كالذي عانى كل شيء.. فأصبح بذلك لا يعاني شيئًا

قراءة في مسرحية هاملت للكاتب وليم شكسبير

هل من تهمةٍ أكثر إذلالًا من اتّهام العاقل بالجنون؟
ولكن ماذا لو أن ذلك العاقل هو من ألصق تلك التهمة بنفسه طواعيةً وبوعيٍ تام! هكذا فعل هاملت أمير الدنمارك، وابن الملك المغدور الذي قُتل على يد أخيه طمعًا في العرش.
فهل استحقّ سعي هاملت وراء الحقيقة والانتقام العيش كالمجنون وهو أذكى الجميع؟
وهل استحقّ الانتقام سقوط الجميع في مساواةٍ مجحفةٍ بين الظالم والمظلوم؟

شكسبير ومسرحية هاملت

يُقدِّم شكسبير منذ بداية العمل إحدى أعظم حالات التخبُّط الذهني، التشكُّك، وعدم اليقين مُجسّدًا في شخصية هاملت الذي يتآكله الشك حول العلاقة بين أمه وعمه وحول حقيقة مقتل أبيه.. ولكن لا تلبث تلك الحالة من التخبُّط أن تنزوي قليلًا ليظهر هاملت في ثوبٍ جديدٍ وتتّخذ أحداث المسرحية منحًى مختلفًا، وهنا تبدأ المتعة الحقيقية للعمل، إذ يتلاعب شكسبير بالقارئ بحرفيّةٍ شديدة.. يقدم لك الشيء وعكسه بنفس الدرجة من الإقناع. لكن.. أكان هاملت بتلك المثالية التي يدّعيها أم مسّه الجنون فعلًا؟
فتارةً تجد الاستجابات السريعة والعفوية، والردود التي تُظهر هامـلت في أعلى درجات الاتّزان النفسي.. وتارةً أخرى تعود لتجزم.. هو حتمًا مسّه الجنون. ولكن الأنكى من ذلك أنك لا تلبث أن تعتقد أن هاملت شخصٌ غريبٌ فعلًا.. فهو يبدو طوال تظاهره بالجنون سعيًا وراء الحقيقة والانتقام أنه حقًا يستمتع بدور الذي فقد عقله!
يتلاعب بالجميع بلا استثناء، ويسخر من أقرب الأشخاص إليه، حتى نفسه لم تسلم منه!

ولكن مرةً أخرى تظهر المتعة حيث لا تتوقّعها مطلقًا.. فهاملت الذي فقد عقله أظهر براعة شكسبير اللغوية والمسرحية على حدٍّ سواء.. فحواراته يميزها التلاعب اللفظي المتقن، الألفاظ المنتفخة، الصعبة والحادة.. ولكن الإبداع الحقيقي يكمن في التخفيف من وطأة تلك اللغة الصعبة بالجناس، والتصريع، واللوحات الخيالية المتقنة التي تُعزِّزها طبيعة النص الشعرية، ذلك فضلًا عن أن تلك المشاهد تُنشِّط عين الخيال عند القارئ في حين يستدرجه النص بأكثر من مناجاةٍ أجادها شكسبير بنفس الدرجة.. وتعتبر إحداها هي أعظم مناجاة قُدِّمت في تاريخ الأدب بشكلٍ عام.

هناك شيء عفن يحاك في الدنمارك

تبدأ حبكة العمل في التشكُّل بوتيرةٍ سريعةٍ نسبيًّا عندما يقرر الملك أن يحيك مكيدةً للتخلُّص من هاملت، ولكن تأخذ الأمور منحًى مختلفًا وسرعان ما تجد نفسك أمام سلسلة من السقوط لجميع شخصيات العمل.. فهاملت بتردده الشهير يجعل الأمور أكثر تعقيدًا ويتسبّب عدم حسمه لأمره في شيوع حالةٍ من الفوضى في حياة الجميع..
ولكن وسط تلك الفوضى لا يسعك إلا أن تلاحظ أن شكسبير أخذ يدفع بكل الشخصيات نحو مصيرٍ مشترك ونهايةٍ سوداوية..
أجاد حبك أزمةٍ نفسيّةٍ يتساوى فيها الجميع.. فكل الشخوص تعاني بشكلٍ ما، كلها تبحث عن خاتمةٍ وكلها لاقت نفس المصير.
لكن البطل الأوحد لتلك الأزمة هو هاملت.. كل الأحداث تدور حوله وكل خيوط الحبكة تخرج منه وتعود إليه.

