فيلسوفوبيا (ج1)

لماذا يصاب الكثيرون برهاب الفلسفة؟

لماذا يصاب الكثير برهاب الفلسفه؟

على مرّ التاريخ، لماذا تتخذ البشريه موقفًا معاديًا للفلسفة والفلاسفة؟
يقف مجتمع ما قبل التنوير موقفًا غير مفهوم تجاه إعمال العقل في الاستدلال وفهم الوجود، ولم يتغيّر الحال كثيرًا في مقتبل القرن السابع عشر إزاء حركة التنوير في المجتمعات الأوربية، فظلّ أصحاب الفكر مصدر إزعاج وتهديد للأنظمه الحاكمة أو المؤسسات الدينية سواء في المجتمعات الغربية والعربية، بل واختصّت المجتمعات العربية بنبذ الفلسفة والفلاسفة.
في هذا المقال الذي سأعرضه على ثلاثة أجزاء أودّ أن يكون إجابة لتساؤلات عديدة يطرحها الكثير حول الفلسفة كونها مصدر قلق لكثيرين في العالم العربي خاصة.

 

في بادئ الأمر يستوجب عليّ أن أقدّم تعريفًا للفظة ولماهية الفلسفة، وعند قولي ماهية لا أقصد تعريفًا إصلاحيًا لكلمة الفلسفة، لكن دعونا نذهب أبعد من ذلك التعريف اللفظي لنتجاوز التسطيح لمفهومها ونغدو أقرب إلى جوهرها.

يعني لفظ “الفلسفة”في اللغة اليونانية القديمة “البحث عن الحكمة”، وأُطلق قديمًا على من يدرسون الفللك والفيزياء والكمياء والرياضيات، فاعتُبر وصفًا لمن يلمّ بالمعرفة ويسعى في طريقها. فالفلسفة لم تكن كما يحدّدها البعض بأنها ليست علمًا محددًا لا يوجد تعريف محدّد له- إذ يردّد البعض مستهزءًا أنّ تعريف الفلسفة يوجد بعدد الفلاسفة، وهو أمر في غاية السطحية- إذ أنّه (لفظ الفلسفة) يعني كذلك إشغالُ فكر الفيلسوف في الوجود ومظاهره وقضاياه، لذلك هو في الأصل مجمع العلوم والفكر ولا يمكن حصره في تعريف قاصر، وهذا يجعلنا نتطرّق إلى إطار أشمل للفلسفة وهو البحث في ماهية الفلسفة.

ماهية الفلسفة

الفلسفة تجسيد للماهية الأصلية للإنسان، فهي الخاصية الأكثر التصاقًا به، القدرة على التفكير والقدرة على التمييز بين الصّواب والخطأ، الصّدق والكذب، الكرامة والمهانة، العبودية والحرية، الحقيقة والوهم، الخير والشر، جميع تلك المتناقضات إنما يدركها الإنسان بالبحث. فالفلسفة هي إدراك لمُمْكنات الإنسان ووعيه بإنسانيته، ومن ثَمّ فإنّ وعي الإنسان يتكوّن من تمرين الفكر وإعمال العقل وليس بعزله عن الموجودات. فكانت غاية الفلسفة دومًا هي البحث عن الصّدق في ظلّ تاريخ إنسانيّ غارق في الأكاذيب، والسّعي خلف الحقيقة في مجتمات اعتادت الرّكون إلى الزّيف عوضًا عن الحقائق رغبة في الاستسلام وعزفًا عن تكبّد عناء البحث في دروب الحقيقة.

ولهذا كانت الفلسفة دومًا كالجمر في طريق الأنظمة الديكتاتورية والفاشية الدينية، فرغبتهم من الشعوب دومًا ما تختلف مع غاية الفلسفة، إذ يبتغون استبلاد الإنسان، وتركه مُحطّمًا في ظلام كهف الجهالة.. وتثبيت الإنسان في القصور الدائم، والحيلولة بينه وبين عقله لمنعه من بلوغ الرشد الفكري والنضج الوجداني، بينما تهدف الأخيرة إلى تعزيز الفكر والحرية في تسيير الأنظمة سواء في مجال التشريع أو نظام الحكم أو الدين. وقد يحدث أنّ الخلافات الفلسفية قد تؤدّي إلى الإطاحة بالحكومات وإحداث تغييرات جذرية في القوانين وتحويل الأنظمة الاقتصادية بالكامل، لذا ستظلّ مصالح الأنظمه الديكتاتورية والفاشية الدينية تعارض غاية الفلسفة.

إعلان

الفلسفة، رفاهية فكرية أم ضرورة إنسانية؟

يخرج علينا البعض متشدّقين بأنّ الفلسفة لا تتعدّى كونها رفاهية فكرية، فقضايا كوجود الإنسان ومصيره وعلّة الوجود والبحث في أصل الموجودات لا يتعدى كونه تفكيرًا لا طائل منه، إذ لا يغيّر تقديم التفسير لوجودنا وماهية الأشياء في العالم شيئًا، ولن يزول الوجود من حولنا إذا توقّف الفلاسفة عن تفسيره! للأسف، توجد هذه الأفكار لدى الكثير والكثير ممن حولنا، دعونا نوضّح كيف تعتبر الفلسفة الفطرة السليمة للإنسان حتى وإن أنكرناها.
يتميّز الإنسان عن غيره بالعقل (الوعي البشري) الذي يُمكّنه من إدراك ذاته والوجود والقيم، ومنذ الأزل يبحث الإنسان عن مصدر وجوده فاهتدى إلى الآلهة، ومازال يفكّر في الوجود من حوله حتى وصل إلى العصر الحديث بكلّ ما يحمله من تطوّرات، فالفكر إذًا هو جبلة الإنسان العميقة التي لا تنفصل عنه فلا مجال لإنكاره، ولمّا كانت عملية الفكر تلك تؤدي إلى إجابة الإنسان عن مصدر وجوده ومعرفة أصل الأشياء والقيم والوصول لوضع أنماط الحياة وقوانين المجتمعات فهذا هو ما تعنيه الفلسفة. لذلك يكون القول بأنّ الفلسفة لا طائل منها محض هراء، فكما يقول “أرسطو”:

الحياة الخالية من التأمل لا تليق بالبشر، بوسعنا أن نكفّ عن أن نتفلسف، لكن يجب أن نتفلسف أيضًا حتى نبرهن على ذلك، إذًا في جميع الأحوال علينا ان نتفلسف.

