محو الأمية الإحصائية: قصص الإحصاء في حياتي اليومية

يبدو لنا محو الأمية الإحصائية عنوانًا غريبًا، فالجهل بعلم الإحصاء في عرف أغلب الناس ليس “أمية”. الأمية هي فقط الجهل بالقراءة و الكتابة. نادرًا ما تسمع شخصًا يعترف علنا دون خجل بأنه أميّ لا يعرف الكتابة ولا القراءة. ومع هذا، من المعتاد جدًا أن تسمع شخصًا يقول بابتسامة تكاد تشق وجهه نصفين، وهزة كتف مستهينة أنه “راجل مش بتاع أرقام”، أي في كونه لا يعرف المفاهيم الأساسية البدائية للرياضيات innumeracy، ناهيك عن الإحصاء.

وهؤلاء الناس لا يعلمون مدى الأثر السيء لهذه النوعية من الأمية على حياتنا اليومية وقراراتنا الحياتية، ومدى حاجتهم إلى دروس محو الأمية في هذا الرياضيات، خاصة علم الإحصاء.

هناك أشياء تبدو غير قابلة للتصديق لمعظم للذين لم يدرسوا الرياضيات

ارشيميدس

يحضرني في هذا السياق، بعض القصص البسيطة التي واجهتها في حياتي والتي تتماهى في جوهرها مع  بعض المفاهيم الأساسية في الإحصاء. ولولا دروس محو الأمية الإحصائية على اليوتيوب وفي بعض الكتب المسلية لم أتمكن من فهم لمسات علم الإحصاء في هذه المواقف في حياتي اليومية:

القصة الأولى: ألا يشعر النصّاب أن خدعته قديمة؟

“يا جمال انزل علشان لقينا مقبرة فيها سبع مسخايط ذهب وثلاثة عشر حجارة شوف مين يشتري” جاءتني هذه الرسالة منذ شهور على الموبايل! تعجَّبت كثيرًا، ليس من الرسالة ذاتها، لكن من النصَّاب صاحب هذه الحيلة القديمة قدم الدهر.

هل لا زال هؤلاء النصابون يظنون أنَّ هناك أحد لا يزال يصدِّق هذه الخدعة المستهلكة شديدة السذاجة، ويقوم بالاتصال بصاحب الرسالة للفوز بالكنز الأثري.

إعلان

في الحقيقة نعم، لأنَّ النصَّاب يراهن هنا على قوانين الاحتمالات، والتي تشير إلى أنَّه كلَّما كثرت عدد الفرص كلما زاد احتمال تحقُّق أي حدث تستبعد حدوثه، إلى درجة حدوث النادر الذي لا يخطر على قلب أحد، ويسمونه the law of truly large numbers.

ويعني ذلك أنَّه كلَّما كثرت عدد الرسائل بشكل كبير كلما زاد احتمال أن يقع شخص ما في هذا الفخّ.

النصابون في مصر يعرفون الرياضيات بالفطرة، ولهذا تتكرَّر فكرة حيتان توظيف الأموال، ولا زال الناس يصدقونها!

القصة الثانية: سذاجة صاحبي

أحبرني أحد أصدقائي، والذي يعمل مدرسًا للرياضيات أنَّه قد أصيب بخيبة أمل كبيرة في فريق مدرسته الذي انتقى أفراده بنفسه نتيجة سوء أدائهم في مسابقة الرياضيات على مستوى المنطقة. فسألته: على أيِّ أساس كان اختيارك؟ قال: اخترت أصحاب أعلى الدرجات في امتحانات الرياضات في الشهر الذي سبق المسابقة. وأكَّد لي أنه اختار اثنيْ من الطلبة سجلوا الدرجات النهائية في الامتحان المذكور، وكان امتحانًا شديد الصعوبة.

بقدرٍ قليل من الإلمام بالمعلومات الإحصائية، كان صديقي سيعرف أنَّ عليه أن ينظر في درجات 10 شهور على الأقل ليقدّر مستواهم الحقيقي. ما حدث هو أن التفوق الاستثنائي المشار إليه كان نوعًا من التوفيق الذي لا يعول عليه. ولقد عاد التلاميذ إلى مستواهم الطبيعي في بقية الشهور بما فيها وقت المسابقة. وعلى هذا يحتاج صاحبي إلى دروس في محو الأمية في الإحصاء.

تسمى هذه الظاهرة في علم الإحصاء “الانحدار الى المتوسط regression to the mean ” بمعنى أنَّ أيّ وضع استثنائي يعود إلى طبيعته. نشاهد ذلك في لاعب كرة أظهر تميزًا في عدة مباريات محلية، فعندما انضم للمنتخب فشل فشلًا سريعًا.

