مراجعة الجزء الثاني من كتاب مبدأ الريبة

أينشتاين بور وهايزنبرج والصراع من أجل روح العلم

في الجزء السابق من عرضنا لكتاب مبدأ الريبة، توقّفنا مع الكاتب ديفيد لندلي، على أبواب جامعة ميونخ وبالتحديد قسم الفيزياء، لنشهد توافد العباقرة الألمان إلى ذلك الصّرح المهيب، حيث سيقود سمرفيلد فريقه من الباحثين الشبّان الموهوبين نحو أفق جديدة للفيزياء عبر محاولاته الدؤوبة لتفسير أطياف ذرّة الهيدروجين، التي حاول مع بور وضع نموذج رياضيّ محكم يفسّر تركيبها وخواصّها الطّيفية.

المسمار الأخير في نعش الكلاسيكية

كانت ذرة بور-سمرفيلد تترنح، ولم تكن وحدها التي تعاني ، فعالَم الفيزياء الكلاسيكية بأكملة قد أصابة فيروس الكوانتم، وبدت أعراض الانقطاع الكوانتي تهزّ عرش الاستمراريّة الموجية، كان تفسير بور لانتقال الإكترون في مدارات ذرّة الهيدروجين ، هو أنّه لكلّ مدار طاقة محدّدة، أمّا انتقال الإكترون بين المدارات فهو سلوك كمّيّ بامتياز، عدا ذلك فإنّ ذرة بور-سمرفيلد لا زالت وفية لقواعد الفيزياء التقليدية، بمداراتها الدائرية والبيضاوية.

بدأ زلزال الكوانتم بافتراض ماكس بلانك أنّ إشعاع الجسم الأسود ينطلق ويمتصّ متقطّعًا، كان ذلك بالنسبة له حلًّا رياضيَّا، لا يعتقد في وجود واقعيّ له، ثمّ جاء أينشتاين في عام 1905 ليفتح الباب واسعًا على مصراعيه أمام فروض نظرية الكوانتم لتدخل إلى معقل الفيزياء الكلاسيكية الحصين، موجات الضوء، ويعيد إلى الأذهان فرض نيوتن القديم، أنّ الضوء يتكوّن من جسيمات.

يقول أينشتاين، لكي نفهم ظاهرة الانبعاث الكهروضوئي، لابدّ لنا من الإقرار أنّ الضوء، مكوّن من حزم طاقة صغيرة. خطوة جبّارة للأمام  فالعبقريّ الكبير يعتقد وحيدًا في واقعية كموم الضوء، لكنه يرفض القول بأنّه أخذ الفيزياء إلى أرض جديدة، يسودها الانقطاع والاحتمال.
أما بور فكان مصرًّا على أنّ الانقطاع الكمومي وإن كان يبدو للوهلة الأولى متعارضًا مع الحسّ المشترك، إلا أنه  لا بدّ من سبيل للتوفيق بينهما، لذا اقترح فرض التتام، وكعادة كل افتراضات بور، لم يدعّم هذا الرأي ببناء رياضي محكم.
لكن كان للشباب رأي آخر، فمع انضمام باولي وهايزنبرج إلى قسم الفيزياء في ميونخ، كان العالم على موعد مع الثورة التي ما زال إلى اليوم يجني ثمارها، دون أن يفهم تمامًا فرضياتها الغريبة، لمَ لا وهي في الأساس، ثورة ضدّ كل ما هو قديم؟ ففي عالم الكوانتم، كلّ شيء محتمل، وهي بذلك تتناقض مع فهمنا البسيط لوقائع الحياة، وتسخر من الحسّ المشترك.

إعلان

عوز المعرفة لا يضمن النجاح
في هذا الفصل نقترب كثيرًا من شخصيّتَي باولي وهايزنبرج، قطبا الميكانيك الكمومي، كلاهما ولد وترعرع في جوّ أكاديمي؛ والد باولي كان أستاذًا جامعيًا في كلية الطب بفيينا، ترك اليهودية واتجه صوب الكاثوليكية، هربًا من عداء متزايد للسامية، وعهد بولده باولي إلى عدوّ الميتافيزيقية، ارنست ماخ، ليكون بمثابة الأب الروحي لذلك الوليد، فكان أن عاش باولي دومًا في جلباب أبيه الروحي ماخ، متمسّكًا بمبادئ الواقعية. (ما من دور للنظرية الفيزيائية، سوى تفسير النتائج التجريبية، أما محاولات فهم العالم فلا مجال لها سوى الميتافيزيقيا.)
بفضل موهبته أولًا، وعبر شروح تلقاها في الفيزياء والرياضيات على يد أساتذة جامعة فيينا، أنهى باولي المرحلة الثانوية بتفوق واضح. ولإكمال تعليمه الجامعي، شدّ الفتى العبقري الرحال، إلى ميونخ، حيث معقل سمرفيلد، فما كان لقسم الفيزياء في فيينا وقد فقد بريقه بعد انتحار بولتزمان، أن يجذب عبقريًا مثل باولي، ولم تكن الغربة عن فيينا عائقًا، فهو بالأساس لم يكن على ارتباط عاطفي بتلك المدينة المضطربة في حينها.

