من حياة سمرفيلد وتلاميذه  ومحاولة هايزنبرج الأولى مع نظرية الكمّ والتي عرفت بمبدأ نصف الكمّ، حيث اقترح عددًا كمّيًا يحكم دوران الإلكترونات حول النواة يكون نصفه لدى الإلكترون والنّصف الآخر لدى النواة، يقرّبنا الكاتب تدريجيًّا من الصّراع المنتظَر حول روح العلم، فالتفسيرات الجديدة لسلوك الإلكترونات كما تقدّمها ميكانيكا الكمّ تبتعد بنا دومًا عن عالم الفيزياء الكلاسيكية المعهود، مرة أخرى نجحت ذرّة بور في تفسير النتائج المعملية، ولكن ما زالت أصداء تساؤلات رذرفورد تتردّد: كيف يقرّر الإلكترون؟

إعلان

اترك تعليقا