قصة صديقنا الفنان

يبلغ عمر صديقي محمود، أربعون سنة، خريج حقوق. كان عاشقًا للأوبرا عندما كنا في المدرسة، وكان مدمن متاحف وحفلات. كان يحب لعب الكمان، وحفظ كل أعمال بجانيني، وأفضل فيلم عنده اسمه “صوت الموسيقى”. أي الاحتمالات تختار:
1- محمود عازف موسيقى في ملهى ليلي
2- محمود محامي وعازف موسيقى في ملهى ليلي
3- محمود محامي

الغريب أنَّ أغلب أصحابي اختاروا عازف موسيقى، والباقي محامي وعازف موسيقى. وطبعًا هذه الاختيارات خاطئة في نظرية الاحتمالات فالاختيار الصحيح أو الأكثر احتمالًا هو محامي. لأنَّه ببساطة احتمال أن يكون محمود محاميًا أعلى بكثير من احتمال يكون عازف موسيقى أو عازف موسيقى ومحامي. يوجد في مصر على الأقل مائة ألف محامي مقابل نحو ثلاث مائة عازف كمان الأوبرا. ويدعى هذا الخطأ في الاحتمالات “إهمال المعلومات الأساسية” (base rate neglect).

القصة الرابعة: الإعجاز الرقمي في التوراة

لقد أضحكتني هذه القصة ففي حوار ببرنامج تلفزيوني عن كتاب شهير اسمه “شيفرة الكتاب المقدس”  (The Bible Code). استخدم مؤلف الكتاب الحاسب في رصد رسالات خفية في الكتاب المقدَّس، وذلك بأن أخذ مرَّةً الحرف الخامس من كلِّ كلمة لتكون كلمات جديدة، مرة بالطول ومرة بالعرض ومرة على خط مائل. وطبعًا انتقى أحسن نمط pattern يحقق أهدافه. استخلص رسائل وتنبُّؤات وأسماء أحبار وتواريخ.. كلَّها تؤكد أنَّ الكتاب مصدره إلهي.

طبعا تعدّ الفكرة السابقة ساذجة تمامًا، فلو أمسكت بأيّ كتابٍ كبير، وجلست تبحث عن أنماط معيَّنة من الحروف، سوف تكتشف العجب. أحد الردود التي أعجبتني كانت من أحد الرياضيين الذي استخدم كتابه الحرب والسلام للوصول تقريبًا لمعظم نتائج الكتاب، وقال ضاحكًا: نستنتج من هذا أنَّ الحرب و السلام أيضا كلمة الله. شخص آخر استخدم ما يعرف بالفرضية الصفرية (Null Hypothesis)، وقال، لو افترضنا فعلًا صحة فرضيات المؤلف، فهل لو استخرجت له رسالة تقول أنَّ السبت المقدَّس يوم الأحد، فما رأيه؟ أجاب أحد المؤيِّدين دون أن ينتظر حتى النتيجة سوف أعيد النظر في فرضيات الكتاب.. وليس في صحة أنَّ التوراة كلمة الله.

في الحقيقة أن الأمية الرياضية عامة والإحصائية بوجه خاص تُفقد الشخص القدرة على وضع الأمور في إطارها الصحيح، بل إنَّ هذه النوعية من الجهل هي أحد الأسباب المباشرة لوقوع الناس فريسة نصب شركات توظيف الأموال، وشبكات التربح الهرمية على الانترنت، ولن أبالغ إذا قلت أنَّها سبب قوي في تسلُّط العلوم الزائفة على عقولنا نحن في الشرق، ولو كان أصحاب فكرة الأرض المسطحة على دراية بسيطة بالرياضيات لأدركوا استحالة هذ “الهطل”. فلا يجب على أحدٍ أن يحرم نفسه من معرفة المفاهيم الأساسية في الرياضيات، وإهمال هذا الفرع من المعرفة في بدايات حياتي.

—————————————

ملاحظات:

1 – فيديو لمايكل شيرمر يفنِّد شيفرة الكتاب المقدَّس:

2 – قائمة من الكتب التي تخص هذا المجال:

Innumerecy تأليف John Allen Paulos

How to Lie with Statistics تأليفDarrell Huff

– The Improbability Principle تأليف David J.Hand

Math Smart: Getting a Grip on Basic Math  تأليف Marcia Lerner

إعلان

اترك تعليقا