في رثاء الفارس الأخير

 
كان رفعت إسماعيل مختلفًا، لم يكن شابًا يضرِبُ بأطرافه الأربعة، لم يكن يستطيعُ قيادةَ جميعِ أنواع المركبات، ولم يكن يحطّمُ فكَّ مُنافِسِهِ بلكمةٍ ساحقة، كان عاديًا جدًا، عجوزًا، غبيًا أحيانًا، مُحِبًا، وفاتنًا دائمًا حتى لو لم يرتدِ بِدلتَهُ الكُحلية، عاديٌّ لدرجةِ توقُّع موتِهِ في أيِّ لحظةٍ من “الخضّة”، بينما كان أدهمُ جَسورًا لا يفقدُ أعصابَه، ولا يموتُ وإن أحاط به جيشٌ جرّار، وإن ألقَوهُ بالقنابلِ وأمطروهُ بالرصاص، وكنتُ في طفولتي منحازًا لأدهم وأدركتُ في شبابي كم فوّتُّ من عُمُري حين لم أعطِ رفعت الوقتَ والمساحةَ الكافية.

***

حتى قبلَ ثورةِ يناير، كان رفعت يحلُّ ثالثًا في نفسي، بعد أدهم ونور الدين محمود، بطلُ ملفِّ المستقبل، نموذجُ البطلِ الحديديِّ الذي لا يُخطئ، جذورُنا الفرعونيةُ التي تؤمنُ بالزعيمِ الإله، كانت الثورةُ نقطةُ التحوّل، هزّت عرشَ الزعيم، قوّضت فكرةَ الفردِ الإله، وكشفت لنا قبحَ وجوهٍ كنا نظنُّها الأفضل.

جاءت الثورةُ ومعها أبطالُها، عاديون جدًا، لا يحطّمون فِكاكَ أحد، لا يستطيعون تفادي الرصاصات، يموتون مخلّفينَ وراءَهمُ الألمَ والحزنَ تمامًا كرفعت، كان العجوزُ الفاتنُ بشارةَ انتصارِنا نحن -العاديين جدًا-، إمكانيةَ تحوّلنا في اللحظات الفارقةِ إلى أبطال.

***

إعلان

في مقالِهِ بموقعِ شبابيك، يحكي الصديقُ محمود حافظ أنّ الدكتورَ أحمد خالد توفيق كان عضوًا في منتدى ’’شبكةِ الرواياتِ التفاعليةِ’’ الذي كان بمثابةِ تجمّعٍ للقرّاءِ العربِ قبل ظهور Facebook، وفي مرةٍ طَرَحَ أحدُ الأعضاءِ سؤالًا: “القطةُ أم كلُّ ما كتبْتَ؟”، وفِكرَتُهُ ببساطة أن يتخيّلَ المرءُ نفسَه أديبًا قضى سنواتٍ طويلةٍ في كتابةِ أهمِّ مؤلّفاتِهِ وأعمالِهِ ووَضَعَها على المكتبِ في غرفتِه، ثمّ شبَّ حريقٌ هائلٌ في الغرفة، ودخلَ الكاتبُ ليختارَ بين إنقاذ أعمالِهِ الثمينةِ أو قطتِهِ الأليفةِ العالقةِ بالغرفة.

أجاب توفيق قائلًا: «لو لم أُنقِذ القطةَ فأنا أديب مزيّف، ولصارت أعمالي تستحقُّ الحرْق، لأنّ كلَّ ما كتبتُه لا يساوي لحظةً من لَعِبِ القطةِ في الشمس، إنها روعةُ الطبيعةِ التي خلقها الله»

