عن القرابين (1): اليهودي والديك

“هذا هو بديلي، كفارتي، الذي ينوب عني في التكفير عني،
سوف يذهب هذا الديك إلى حتفه، بينما أذهب أنا إلى حياة خيرة مديدة وسلام”.

يتمتم اليهودي تلك الكلمات مُحلقًا بديكٍ أبيضَ في حركاتٍ دائرية فوق رأسه، ومع دورته الثالثة تَتِم الغاية وتُمحى آثامه وتتطهّر نفسه ويذهب الديك للمقصلة وعلى عاتقه ما انتقل إليه من آثام اليهودي الآمل في غفران الرب.. ينحر الجزار المتمرِّس المتدرِّب تلموديًا الديك في جزة حاسمة باترة، ويزج به في حُقٍّ ضيِّقٍ لتخلص أنفاسه، وحين يصمت صمت الموت، يلقي به الجزار على كومةٍ من الدجاج الميت، بينما يعيد اليهودي التالي نفس الكرّة.. في حركاتٍ سريعةٍ من القراءة، تحليق الطيور في الهواء، الذبح، الزج في الحُق، الرمي على المكب، تدور العملية الميكانيكية بدون توقُّف، ديك لكفّارةِ كل رجلٍ ودجاجة لكفّارةِ كل امرأة. (1فيديو)

ففي فجر ذلك اليوم وهو يوم الكاباروت عشية عيد الغفران وفي شارع من شوارع نيويورك دخلت تلك الشاحنات الكبيرة المُحمّلة بالدجاج الحي المكدّس في أقفاص متراصة، وانتظرت حتى الصباح ليصطف اليهود الأرثوذوكس والعوام على شوادر الذبح لتأدية طقس التكفير عن الذنوب.. وكان اليهودي يفعل ذلك كل عامٍ منذ سنواتٍ طوالٍ في سلامٍ وأمان، فالدجاج لا يشتكي ولا يضره حمل الآثام على الأخص إن ذُبح بعد حمله لها، وليس هناك تضييقٌ دينيٌّ على حرية ممارسة الطقوس في أمريكا، فلم يكن هناك أيّ مشكلةٍ في تحويل شارع من شوارع أيّ مدينةٍ متحضرةٍ لمذبحٍ ولو ليومٍ واحد. (2 فيديو)

إنما مؤخرًا أصبح اليهودي يقوم بطقسه ليس فقط على أصوات صياح الدجاج المذبوح وإنما أيضًا صراخ المتجمهرين ضد الطقس.. فجمعيات الرفق بالحيوان لم تعد تطيق اليهودي “الهمجي” وتصوُّراته عن الغفران بالدم وسفك دماء الدجاجات البريئات هدرًا، فخمسون ألف دجاجةٍ تُذبح في ذلك اليوم تفيض عن حاجة الجمعيات الخيرية بمراحل، هذا مع إساءة التعامل معها قبل الذبح بتكديسها في أقفاص لساعات طويلة بلا مشرب أو مأكل، بالإضافة للفشل في تنظيفها وحفظها بعد الذبح مما يستدعي التخلُّص منها في النفايات.  (3 فيديو)  (4 فيديو)

يصرخ العلماني المحب للحيوان في وجه اليهودي “قاسي القلب” واليهودي يسخر من بله هؤلاء حاضني الأشجار، فهذا الدجاج يذهب لسببٍ وجيهٍ يستدعي الذهاب، فليس هناك غايةٌ أسمى من الغفران، وأما القربان الذبيح فهو بقدرة إلهية لا يشعر بالعذاب، هو مسخّرٌ للإنسان، ولهذا الغرض خُلق، يَأكله أو يمحي به ذنوبه، ما الفارق في ذلك؟! بالطبع يمكن التبرع بالمال لكن لا شيء يمحي الخطيئة مثل الدم المراق.. يسخر هؤلاء من جهل هؤلاء بالعقيدة، وهؤلاء من جهل هؤلاء بالرفق بالحيوان، في مشهدٍ يوحي بأنه قد لا يكون هناك وسيلة تفاهم واضحة بين العقل والإيمان.  ( 5 فيديو)

لكن ما هي حكاية الكاباروت؟ ولماذا يصر المتدينون اليهود -حتى المتحضرون منهم- على إقامة ذلك الطقس على الرغم من خلاء التوراة والتلمود من أي تشريع يجيزه أو حتى يذكره؟