مناجات هاملت

تعد هاملت من أهم الأعمال في التراث الأدبي العالمي على الإطلاق، وتحتل المرتبة الأولى من حيث الإنتاج المسرحي، وأبرز ما جعل هاملت تحتل تلك المرتبة بين الأدب المسرحي العالمي هو مناجات هاملت التي خرجت من إطار أرحب بكثيرٍ من البوح لتتحوّل إلى مجموعةٍ من حالات التنفيس والتحليل المختلفة.. وعلى تعددها يتعدد فحواها.. فمن الشهوة، والتوحش، وعبثية الحياة، ومحاولة الانتحار، والجدوى من الحقيقة والانتقام إلى الحيرة، والشك، والتردد.
وما عزّز مناجات هاملت وجعلها صورةً حيّةً ونابضةً بالمشاعر هي اللوحات التي أجاد شكسبير رسمها في خلفيّة كل مناجاة.. مقدمًا في كل مناجاةٍ حالةً نفسيّةً متباينةً تمامًا مع ما سبقها مع الحفاظ على التصعيد في كلٍّ منها ممّا يجعل القارئ في حالة ترقُّب وانجذاب، جائعًا للمزيد من هاملت!
وجعل شكسبير تلك المناجات بمثابة أعمدة يقوم عليها العمل ككل، فكل مناجاةٍ هي حالة مكاشفة محورية ولحظة فارقة في العمل وتحوُّل الأحداث، ويخدم تلك الفكرة مسار الأحداث الذي يجعل كل مناجاةٍ تقود للأخرى بسلاسة.

إعلان

أكون أو لا أكون

مسلوب القوّة طواعية.. مثقلًا بعبء الانتقام.. ويرزح تحت وطأة ما فعله أقرب الأشخاص إليه.. يُقدِّم هاملت مناجاة ذهنية بحتة، هي المناجاة الأبرز في تاريخ المسرح العالمي حيث يتحرّر فيها شكسبير من الإطار الضيق للزمان والمكان مطلقًا السؤال الأشهر والأهم على حدٍّ سواء… أكون أو لا أكون؟

لماذا هاملت؟

لا أحد يستطيع أن يعطي شكسبير أفضلية السبق في طرح الفكرة، إذ إن الاتجاه لموضوعات المسرح في تلك الحقبة كان الثأر والانتقام، فلا أحد يستطيع أن يجزم بأسبقية شكسبير لذلك بل إن شكسبير قد أُلهم بمسرحيّةٍ قدّمها قسٌّ دنماركيٌّ تتناول نفس الموضوع لكن من منظورٍ مختلف.. ولكن ما جعل هاملت بهذا التميُّز والانفراد هو ما استطاعه شكسبير من الجمع بين اللغة الجزلة، والشعر الجميل، واللوحات المليئة بالإحساس والخيال من جانبٍ وبين التحليل الفلسفي والبعد الوجودي في العمل من جانب آخر.
وهاملت كذلك يعد النموذج المثاليّ للنفس البشرية بكل ما تحمله من تناقضات جمّة، وحيرةٍ وتردُّد.. حتى إن شخصية هاملت اشتهرت بالحيرة والتذبذب الشديد.. ولكن ألا يُعتبر اللاقرار هو قرار بحد ذاته؟ هو اختار ألا يفعل مكتفيًا برد الفعل.. فربما رغم كل شيءٍ لم يكن هاملت ذلك المتردد الذي اعتقدناه!

عقدة أوديب!

لا تخفى أهمية هاملت الأدبية كعملٍ كلاسيكيٍّ عالميّ.. ولكن هـاملت نجحت في أن تتخطى أهميتها الأدبية وتصل إلى أهمّيّةٍ تحليليّةٍ نفسيّةٍ بامتياز.. فهاملت يمثل النموذج المثالي لعلاقة الوعي باللاوعي..
وحتى مع التسليم بحقيقة أن عمه قتل أباه… يبدو أن هاملت لديه سببٌ كامنٌ في اللاوعي جعله يسعى للانتقام.. سببٌ آخر بخلاف مقتل أبيه.. سببٌ يدفعه لينتقم وفي نفس الوقت يقيده ويجعله مترددًا في التنفيذ.

فهل كان لتردُّد هاملت دافع آخر كامن في اللاوعي؟
هل كان يعاني من عقدة أوديب؟
هل كان سيسعى للتخلُّص من أبيه لو لم يفعل عمه ذلك؟
هل كان يسعى للانتقام من عمه لقتل أبيه أم لعلاقته بأمه؟
وبخلاف علاقته الشائكة مع أمه منذ بداية العمل، علاقة هاملت بحبيبته أوفيليا كذلك كانت موضع تساؤل وتعجُّب..
لماذا عامل تلك الفتاة النقيّة بتلك القسوة؟
لماذا دفعها للانتحار، رغم أنه لم يتوان عن تأكيد أنه يحبها؟
فهل أحب أوفيليا حقًا أم أنها شكّلت له كل ما كان يكره في أمه ورأى قسوته عليها خطوةً ضروريّةً في سعيه المزعوم للانتقام؟
وأخيرًا السؤال الأكثر أهمّيّةً وتجنُّبًا على حدٍّ سواء.. هل هاملت شخص مجنون أم ربما هو فقط غريب الأطوار مصاب بعقدة أوديب النفسيّة التي جعلته يتصوّر شبح أبيه؛ ليبرر لنفسه سعيه وراء الانتقام من عمه الذي سرق منه حب أمه؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نسمة الطيب

تدقيق لغوي: عبد الله أسامة

اترك تعليقا