مدخل لفهم طبيعة الوعي

‎إن الوعي البشري كان من أكثر القضايا الفلسفية والنفسية إلحالا ومازال يطرح تحديا كبيرا أمامنا لمعرفة كيف ينشأ الوعي ، في نهاية القرن الماضي بدأ علماء الأعصاب باعتبار أن الوعي قضيتهم وليست قضية فلسفة أو غيرها ورغم كل ماتم انجازه اليوم إلا أنه لا نستطيع أن نقول أننا نعرف بعد تماما كيف ينشأ الوعي ولكننا على الأقل نمتلك ما قد يعتبر قاعدة جيدة للانطلاق منها في دراسة الوعي ، لن ادخل في الجدال الفلسفي حول الوعي الذي عمره آلاف السنين فليس هذا موضوعنا ولكنني أيضا لا ألغيه فمن غير اللائق إلغاء رأي فلاسفة انفقوا أعمارهم في دراسة مانسميه الوعي ومحاولة معرفه ماهو ، ولكن بصراحة علم الأعصاب اليوم يطرح تصورا للوعي أكثر موضوعية وأكثر قابلية للدراسة وأكثر اقناعاً علمياً ، من كل ما اتى به الفلاسفة ..

مراجعة كتاب مستقبل العقل لميشيو كاكو الجزء الثاني ” 

لايوجد حتى اللحظة تعريف موّحد للوعي ولم يعرفه الفلاسفة أي تعريف واضح خلال القرون الماضية وهذا يعود لعدة مشاكل أهمها أنه من الصعب تعريف شيئ باستخدام الشيئ نفسه في فك ألغاز نفسه ، يعني أنت بحاجة لأن تستخدم وعيك لمعرفة كيف يتشكل وعيك ، والمشكلة الثانية هي أن هذا أوقعنا لقرون في ما يسمى بالثنائية ، والثنائية جعلتنا نغض بصر عن منشأ الوعي الأساسي دون وعي مننا ، أقصد بالثنائية هي ما عبر عنه ديكارت ( ثنائية ديكارت ) بأن الجسد علبة والعقل أو الوعي شيئ مختلف عنه ولا ينتمي له ، ويقصد هنا بأنك أنت قادر على دراسة جسدك المادي ، ولكنك غير قادر على دراسة وعيك الذي يعطيك كيان مستقل عن جسدك بحد ذاته فأنت تدرك أنه جسدك وهذا يعني أنك لست متماهيا معه ، ولكنك متماهي مع وعيك فأنت لا تستطيع النظر له من الخارج ودراسته ، وبالتالي فانت شيئ وجسدك شيئ آخر ، وطبعا هذة فكرة فلسفية مغرية جدا إلى يومنا هذا ، والحقيقة أنه ليس ديكارت أول من قال بهذا ولكن أخذ الشهرة ديكارت والسبب هي الكنيسة على ما أعتقد حيث انها استساغت الفكرة في أن تخرج بشكل مصاغ ومحكم من فم فيلسوف وعالم كبير مثل ديكارت و التي تتماها مع ماتطرحه هي ، ولكن لم تبدأ هذة الفكرة من ديكارت بل الحقيقة أنها منذ بداية نشوء الإنسان العاقل تقريباً ، فأحد أهم وأول مايشعر به الكائن الواعي هو وكأنه كيان مستقل عن نفسه ، وكأنه ينظر لنفسه من الأعلى ومن هنا بدأ يتبلور موضوع أننا لابد أن نكون كيانات لا مادية بداخل جسد مادي وهذة الفكرة سائدة حتى اليوم ومغرية خصوصا بالأوساط الفلسفية …

وهذه الفكرة برأي (ثنائية العقل والجسد ) هي من منعت أن يتم تناول الوعي بأسلوب يمكن لنا دراسته فيه كظاهرة حقيقية وأعتقد لم يكن هناك مفر منها فنحن البشر لا نستطيع تجاهل ما نشعر به وما نشعر به نعتبره حقيقة موجودة وإن لم يكن كذلك حتى ، لهذا أحب أن اسمي هذة الحالة (بوهم الثنائية) فكونك واعي على ذاتك فهذا يعطيك ادراك بأنك لك كيانك وهذا ما يخلق وهما يشعرنا بأننا كيان بداخل كيان آخر أي أن كياننا منفصل عننا نحن أنفسنا ومتداخل بنفس الوقت ، ومن هنا اتى الجدل الفلسفي ، طبعا هذا الوهم لا نراه فقط في حالة الوعي بل أيضا في حالات النشوة العاطفية التي سنناقشها أيضا خلال دراستنا للوعي .

