مئة عام من الإغراء

مئة عام من العزلة كانت كفيلة بخلق وعيٍّ عجيب، خرافي، مختلف وخاص بقرية ماكوندو. وبهذا الوعيِّ العجيبِ الذي تمَّ تشكيلُه في كلِّ تلك السنوات، يروي لنا ماركيز ببساطةِ الخرافة.

نعم، لا بد أن ماركيز استعار وعيَّ أحد سكان ماكوندو القدامى، ولا بد أن هذا الساكن -كما هو الحال مع القرية كلها- من اختراع ماركيز نفسه، وفي نقطة تقاطع وعي الكاتب مع وعي هذا الساكن القديم لقرية ماكوندو، يروي لنا ماركيز روايته. لذا فنحن مطالبون، ونحن نقرأ هذه الرواية، بأن نترك عيوننا الحديثة، العصرية، وأن نقرأ بعيون أهالي ماكوندو.

عندما شاهد مؤسس ماكوندو الجليد لأول مرة هتف وهو يضع يده عليه وكأنه يُقدِّم شهادةً ويده على الكتاب المقدس: هذا هو أعظم اختراعات عصرنا!

وعندما اجتاح وباء الأرق والنسيان القرية وقع كثيرون “في سحر واقع تخيُّلي، اخترعوه بأنفسهم، وبدا لهم أقلّ عمليّةً ولكنه أكثر راحة” و”بعد سنوات طويلة من ذلك”، كان سكان ماكوندو الذين تَقَبّلوا سجادة الطيرانِ كجزءٍ من الطريقة الطبيعية للأشياء، يشكُّون في حقيقة مخترعات التكنولوجيا: “مبهورين بكثرة الاختراعاتِ وروعتها العجيبة، لم يعد أهالي ماكوندو يعرفون من أين يبدؤون بالاندهاش”. “أصاب الذهول حتى أبعد الناس عن التصديق. كان كما لو أن الرب قد قرر اختبار قدرة أهالي ماكوندو على الدهشة، وإبقاءهم في تذبذب دائم بين البهجة والخيبة، وبين الشك والتجلي، إلى حد لم يعد هناك من هو قادر أن يعلم علم اليقين، أين هي حدود الواقع. كان اختلاطًا عشوائيًّا متشابكًا من الحقائق والسرابات”.

الرواية لا تعكس الحقيقة كما يراها مراقبٌ واحد، وإنما كما يراها عدة مراقبين بخلفياتٍ مختلفة، وتتعامل مع أساطير وخرافات السكان الأصليين كأشياء قابلة للتصديق تاريخيًا.

إعلان

ويبدو أن ماركيز يخلط بين الواقع والخيال، لأنه من بعض وجهات النظر، قد يكون الخيال أكثر صدقًا من الواقع. والواقعية السحرية تنقل حقيقة أن العالم منقوعٌ في مزيجٍ من السحر والخرافة.

“لقد كانت روايةً يصعب تصديقها، إلا أنه لم تكن هناك رواية أخرى أقرب إلى المعقول (…) فما إن أغلق خوسيه أركاديو باب غرفة النوم، حتى دوى صوت طلقة مسدس في البيت. وخرج خيط دمٍ من تحت الباب، اجتاز الصالة، وخرج إلى الشارع، وواصل في مسارٍ مستقيمٍ على الأرصفة غير المتصلة، فنزل أدراجًا وصعد أطاريف، ومرَّ عرضًا من شارع الأتراك، وانعطف عند ناصيةٍ إلى اليمين، وعند أخرى إلى اليسار، ثم دار في زاويةٍ قائمةٍ قبالة بيت آل بوينديا، ومرَّ من تحت الباب المغلق، واجتاز غرفة الضيوف بمحاذاة الجدران، كيلا تتلوث السجاجيد، وواصل عبر الصالة الأخرى، مبتعدًا في انحناءة واسعة، عن منضدة غرفة الطعام، وتقدّم عبر ردهة البيغونيا، ومرَّ دون أن يُرى، تحت كرسي آمارانتا التي كانت تعطي أوريليانو درسًا في الحساب، ثم دخل مستودع الحبوب، وظهر في المطبخ، حيث كانت أورسولا تستعد لكسر ست وثلاثين بيضة من أجل الخبز.

