مصطفى مشرفة .. رائد تبسيط العلوم في مصر

العلمُ كما أصبح مصطلحًا عليه هو مجموعةٌ من الدراساتِ لها غرضٌ ثابت ومنهاج، فأما عن الغرضِ فهو الوصولُ إلى المعرفة، وأمّا عن المنهاجِ فإنّ العلم يستخدمُ في بحثِهِ نتائجَ الخبرةِ المباشرةِ عن طريقِ الحواس كما يستخدمُ التفكيرَ المنطقيَّ المنظَّم، وأمّا عن دائرةِ العلم؛ فهذه هي الطبيعةُ أو هي كلُّ ما يُمْكِنُ أن يشاهَدَ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مباشرة، هذه الأمورُ الثلاثةُ على بساطتِها كثيرًا ما تعزُبُ عن بالِ مَن يتعرّضون للكلامِ عن العلمِ والعلماء، بهذه الكلماتِ  وضعَ الدكتور علي مصطفى مشرفة المنهجَ العلميَّ الذي سارَ عليه، والذي أنارَ الطريقَ للكثيرين من بعدِه كي يسيروا عليه أيضًا.

الدكتور مصطفى مشرفة المولود في دمياط في عام ١٨٩٨م، كان مثالًا  رائدًا حين نريدُ الكشفَ عن كُتُبِ التاريخِ من زاويتِه الخاصّة، إذ نحاولُ أن نشاهدَهُ من تلك الزاويةِ حيثُ ملامح شخصيّةٍ علميّةٍ مرموقة نحتاجُ أن نتعرّف عليها من جديدٍ كلّ  فترة؛ لنستزيدَ مما تركَهُ من إسهاماتٍ في الشأنِ العلميِّ والثقافيِّ والفكريّ.

برَزَت ملامحُ شخصيّةِ الدكتور مصطفى مشرفة منذ طفولتِه حين كان في العاشرة، حيث تحمّلَ مسئوليةَ أسرتِه بعد وفاةِ والده متأثِّرًا بخسارةِ أمواله، فقد كان الوالدُ هو المسئولُ عن الأسرة، لكن بفقده إثرَ خسارةٍ ماليّة حملَ مشرَّفة المسئولية، وقد عبَّرَ الدكتور مشرَّفة عن تلك الفترة في حياتِهِ قائلاً:

“لقد كنتُ أَفنَى وأنا طفلٌ لكي أكونَ في المقدِّمة، فخَلَت طفولتي من كلِّ بهيج. ولقد تعلّمتُ في تلك السِّن أنّ اللعبَ مضيعةٌ للوقت -كما كانت تقولُ والدتي- ، تعلّمتُ الوقارَ والسكونَ في سنِّ اللهوِ والمرح، حتى الجَرْيَ كنتُ أعتبرُهُ خروجًا عن الوقار”

نحن هنا أمام شخصيّةٍ تحمّلت مسئوليّةَ نقلِ العلومِ لوطنها بعد ذلك، فهذا الملمَحُ من الشخصيّة اتّضحَ بعد ذلك في جُلِّ مواقِفِه؛ فبعد أن تخرَّجَ الدكتور مشرَّفة من المدرسة السعيدية في عام ١٩١٤م، ورغم أنَّ ترتيبَه كان الثاني علي القُطْرِ المصريِّ في ذلك الوقت -يُسمَّى الثاني على الجمهوريّة حاليًا- إلّا أنّه اختارَ أن يذهبَ إلى مدرسةِ المعلمين العليا، والتي حدّدت شخصيّةَ هذا الرجل، فقد أضحى له من داخلِ المدرسة العديد من الصداقات التي شكّلت المنهج الذي سار عليه بعد ذلك خصوصًا بعدما ذهب إلى بعثة دراسيّة في بريطانيا، حتى أن تخرّج في جامعة “نوتنجهام” عام ١٩١٧م، وبعدها بعامين حين اندلعت ثورة ١٩١٩م؛ طلب العودة إلى مصر ليُشارِكَ  في هذا الحِراكِ الذي سارت عليه مصرُ طلبًا للاستقلال.

إعلان

لكنّه تلقى ردًا من (محمد فهمي النقراشي باشا) بأنّ وطنَك يحتاجُك كعالمٍ أكثرِ منك ثائرًا فابقَ في لندن، ولم ينسَ الدكتور مشرَّفة تلك الفترةَ في حياته؛ فيقول إنّه تعلّمَ درسًا في الحياة؛ حيث نضجت الشئونُ الوطنيّةُ لديه من الثورةِ المستمرة إلى نقلِ المعارِفِ الجديدةِ للوطن، فالثورةُ الحقَّة هي ثورةُ الوعي الذي يرتقي بالعقل الجمعيّ للشعوب، والشعب المصريّ يحتاجُ ذلك كغيره من الشعوب العربية أيضًا كي يستقِلَّ بشكلٍ واقعيٍّ عن أيّ تبعيّةٍ خارجيّة؛ فالاستقلالُ الحقيقيُّ كما رآهُ مشرَّفة هو في استقلالِ العقل، وإنارةِ الطريقِ للعقل النقديِّ، وفتحِ البابِ أمام الأسئلةِ الصعبة التي يُنتِجُ طرحُها وعيًا لدى الأمّة. (1)