هذه الإجابة هي مِفتاحُ فَهْمِ شخصيةِ الرجل، هو مستعدٌّ للتضحيةِ بكلّ مَكاسِبِه، هو غيرُ مزيّف، صادقٌ وإنسانٌ وحقيقيٌ، وغيرُ مدّعٍ، تمامًا كرفعت إسماعيل، بطلٌ عاديٌ جدًا، بقلبٍ منهَكٍ، خشونةٌ في المفاصل، وأوردةٌ مملوءةٌ بدخان سجائرِهِ الذي اضطّرَّهُ الأطباءُ لتركِها أواخرَ سنواتِ عُمُرِه، حينَ سَقَطتِ الدماءُ للمرةِ الأولى، كان من الممكنِ أن يتجاهلَ كلَّ شيء، هو لم يبشِّرْنا يومًا بمِصرَ التي تسيلُ تحتَ أعلامِها الدماء، هو لم يدّعِ يومًا أنه حارسُ القِيَمِ والمبادئ، هو لم يكن سوى شخصٍ عاديٍ جدًا، ولكنه الوحيدُ الذي ثبَتَ حين نَكَصَ الآخرون، ’’لمَـا شـاف الـدَم قـال: “الــدم”، ما افتكرشِ التوت ولا العِنّاب!’’.

***

كان الأمسُ عصيبًا، فقدنا العرّاب، لم نكن نعلم أنّا نحبُّه بكلِّ هذا القدر، لم ندركْ أنّ روحَنا ستتمزّقُ بكلِّ هذا الحجم، كنا نحيطُهُ بالمحبةِ في حياته، ولكنه لم يدرك كلَّ المحبةِ التي أحاطت به، حجمَ محبتِه الحقيقيةِ في نفوسِنا. ساعةَ عِلْمِنا بالخبرِ المفجعِ كتبَ صديقٌ “كان آخرَ أنبيائِنا … آخر حد صدق معانا … آخر حد كان مننا”.

حين بدأتُ القراءةَ له قرأتُ “أسطورةُ الرجالِ الذين لم يعودوا كذلك”، كُتبَ على غلافِها “إنهم في كلِّ مكانٍ للأسفِ هذهِ الأيام… كلُّ الرجالِ الذين لم يعودوا كذلك، إلى درجةِ أنَّ الأسطورةَ الحقيقيةَ هي أن تحكي عن رجالٍ ظلوا كذلك”، كان رجلًا وظلَّ كذلك، حين فاجَأَنا آخرون بأنهم لم يعودوا كذلك، حين انحنَوا للريح، حين باعُوا مبادِئَهُم التي ظلوا يطنطنون بها طوالَ الوقت، حين اكتشفنا زيفَهم وكَذِبَهُم، حين شَعَرْنا بالخِداعِ وأدرَكْنا صِدْقَهُ وَحدَه.

كان ملاذَنا الأخير، الرمزَ الوحيدَ الذي لم يسقطْ بعدَ الثورةِ يومَ أخَذَ الجميعُ يتساقطون كالذباب، يكشِفون عن جوانبهمُ القبيحةَ، تُوقِعُهُم يدُ اللهِ في التَّجرِبة، فتنهارُ كلُّ قِواهمُ الخارقةِ، ويبقى هو هذا العاديُّ البسيطُ العظيمُ صامدًا، كان “رفعت” العجوزُ الوحيدَ الذي ظلّ يفكّرُ مثلَنا، وكان هو آخرُ روابِطِنا مع عالَمِ الكبارِ الذين خذلونا ولم يكونوا إلى جانِبِنا بعد أن دفعونا إلى المعركة، ثمّ وجدناهم في الصّفِّ الآخَر، العشراتُ من الكتّابِ والمثقّفينَ والفنانينَ الذين قدّموا أنفسَهم على أنهم فرسان، ولم يكونوا في الحقيقةِ سوى بعضِ اللصوص، “حتى الذين يندّدون كما الضمائرِ باللصوص… فرسانُ هذا العصرِ هم بعضُ اللصوص!”، كانوا لصوصًا، وكان فارسًا، فارسًا أخيرًا، لم يستطِعْ قلبُه تحمُّلَ كلِّ هذا القبح، فترجَّلَ عن جوادِهِ ليترُكَنَا أمامَ أسطورةٍ حقيقيةٍ، أسطورةِ رجلٍ في زمنٍ عَزّ فيه الرجال، في وطنٍ يفقدُ أُلفَتَهُ، ونفقدُ فيه كلَّ يومٍ موطئَ قَدَم، فتصيرُ غربتُنا فيه أكبر.

العرّابُ، الطبيبُ، الإنسانُ، البطلُ، النبيلُ، فارسُ الزمانِ الوحيدِ، في زمنِ المُسُوخ، طابَ حيًا وميتًا.

إعلان

اترك تعليقا