إذا بحثنا عن جذور الكاباروت نجد أنه طقس متأخر كان أول ظهورٍ له في القرن التاسع الميلادي في بابل أو العراق الحالية، واستدل الباحثون على نشأته من خلال مجموعة أسئلة كانت توجه للفقهاء اليهود في أكاديمية سورا، وهي أكاديمية كبيرة للدراسات اليهودية أقيمت في مدينة سورا البابلية في أوائل القرن الثالث الميلادي وظلت مزدهرة حتى أُغلقت في عهد الخليفة أحمد القادر بالله العباسي في 1033 م، وكانت الأكاديمية بمثابة دار إفتاء مركزية لجميع اليهود، هذا بالإضافة لأكاديمية أخرى في فلسطين، كانت أقل أهمية من أكاديمية بابل.. ويحضرني هنا أن المصري اليهودي سعيد بن يوسـف الفيومي المولود بمدينة الفيوم والمتوفى ببغداد عام 942 م، قد تولّى منصب الجاؤون أو رئيس أكاديمية سورا وكبير فقهاء اليهود في حياته، وعُرف يهوديًّا بلقب سعديا جاؤون..

إعلان

ونجد من ردود الفقهاء اليهود في تلك الفترة أو كما يُطلق عليهم بالعبرية الجاؤونيم (جمع جاؤون)، أن جاؤونًا خلف الآخر كان يجيز الطقس أكثر فأكثر بالحديث عن الحكمة  الخفية من ورائه وبالتالي ساعد ذلك في التأصيل له تشريعيًّا، وظل الأمر كذلك حتى القرن التاسع الميلادي حين أصبح الطقس متعارفًا عليه ومقبولًا بين الطوائف اليهودية بالرغم من عدم ذكره لا في التوراة ولا التلمود. وهنا نجد أن لنصوص فقهاء اليهود ونصائحهم وشروحهم، سلطة قد تفوق أحيانًا سلطة النص الأول والثاني. (المصدر)

فنجد مثلًا الجاؤون شيشنا يشرح الحكمة من اختيار الديك للطقس لأن كلمة “جيبر” geber، أو “جيفر” gever  في بعض المصادر، تعني بالعبرية “ديك” كما أنها تعني أيضًا “رجل”، ومن هنا نفهم الحكمة العميقة من وراء استخدام الديك كبديلٍ مناسبٍ للرجل. (المصدر) ونجدهم أيضًا يحثون على أن يذهب الدجاج المذبوح لفقراء اليهود، ليصبح للطقس هدفٌ نبيلٌ بخلاف الكفّارة. ومن محاولات التأصيل لذلك الطقس ما ذكره الجاؤون أمرام، أيضًا من أكاديمية سورا، من حكمةٍ أخرى لاستخدام الديك، وهي أنّ له قرون، أو أنّ عُرفه أشبه بالقرن، وبذلك هو يرمز للكبش التي فدى به الرب ولد إبراهيم، الذي قالوا أنه إسحاق، واختلف المسلمون فقالوا أنه إسماعيل. (المصدر)

ونجد أن حاخامًا متأخرًا ينصح بضرورة أن يكون الديك المختار أبيضَ بلا شائبة، أسوة بالآية التوراتية من  سفر إشعياء 1: 18 “يَقُولُ الرَّبُّ: إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ”. وخلق هذا التصوُّر هوسًا لدى بعض المتدينة بمحاولة إيجاد الديك الأبيض الخالي من أيّ شائبة حتى لو كان أغلى بمراحل من بقية الديوك.

فاللون القرمزي أو Scarlet هو رمز الخطيئة ويتحول للأبيض حين تُغفر، تمامًا كالشريط الصوف القرمزي الذي كان يُعلّق نصفه على رقبة التيس الذي كانت اليهود يوم عيد الغفران ترسله في البرية لعزازيل، وتترقّب تحوُّل النصف الباقي لديها من الشريط الصوف القرمزي للون الأبيض فتعرف بذلك أنّ الرب قد غفر لقبيلة اليهود آثامها . (مصدر) (مصدر)

ويكفي أن نقول هنا أن إشكالية ذلك التيس الذي يُقدّم لعزازيل، والمنصوص عليها توراتيًّا، هي إشكالية كبيرة جدًّا في اليهودية، والبعض رأى أن ذلك التيس هو قربان للشيطان. والنظرة اليهودية للشيطان مختلفة كثيرًا عن النظرة المسيحية والإسلامية له، فالشيطان في اليهودية يعمل لصالح الرب وتحت إمرته، هو موظفٌ معينٌ من قبل الرب له مهمة اغواء البشر لتعقيد  اختبار الإيمان وتصعيبه عليهم، هو ليس متحديًا للرب أو يعمل بمعزل عن إرادته، وكثيرًا ما تترجم وظيفته بالإنجليزية persecutor أي: مدعي عام، وبالتالي مبدأ رشوته في هذا السياق قد تكون مقبولة من بعض اليهود. ونجد أن العديد من علماء اليهود القدامى مثل موسى بن ميمون  (Maimonides)  وسعديا جاؤون (Saadiah Gaon) وهم على قدرٍ عالٍ من التقدير والاحترام من قبل علماء الدين اليهود، قد رفضوا فكرة أن يكون عزازيل أو أيّ ملاكٍ آخر هو حلقة وصل بين الإنسان والرب، ووجدوا تفسيرات أخرى لتيس عزازيل سنناقشها في حينها عندما نناقش طقوس عيد الغفران.. (المصدر)