 

فكلّ رافض للفسلفة يحتاج بالضرورة إلى الفلسفة لإظهار علة رفضه. يقول ديكارت في كتابه “مبادئ الفلسفة”:

إنّ لفظ الفلسفة هذا معناه دراسة الحكمة، وليس المقصود بالحكمة الحذر في الأعمال فحسب، وإنما هي معرفة تامّة بسائر الأشياء التي يستطيع الإنسان معرفتها من أجل تحسين السلوك والوصول إلى سائر العلوم، إنّ الفلسفة وحدها هي التي تميّزنا عن الأقوام المتوحشّين والهمجيين، وحضارة أمّة وثقافتها إنّما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها.

لذا كبح جماح الفلسفة في كلّ منّا يجعلنا نمضي في وجودنا سجناء دوغمائيات زائفة وحياة روتينية مجرّدة من التأمّل، فيظهر لنا العالم محدودًا محصورًا واضحًا، ولا تثير فيه الأشياء العادية أيّ تساؤل، وهذا لا يجعل الإنسان يختلف كثيرًا عن كونه ألهة جامدة لا تعقل، كيف إذًا يصل المرء إلى حالة النضج الفكريّ الذي يجعله قادرًا على علاج المشكلات؟ فالفلسفة تفتح مدارك الأفراد… فقديمًا كان سقراط يمشي بين الناس محاورًا ليس بغية إثارة شكوكهم، لكن رغبة في إثارة عقولهم فتتوسّع مداركهم ليمتلك أهل أثينا القدرة على التمييز بين الحقّ والزّيف. ولمّا كان امتلاك الشعب لهبة التفكير الحرّ وإدراك حقوقه في اكتساب حريته تهديدًا على نظام الحكم فقد حكموا على سقراط بالموت.
يمكننا إدراك أهمية الفلسفة للأفراد، بل إنّ فائدتها تتعدّى كونها هامّة للفرد إلى المجتمع عامّة، فسلوك الناس في أيّ مجتمع ليس سلوكًا عشوائيًا، وإنما هناك أسس فكرية عامة يقوم عليها المجتمع تمثّل البناء النظريّ له، واستخلاص هذا الإطار الفكريّ الذي تقوم عليه الحياة العملية في المجتمع من صميم عمل الفلاسفة، والذين بمقدورهم ردّ المعاملات والأحداث الجزئية في المجتمع إلى أصولها البعيدة بواسطة المنهج الفلسفي التحليلي، فتحدّد الإطار الفكري والمبادئ النظرية التي يسير عليها العمل في المجتمع وتساعد على فهم السلوك العملي للأفراد والممارسات.

قد يتساءل البعض: ما الناتج العمليّ للفلسفة بخلاف ما تقدّمه من إنتاج نظريّ؟

دعونا نسلم بأنّ كلّ علم من العلوم يعتمد على طائفة من المعاني الأولية التي تعدّ أساسًا له، سواء كانت علوم رياضية -مثلًا- تعتمد على معاني الوحدة واللانهائي والنهائي وغيرها من فروض فلسفية، والعلوم الطبيعية كالكمياء والفيزياء والتي تعتمد على معاني المادة والقانون والعلة والقوة والحركة. فالفلسفة هي التي تكشف حقيقة هذه المعاني وقيمتها. وهي التي تكشف للعلم عن طبيعة العقل الذي هو أداة من أدواته يستعين به على ضبط المشاهدات والتجارب، فتجد الفلسفة تحدّد ما إذا كان من الممكن الوثوق بأحكام العقل وتتساءل عن أداة المعرفة؛ العقل أم الحواسّ، وعلى الرّغم من الآراء العديدة والإجابات المتعددة التي تُطرح حول إشكاليةٍ ما إلا أنّ ذلك لا يُعتبر قصورًا في الفلسفة طالما تخضع الآراء لقياس منطقي، ويأتي هنا دور الدارس للفلسفة فيميّز بين الغثّ والسّمين والصّالح والفاسد وهذا ما يختلط على البعض في الخلط بين المذاهب والتوجّهات الفلسفيه فهناك “الفلسفة المادية” و”الفلسفة المثالية” وكلاهما تبحثان في مصير الإنسان وفهم الوجود .. لكن لكلٍّ مورده، وعادة ما تكون الفلسفة المادية هي ما يبني عليها العامة أحكامًا بأنها طريق مناقض للإيمان لكنّ تلك نظرة قاصرة لا تقارب صحّتها مقدار علم المدّعين بالحكم عليها.

وهذا موضوعنا في الجزء الثاني من المقال في الأسبوع المقبل (الفلسفة المادية والفلسفة المثالية) والرّدّ على المدّعين.
وسنتبعه بالجزء الثالث والأخير بعنوان (الإسلام والفلسفة الغربية وفلسفة الغزالي وابن رشد ).

إعلان

اترك تعليقا