في أواخر القرن الماضي بدأ علماء الأعصاب بالإحساس الجاد تجاه ظاهرة الوعي بأنها من ضمن أكثر المسؤوليات إلحالا لهم وهي من قضايا علم الاعصاب والسبب كما سيتضح لاحقا هو دراسة حالات عصبية بحته نفقد فيها قدرتنا على الوعي لا بل ويشوه فيها وعينا أيضا بل ويمكننا العبث بهذا الوعي ، فما هو هذا الوعي وكيف يتشكل ؟

إعلان

عملية زرع الرأس .. هل سيتم اعتبارها حلا مثل عملية زراعة القلب؟

‎بدأت الفرضيات العصبية بالخروج وساد اعتقاد أننا يجب أن نجد مركز الوعي بالدماغ حيث كان الدماغ بالنسبة لنا عبارة عن كتلة عصبية مقسمة المهام والمراكز وبالتالي فهناك مركز للادراك ، ومركز للذاكرة ، ومركز للوعي ، ومركز للسلوك والخ

ولكن كل البحث عن تلك المراكز باء بالفشل ، فالدماغ صحيح مقسم لمناطق كل منطقة مسؤولة عن جانب ما من عمليات الدماغ ويمكننا بالتنشيط الكهربي أن ننشط وظائف ونثبط أخرى ، ولكن الدماغ ليس بهذه المركزية ، لايوجد مركزية شمولية بالدماغ بمعنى أن هناك منطقة مسؤولة عن وظيفة شاملة ، بل المناطق فيه تدعم وظائف دماغية مختلفة و متداخلة في مابينها بشكل كبير جدا ويمكن لمنطقة دماغية أن تحل مكان جارتها ، كما أوضحت أبحاث الدكتور رامشندران اكتشف سبب ظاهرة الأعضاء الوهمية ، وهي التي ترافق حالات بتر أحد الأعضاء فيبقى المريض يشعر بهذا العضو المبتور كأنه موجود تماما لا بل ويؤلمه أيضا ويحكه ، ولكن إن حككت جزء آخر من جسدك كأن تحك الوجه الذي في نفس طرف الذراع المبتورة فسيشعر المريض وكأن ذراعه حكت ، لماذا ؟ لأن منطقة الإحساس بالذراع مجاورة لمنطقة الإحساس بالوجه في الدماغ وعليه عندما قطعت تلك الذراع توقفت عن إرسال الإشارات لهذة المنطقة الدماغية فتمددت المنطقة المجاورة لها دماغيا وأخذت مهامها .
‎اليوم نعلم تماما أنه لا مركزية بالدماغ بل هناك مناطق تدعم الوظيفة الفلانية ، ومع هذا فعلينا التمييز بين وظائف الدماغ وبين الظواهر الناتجة عن تلك الوظائف ، فهناك مناطق في الدماغ تدعم الذاكرة طويلة الأمد ولكن لا يوجد مركز للذاكرة في الدماغ ، وهناك مناطق تدعم التفكير المنطقي ولكن لا يوجد مركز للسلوك المنطقي الناجم عن هذا التفكير في الدماغ وكذلك الوعي
‎لايوجد مركز للوعي بل الوعي ظاهرة متداخلة مع عدة ظواهر دماغية اخرى لا يمكن أن يكون للوعي وجود دونها وأي خلل فيها قد ينتج لك وعيا مشوها .. كما سنرى لاحقا.

فالزهايمر على سبيل المثال له سبع مراحل الأولى يبدأ بفقدان محدود للذاكرة ، ولكن لا يلبث أن يصبح وعيه على نفسه مشوه جدا فأحيانا يعي نفسه في الماضي وأحيانا أحيانا يعي نفسه في لحظات دون اخرى ، ومواقف دون اخرى إلى أن يصل لمرحلة لا يعي فيها نفسه ، حتى انه لا يعي فيها بعض الإحتياجات الأساسية كدخول الحمام …
‎فمسالة الوعي لا يمكن فصلها عن الذاكرة أو عن الإدراك أو عن التفكير ومن هنا يمكن لنا البدء بحصرها وتحديد أبعادها ، وسنتوسع بها في الأجزاء القادمة وسنحاول تحديد الوعي وفق مفهوم جديد يمكننا دراسته …

وسندرس الذواكر وكيفية التفكير والخ حيث أن كل هذه الظواهر الدماغية يمكن تناولها على حدى إلا الوعي لأن الوعي مرتبط فيها كلها دون استثناء وأي خلل فيها سيسبب تشوها بالوعي .

فيمكن أن تكون مصابا بالشيزوفرينيا وعندك ذاكرة ، ولكن لايمكن أن تغيب ذاكرتك وتبقى واعيا بشكل سليم ، أو تكون مصابا بالشيزوفرينيا وتكون واعيا على حقيقة نفسك ، ولايمكن أيضا أن يختل إدراكك وتكون واعيا بشكل طبيعي ، ولايمكن أن تكون تحت تأثير المخدرات وتكون واعيا بشكل طبيعي … فالوعي جزء لايتجزء من الظواهر الدماغية (كالذاكرة والادراك والشعور الزماني المكاني) الناجمة عن النشاط العصبي التي بات يمكن دراسته ، هذا الجزء هو تمهيد فقط للدخول بمسألة شائكة جدا كالوعي فلم استطع الدخول بالوعي هكذا مباشرة ، و يبدو أن وعينا هو هدية تطور أدمغتنا وتطور وظائفها الحيوية ، لهذا نحتاج لفهم ماهي هذة الوظائف الحيوية وكيف بات يمكننا العبث بالوعي وتغييره …. وسنحاول فهم هذا بشكل مبسط مع أجزاء السلسلة .

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك

ماذا تقرأ هذا الصيف؟ أكثر 5 كتب علمية إدهاشا

وسوسة الشيطان .. قراءة في كتاب تأثير لوسيفر لفيليب زيمباردو

إعلان

اترك تعليقا