ولكن بناء على تلك الفكرة، نجد أن الكثيرين من اليهود قد ربطوا يوم الكابورات بذلك المبدأ الخاص برشوة عزازيل، على الأخص أنه اليوم قبل الأخير في أيام الغفران العشرة، والتي يُحدد فيها مصير الإنسان في السماء، فرشوة عزازيل بإطعام الفقراء قد تسرع عملية الغفران أو تؤكدها.. ولتبسيط المسألة، تخيّل نفسك مثلًا تعمل بجدٍّ في اليوم السابق على تقييم أدائك السنوي حتى يراك مراقبك في العمل، والذي هو هنا عزازيل، ويقيم أداءك بالجيد جدًّا، فيبلغ رئيسك عن محاولاتك لتحسين أدائك، فيُكتب أنك إنسان فاضل ومجد في عملك حتى وإن كنت تتسم بالإهمال والتراخي طوال العام، التصوُّر أشبه بتلك الفكرة. (المصدر)

والبعض الرافض لفكرة رشوة عزازيل قال بأن الديك هو نفسه رمز للشيطان لأنه ذو عرفٍ كقرون الشيطان وحوافره مثل حوافر الشيطان، وبالتالي هو الشيطان متمثلًا وبقتله نقتل الإثم والشر والغواية فينا، ونجد أن الرمزية هنا تشبه بشكل طفيف رمزية رجم الشيطان في الإسلام. لكن من الملفت للنظر هنا أننا نجد أن الشكل الخارجي للديك عند بعض الفقهاء كان يرمز للشيطان وعند البعض آخر كان يرمز لكبش الفداء في قصة إبراهيم. وهذا يوضح لنا كم أنّ الرأي والرؤية الفردية للفقيه تلعب دورًا هامًا في الفقه الديني، وقد تتراوح الآراء في مسألة واحدة بين قمة الإيجابية وقمة السلبية.. (المصدر)

والاعتراضات على الكابورات ليست فقط من غير اليهود وإنما من اليهود أنفسهم، فالبعض مثلًا ربط الطقس بعادات وثنية قديمة من العصور الوسطى، فبعض النصوص التلمودية تذكر أن اليهود كانوا ينبتون حبوب فول بعدد أفراد العائلة في أطباقٍ من قشٍّ ثم يحلقون الأطباق فوق رؤوسهم ثلاث مراتٍ ويرمونها في أقرب مجرى مائي، وكأنها تأخذ الشرور عن العائلة بعيدًا. ونظرًا لأن هذه العادة كانت نابعة من التطيُّر وليس التدين، ومن بعض التصوُّرات قديمة أن هناك أرواحًا شريرة تسكن في المياه، أدى ذلك لرؤية البعض للكباروت كطقس مشعوذ يرجع لتلك القرون التي كانت مليئة بالسحر والخرافة. وبعض المتدينين من اليهود اعترض على الطقس لسبب شرعي وهو أن الجزار مع الإرهاق الزائد الذي يصيبه من كثرة ذبح الدجاج يفشل في الالتزام بشروط الهلاخاه، أو الشريعة، فيما يتعلّق بالذبح، وبالتالي يصبح هذا الدجاج حرام أكله، وذبحه بهذه الطريقة المهملة معصية كبيرة. والبعض يعترض لأن هذه الذبائح تشبه القرابين في طبيعتها بل تتطابق معها واليهود ممنوعٌ عليهم بإفتاء معظم الحاخامات تقديم قرابين خارج الهيكل. (المصدر)

ومن هنا قد نستشف أن الكاباروت ببساطة قد يكون تحايلاً على القاعدة التشريعية التي تُحرِّم القرابين خارج الهيكل، فاليهود قد توقفوا بعد تهدُّم هيكلهم الثاني في 70 م عن تقديم القرابين، هذا على الرغم من أنها تحتل جزءًا كبيرًا جدًّا في الشريعة اليهودية والعقيدة أيضًا، بل بدون القرابين التي كانت تذبح يوميًّا في الهيكل وتحرق لا يحل الرب بين اليهود ولا يسكن وسطهم.. (مصدر) والكاباروت سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، هو كغيره من الطقوس الدينية في جميع أنحاء العالم، هو قربان للتقرُّب من الخالق، محاولة إنسانية لاتباع تعاليم السابقين توسلًا لنوال المغفرة والتطهُّر والدخول في رحاب الرحمة الإلهية، اليهودي يحاول بدجاجته والمسلم يحاول بكبشه والمسيحي يحاول بتقبل يسوع كمخلص لأنه ضحى عنه فكان هو الذبيحة، الكل يحاول الاقتراب بقربانه وعلى شريعته..