– يا قديسة مريم الطاهرة! – صرخت أورسولا”.

قفزات ماركيز وكلامه عن المستقبل دائمًا ثم كلامه عن الماضي فيما بعد وعن الحاضر في كل الأوقات، كل هذا يخلق وعيًا مختلفًا بالزمن لدى القارئ. لدرجة أنه في أواخر الرواية وعندما يستدعي الراوي شيئًا من الماضي يشعر القارئ بأن هذا الحدث الذي قرأه منذ ساعاتٍ قد مرَّ عليه قرنٌ من الزمان فعلًا، وأنه استغرق في قراءة هذه الرواية مئة عامٍ بتقويمٍ ما.

ومع ذلك، فالزمن في ماكوندو يرفض أن ينقسم بصورة مرتبة إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، وقد كان مؤسس ماكوندو هو “الوحيد الذي امتلك صفاء ذهنٍ يتيح له رؤية حقيقة أن الزمن أيضًا يتعرض لعقبات وحوادث، ويمكن له بالتالي أن يتشظى”. وقبل أن يُجنّ، اعتقد أن نفس اليوم يُكرر نفسه مرةً بعد أخرى، وأن الماضي يتداخل مع الحاضر والمستقبل. كان ذلك قبل أن يربطوه إلى شجرة الكستناء ويبنوا فوقه “سقفًا من السعف لحمايته من الشمس والمطر”. لكن زوجته أورسولا كانت أول من لاحظ أن الزمن غير محدود، وأنه يعيد نفسه في دائرة. هذا التزامن يؤدي إلى فقدان الذاكرة، وإلى نسيان الناس للماضي لشدة شبهه بالحاضر، وإلى إمكانية توقُّع المستقبل، والتنبؤ به.

“حمل خوسيه أركاديو الثاني الطفل على كتفيه. وبعد سنوات طويلة، سيظل هذا الطفل يروي، دون أن يصدقه أحد، أنه رأى الملازم يقرأ عبر نفير فونوغراف، البلاغ رقم 4 الصادر عن الحاكم المدني والعسكري للمقاطعة”، “بعد سنوات طويلة من ذلك، كان الطفل لا يزال يروي، بالرغم من أن الجيران ما زالوا يعتقدون أنه عجوز مختل…”

النوستالجيا وفقدان الذاكرة، هما العلتان اللتان لم ينجُ من إحداهما فردٌ في عائلة بوينديا، الأولى تربط ضحاياها بالماضي، والثانية تحبسهم في الحاضر لذلك فهم يُكرِّرون أنفسهم ولا يستطيعون أبدًا التقدم للمستقبل.

الكولونيل أوريليانو يصنع الأسماك الذهبية ثم يعيد صهرها ثم يصنعها مرةً أخرى، أمارانتا تخيط كفنها ثم تفك الغرز ثم تخيطه مرةً أخرى، الأخطاء تتكرر، الزمن يعيد نفسه.. التاريخ يسير في دائرة، الطبيعة البشرية لا تتغير، هناك تلازم بين الماضي والحاضر والمستقبل. وتاريخ الأسرةِ “دولاب تكرار لا خلاص منه، عجلة دوّارة يمكن لها أن تواصل الدوران إلى الأبد، لولا التآكل المتزايد الذي لا يمكن إصلاحه في المحور”. ولكي يجعل ماركيز هذه النقطة أكثر درامية، يعطي لأعضاء عائلة بوينديا عددًا محدودًا من الأسماء.

ريميديوس الجميلة التي صعدت إلى السماء فيما بعد، تعتبر النموذج الأعلى للجمال في ماكوندو، وفي الرواية. وتتركز في شخصيتها الفلسفة الجمالية التي سيطرت على النص، والتي استمدها الكاتب من جو أمريكا اللاتينية، التي تتميز نساؤها بجمالٍ خاص، هو أبعد ما يكون عن الصور المثالية، بل هو أقرب للطبيعة بفطرتها وعفويتها، وبدائيتها ووحشيتها، ولهذا الجمال جاذبية من نوعٍ خاص، وهو الأكثر غواية وإغراء. كذلك هذه الرواية المُهجّنة، من الواقع والخرافة. الجميلة، كلاتينيةٍ سمراء. وكذلك أبطالها الذين لم يسلم أحدهم من الغواية.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله أسامة

اترك تعليقا