في ميونخ، لفت الوافد الجديد باولي نظر أستاذته بتمكنه المدهش في الرياضيات، وحين دُعي سمرفيلد إلى الإسهام بشكل موسوعي في نظرية النسبية، عهد بتلك المهمة إلى تلميذه النجيب، مدمن السهر في المقاهي والحانات، والغائب دومًا عن محاضرات الصباح، ولكن ما أنجزه باولي كان ملفتًا للنظر، كتيّب أنيق عن النسبية أثار دهشة أينشتاين نفسه.

لكن النسبية، مع ذلك، لم تكن قادرة على جذب اهتمام باولي، فهي نظرية قد اكتملت ولا تفضي إلى نتائج عملية من وجهة نظره، فما أن أتمّ الإنجاز المطلوب، مظهرًا براعته الرياضية، حتى اتجه صوب نظرية الكم، تلك النظرية الواعدة، بنتائجها الغامضة ومشاكلها التي تستعصي على الحل.

ورغم احترامه الشديد لأستاذه، إلا أنّ عقلية باولي الرياضية المحافظة كانت تأنف دومًا من طريقة أستاذه في التعامل مع البيانات المطيافية ومحاولة اشتقاق أعداد كمية لتفسيرها، كان يشتمّ من ذلك رائحة ميتافيزيقة، لم ترُق له، ورأى أن التفسير الصحيح لتلك الأطياف، يتطلب بناءً رياضيًا محكمًا، راح يبحث عنه بلا جدوى، حتى كان اللقاء مع العبقري الحالم، هايزنبرج.

لقد فهمت النظرية بدماغي ، ولكني لم أفهمها بعد بقلبي

ولد فيرنر هايزنبرج في ميونخ لأب يعمل أستاذًا جامعيًا للّغات الشرقية، وخاض من البداية صراعًا تنافسيًا أُسريًّا في الرياضة والتحصيل العلمي مع شقيقه الأكبر ارفين، كان الشقيق الأكبر متفوقًا في الرياضيات، إلى أن جاء اليوم الذي اكتشف فيه فيرنر هايزنبرج أنه بإمكانه التغلّب على أخيه في ما تفوّق فيه دومًا، من هنا جاءت نقطة التحول في حياة قطب ميكانيكا الكم.
وبعدما أنهى دراسته الثانوية، كان عليه أن يؤدي الخدمة الإجبارية في ميليشيا محلية أوكلت إليها مهمة حفظ الأمن في مدينة تسودها الفوضى مع نهايات الحرب العالمية الأولى.

خلال الحرب نضجت شخصيته، واكتشف كاريزما القيادة التي ميزته دومًا، وبعد الحرب انضم إلى منظمة شبه كشفية تجوب أنحاء البلاد لتذوق معنى الحرية، بعيدًا عن التزمّت الأسري، تلك الحرية التي ظلت ميزة تعامله مع قوانين الفيزياء فيما بعد.
ولما جاء عام 1920 وبعد مقابلة محبطة مع عالم الفيزياء ليندمان بترتيب من والده، وجد هايزنبرج نفسه يتجه صوب قسم الفيزياء في جامعة ميونخ، ليحظي باستقبال دافئ من سمرفيلد، الذي رأى أمامه عبقريًا رياضيًا واعدًا، لا يعيبه سوى أسئلته الفلسفية.

نصف الكم
بتشجيع من أستاذه سمرفيلد، مضى هايزنبرج قدمًا في دراسة نموذج بور – سمرفيلد بذرة الهيدروجين، وحينما اشتقّ سمرفيلد عددًا رابعًا للكم، دعا تلميذه النجيب لتفسير تأثيرات زيمان الشاذة بالاستعانة بعدد الكم الجديد، جاءت النتيجة الصادمة لكليهما، لا بدّ للعدد الجديد أن يتخذ قيمًا نصفية.

في الحقيقة لم يكن هايزنبرج أول من اقترح ذلك بل سبقه الفيزيائي الفرد لاندي، وفي حين لم يمتلك لاندي تفسيرًا لمقترحه، فوجئ سمرفيلد بتلميذه يقترح حلًا غريبًا، عدد الكم الجديد يقتسم مناصفة بين الإلكترون والنواة، كان حلًّا ثوريًّا.

وكان ذلك دومًا دأب هايزنبرج، حين تعجز الفيزياء التقليدية، يقترح حلًّا خارج الصندوق تمامًا، كان رأي أينشتاين في الفكرة، أنها وإن كانت تعمل بنجاح، فإنّ أساسها خير واضح، تبين فيما بعد أن فكرة مشاركة عدد كم بين الإلكترون والنواة فكرة خاطئة تمامًا، لكنها بينت لهايزنبرج مدى حاجته لتعميق دراسته لذرة بور أكثر وأكثر.

ولمَ لا تكون الدراسة على يد بور شخصيًا؟ وهذا ما هيئته الأقدار فعلًا، فكيف كان اللقاء؟ هذا ما سوف نتعرف عليه في الجزء القادم من عرضنا لكتاب الرائع ديفيد لندلي؛ مبدأ الريبة: بور، أينشتاين، هايزنبرج والصراع حول روح العلم.

إعلان

اترك تعليقا