وهذا ما آلت إليه شعائر القرابين في اليهودية، ولم يكن هكذا مبتدأها قطُّ، فالقرابين هي عامود الأساس في المعتقد، ولعل هذه هي بداية مناسبة نمسك فيها بطرف موضوع القرابين في اليهودية، وفي عشرة المقالات الآتية سنطوي طرف الخيط رويدًا رويدًا لنصل لأصل ظاهرة القرابين. في تطواف لا يخلو من التبسيط سأسعى لشرح أثر تلك الفكرة القديمة الجديدة على مسار الديانة الإبراهيمية بتجلياتها الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام.

لكن لماذا ندرس اليهودية؟ فهي من وجهة النظر الإسلامية مُحرّفة على أيّ حال!

في الحقيقة ليس هناك ظاهرة واحدة معلقة في فراغ التاريخ، لكل ظاهرة مبتدأ، ولكل نص مصدر، ولكل تصور ديني جذور فيما قبله.. وعلى الباحث الجاد أن يبحث دون تحيُّز في كل كتابٍ سواء كان متهمًا بالتحريف أو لا، هذا بخلاف أننا نجهل أوجه التحريف ولا نعرف ما هو بالتحديد الذي تم تحريفه في اليهودية. بل على الباحث الجاد مراجعة ما قبل اليهودية أيضًا وما بعدها من أديان أخرى. وإن كان البحث في العقائد المغايرة فيه فضيلة ومنفعة، اكتشفها الأوّلون مثل البيروني وابن حزم الأندلسي والشهرستاني، فالأولى بنا أن ندرس ولو قليلاً أصل معتقدنا وجذوره، هذا أضعف مراتب المعرفة الإيمانية. دون الرجوع لمن قبلنا لمعرفة أصل الأشياء نحن كالعميان، نقود عميانًا. فنجد أنفسنا كثيرًا ما نقف أمام ظواهر أو معتقدات سواء في المسيحية أو الإسلام تعلّمناها كما لُقنت إلينا ولا نعرف لها أصلًا واضحًا، وعادة ما يكون أصلها وشرحها في النصوص اليهودية، لكن ربما حتى من علّمنا لا يدري بتلك الأصول، فمعظم رجال الدين لقلة اطّلاعهم خارج معتقدهم ولقلة معرفتهم باللغة الإنجليزية لم تتسنَ له فرصة البحث بشكل أوسع..

التوراة والأسفار التابعة لها هي من الكتب الأهم والأكثر تأثيرًا لمعظم سكان هذا العالم، هي بالطبع ليست مصدرًا تاريخيًّا وإنما مصدرٌ دينيٌّ لليهودية والمسيحية وبالتبعية للإسلام، فدراسة ما بين طيتي تلك الكتب العتيقة قد يكون ضرورة لفهم أصل الديانة الإبراهيمية، إذ ربما فهم الأصل يفتح إلينا أبوابًا كنا نظن أنها موصدة، ينير عقولنا باستنارة حقيقية مبنية على معرفة عميقة، بعيدة عمّا تعوّدنا عليه من تلقين أصم.  لا يجب أن نتكبر على كتابات ومعارف من سبقونا، وربما من الأجدر بنا أن نترك الشغف المعرفي هو الذي يقودنا، لا هوس البحث عن الحقيقة الدينية ولا هوس تفنيد الغير لتأكيد الذات، فالبحث والاطلاع لتأصيل المعرفة هدف أهم وأرقى وأبقى..

عن القرابين (2): تقرب بكبشك رأسه فداء لرأسك

مواد مرئية:

  1. فيديو يصور عملية الذبح في عيد الكاباروت 2015
  2. فيديو يصور عيد الكاباروت في نيويورك 2013
  3. فيديو يصور النفايات بعد الكاباروت 2016
  4. فيديو يصور اعتراضات جمعيات حقوق الحيوان 2016
  5. فيديو يشجع اليهود على دفع التبرعات المادية عوضًا عن ذبح الدجاج في عيد الكاباروت 2016

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مروة مراد

تدقيق لغوي: عبدالله أسامة

اترك تعليقا