إلّا  أنَّ الملمحَ الوطنيَّ في شخصيةِ (مشرَّفة) ظَلَّ مُلازِمًا له طول حياته؛ فعندما عاد من بريطانيا- وبعد إنشاء الجامعة المصريّة كان له الدّورُ في تمصير إدارة الجامعة المصريّة، وهي خطوة على الطريق التي أمن بأنّها طريقُ التقدِّم للوطنِ المصريّ ، وقد اُنتخب عام ١٩٣٦م كعميدٍ لكليَّةِ العلوم بجامعةِ القاهرة، وكان أوّلَ وأصغرَ من تولّى هذا المنصب، هذه الكلية التي دخلها أستاذًا مُساعِدًا وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو مالم يكن جائزًا في تلك الفترة، إلّا أنه أجبَرَ الإدراةَ في ذلك الوقت علي ذلك -خاصةً- بعدما زكّاهُ العالمُ الدنماركي (نيلز بور  Niels Bohr) (الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٢٢م)؛ حيث طلبت الجامعةُ رأيَه في تعيين مشرَّفة.

كما أنّه وضع خطةً بارزةً للارتقاءِ بمستوى التعليم في مصر من خلال ربطِ كليَّةِ العلوم في جامعة القاهرة؛ بكليّةِ العلوم في جامعة لندن.

حيث أَمْكَنَ هذا الربطُ تطويرَ نهضةٍ علميّةٍ في جامعةِ القاهرة، أثمرت جهودُها حتى بعد أجيال في الجامعة.

يُعَدُّ الدكتور مصطفى مشرفة مِن أوَّل مَن شاركوا مفهومَ تبسيطِ العلوم، ونَقْلِها من مستوى الجامعةِ فقط إلى مستوى المواطنِ العاديِّ في الشارع؛ حيث كانت كتاباتُ مشرَّفة في العلومِ بطريقةٍ مبسطةٍ في حينها، وذلك لنقلِ المعرفةِ في جميعِ الدوائرِ حتى غير المُهتَمَّةِ بالعلوم.

فألّفَ عِدَّةَ كتبٍ مثل العلم والحياة، نحن والعلم، مطالعات علمية، وغيرها من الكتبِ التي تنقلُ المعرفةَ إلى الناس.

كما تميّزَت تلك المؤلفاتُ وغيرُها من أعمالِ الدكتور مشرَّفة ببزوخِ المنهجِ العلميِّ في التفكير، حيث تبرُزُ رغبةُ الدكتور مشرَّفة في القضاءِ على وَهْمِ الخرافة، فالمنهجُ العلميُّ القائم على طرحِ الأسئلةِ الصحيحة هو السبيلُ للتخلُّصِ ليس من الجهلِ فقط، لكن من الديكتاتوريّةِ أيضاً.

كما بَرَزَ استخدام الدكتور مشرَّفة لوسائلَ شتى في توصيلِ العلوم لجميع الفئات المُهتَمَّةِ بالعلم من خلال اتفاقٍ مع الإذاعة على تقديمِ برامجَ وأحاديث علميّةٍ لتصل لجميع المصريين مهما اختلفت ظروفُهم الثقافيّة، وأَشرفَ على تقديمِها بنفسِه من أجلِ أن يُحقِّقَ الهدفَ بنفسه.

حيث كان لديه إيمانٌ بأنّ العلمَ ليس حِكْرًا على فِئةٍ دون الأخرى، فالرجلُ البسيطُ في الشارع يجب أن يتحدّثَ بالعلم، ويتّبٍعَ المنهجَ العلميَّ في التفكير، فهو الأساسُ للتفريقِ بين ما هو حقيقيٌ وزائفٌ من معارف، فالعلومُ لازمةٌ لكلِّ شيءٍ في حياةِ الأُمّة؛ فهي من لوازِمِ الصحّةِ والصناعة.

رُبّما من أهمِّ الجوانبِ غيرِ المعروفةِ في حياةِ العالمِ الكبير هو اهتمامُهُ بالفنون؛ فقد أنشَأَ العالمُ الكبيرُ قِسْمًا لعلومِ الموسيقى في كليَّةِ العلوم، لِأوَّلِ مرةٍ في التاريخ، بل وشارك مع (محمود مختار) في بحثٍ عن المقاماتِ الموسيقيّةِ العربيّةِ الحديثة، فقدْ كان الجمعُ بين الفنِّ والعلمِ هو السبيلُ الذي رآهُ للنُّهوضِ بالذَّوقِ العام بالإضافةِ إلى الوَعْيِ العام.

من أهَمِّ تلاميذِ الدكتور مصطفى مشرَّفة هي الدكتورة (سميرة موسى)، فالرجلُ أثْرَى الحياةَ العِلميّةَ المصريّةَ بالعديدِ من الأفذاذِ كسميرة موسى؛ فقد تأثّرت سميرة موسى بشخصيّةِ أستاذها، وساعدها تفوّقُها أن تكوَن الأولى على الجامعةِ في كليةِ العلوم، وعُيِّنَتْ في الجامعة رغمَ صعوبةِ ذلك في ذاك الوقت تحت الاحتلال، وتحت الظروفِ الاجتماعيّةِ التي كانت ترفُضُ أن تُعَيَّنَ المرأة في ذلك منصب.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا