مفهوم الأحلام منذ الإنسان البدائي وحتى الحضارة الإسلامية

للحضارة المصرية إله الأحلام “بس”، الذي نُقشت صورته على الكثير من الوسائد الفرعونية، وكان للمصريّين مدرسةٌ لتفسير الأحلام في معبد النوم، وكان أشهر الأحلام التي وصلت إلينا هو حلم “تحتمس الرابع” الذي كان يسعى بتفسيره للاستيلاء على العرش. وللحضارة البابلية الإله “ماخر”، وآثار نقوش على الألواح الحجرية للحضارة السومرية بها دراسة وتفسير للأحلام. و”مورفيوس” للحضارة الإغريقية الذي استمدّ منهُ اسم مخدّر المورفين. وكانت تُصدَر أحكامٌ في أثينا عن طريق الرؤيا، وكان للرؤيا أثر عظيم أيضًا في سياسات إسبارطة، وكانوا يتعمّدون النوم في المعابد لتأتي الرؤيا الصادقة، وأحيانًا كان مجلس الأعيان الروماني يستجيب لما تشيره رؤيا أحد العامة.

وهناك العديد من الآلهة في حضارات أخرى، وحتى الكتب المقدسة عند الشعوب لم تخلُ من ذكر الرؤيا والأحلام مثل قصة سيدنا يوسف وإبراهيم. وفصل كامل في كتاب الفيدا الهندي المقدّس عن الأحلام. والعديد من القصص الشعبية والأفكار العامة لدى الشعوب قديمًا وحديثًا، تُثبت أنّ الأحلام مؤثرة في حياتهم وسياستهم.

⁃ الأحلام عند الإنسان البدائي:

“في المجتماعات البدائية إذا حلمتَ أنّ شخصًا اعتدى عليك، فمن حقّك أن تذهب وتقتله ولن يقف أحد أمامك معترضًا، وإذا حلم شخص بفتاة يذهب ويتزوجها، لأنهم لا يستطيعون التفريق بين الحلم والواقع، والبعض الآخر كان يعتقد أنّ الحلم يكشف لهُ ما يخفيه المستقبل”. هكذا قال عالم الاجتماع “علي الوردي”.

⁃ الأحلام عند المصريين القدماء:

بدأ الأنسان في تغيير نظرته للأحلام عندما تكوّن الوعي وبدأت الحضارة. في مصر القديمة كانت “مدرسة إهناسيا” متخصّصة وتشتهر بتفسير الأحلام. كما كان هناك إله للأحلام يُدعي “بس”. وكان تفسير الأحلام مِهنة مربحة في العصر البطلمي، وكان يوظَّف كاهن مقابل المال لينام داخل المعبد ويحلم، وأحيانًا كان ينام الشخص داخل المعبد مقابل مالٍ ليلقى عونًا من الربّ.

وكما وُجد معبد النوم أو معبد الأحلام، الذي كانت بداخله أوّل مدرسة عرفها التاريخ لتفسير الأحلام وقام به “إمحوتب” بأول أسلوب للتنويم المغناطيسي. كانت معابد النوم مستشفيات من نوعٍ ما، لشفاء مجموعة متنوّعة من الأمراض، وربما العديد منها ذات طبيعة نفسية. كان العلاج ينطوي على الهتاف، ووضع المريض في حالة تشبه الغيبوبة، وتحليلِ أحلامه من أجل تحديد العلاج. مثل التأمل، والصوم، والتضحيات إلى الربّ أو غيره من الأرواح.

إعلان

وأشهر كاتب في تفسير الأحلام هو للكاهن “كين خر خو بشف”، كُتب خلال الأسرة التاسعة عشر، ويحتوي هذا الكتاب على مئتين من تفسيرات الأحلام على أنّ أساس مصدرها الآلهة. وهذا يدلّ على شدة اهتمام المصريين بالأحلام وتقديسهم لها. أما أشهر الأحلام في تاريخ مصر القديمة فكان حلمًا لتحتمس الرابع (1401- 1391 ق.م)؛ فقد كان لوالد تحتمس، أمنحتب الثاني، خمسة أبناء يتسارعون على خلافة أبيهم، حتى ادّعى تحتمس الرابع أنّ أبا الهول تحدّث إليه في الحلم وأخبره أنه إذا قام بإزالة الرمال المتراكمة عن تمثاله وحافظ عليه فإنه سيمنحه تاج مصر. وقد وجدت هذه الرؤيا مسجلة على لوحة بين يدي تمثال أبو الهول، وتُعدّ هذه اللوحة دليلاً على أنّ تحتمس لم يكن الوريث الحقيقي لعرش مصر وأنّ إخوته كانوا عقبة في سبيل تولّيه العرش مما جعله يختلق قصةَ الرؤيا كنوعٍ من التحايل للاستيلاء على عرش البلاد بدون حقّ شرعيّ، وقد أزال تحتمس الرابع بالفعل الرمال عن تمثال أبو الهول وأقام حوله سورًا بناه من الطوب اللبن.

– الأحلام عند الأغريق:

لكنّ أوّل من قام بدراسة حقيقية ومؤثرة هو الإغريقي “ارطميدروس” في القرن الثاني الميلادي، الذي كتب خمسة كتب عن الرؤيا والأحلام، وأشهرهم كتاب “تعبير الرؤيا” الذي تُرجم في العصر العباسي. وكان يقول أنّ الأحلام منها الصريح الذي يتنبأ بالمستقبل بشكل مباشر، ومنها ما هو رمزيّ؛ ومصدر الرمزيات هو واقع الشخص.. فيجب أن يَفهم المفسّر واقع الفرد أولاً ليفسّر الحلم. حتى جاء المعلّم الأول “أرسطو” الذي غيّر مفهوم الأحلام عند الإغريق، وبعدها عن الغيب والآلهة، وقال أنّ تحقيق حلمٍ ما لا يدلّ على صحة الرؤيا، عكس ما قاله أفلاطون الذي كان يعتقد بصدق الرؤيا. وكان أرسطو يرى أنّ الحلم هو خليط بين الميول والعواطف، مثل الذي يحبّ فيرى في منامه ما يوافق عواطفه. أو أنّها انعكاس للأمور الخفيفة التي تحدُث بجانب الإنسان أثناء النوم ولا تتسبب في استيقاظه، مثل صريخ امرأة من مسافة، فيحلم النائم أنهُ في ثورة مثلاً.

ويقول أرسطو أنّ تطابق الحلم مع الواقع هو صدفة أو إيحاء من العقل للإنسان فينفذ الحلم أو الأحساس بألم في البطن مثلاً وقت النوم نتيجة اضطرابات عضوية ويُكتشف فيما بعد أنهُ مصاب بمرض ما في هذا المكان أو تجميع معلومات في العقل عن مرض شخصٍ ما والحلم بموته رغم أنّ موته وارد، فيتفاجأ الحالم بموته ويردّ السبب إلى الحلم وليس السبب الحقيقي. وهذه هي نظرية “الحافز الحسي”. وكان للرواقيين رأي آخر، فيعتبرون أنّ الإنسان وقتَ النوم يتحرّر من الشهوات فتُفتح لهُ أبواب الغيب، وأنّ العقل لا يصلح للحكم على كلّ الأمور – كما فعل أرسطو -، فالذي يجهل سرّ المغناطيسية سيُنكر جذب المغناطيس للحديد حتى لو رآه.

– الأحلام عند المسلمين:

ومن المصريين القدماء إلى الإغريق إلى المجتمع الإسلامي، لأنّ كلّ ما بينهم لم يصنع اختلافًا في تفسير الأحلام. وكانت الأحلام عند المسلميين تأخذ أهمية كبيرة وتقديسًا -ما عدا المعتزلة وقلّة من العلماء والفلاسفة- وكانت محرّكًا لحياة البعض وأيضًا مصدر رزق للبعض، وكان المتصوّفة سببًا أكبر في ذلك. ورغم أنّ أغلب الفكر الأسلامي تأثّر بفلسفة أرسطو، إلا أنهم خالفوه في رأيه عن الأحلام. ويرجع سبب تقديس الأحلام عند المسلمين إلى عدّة أحاديث وقصص، أشهرها حديث رواه البخاري ومسلم:- “إنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة”، واختلف الرواة جميعهم في عدد أجزاء النبوة، لكنّ هذا ليس موضوعنا.

وحديث آخر عن انقطاع النبوة، فقال سيدنا محمد:- “بقيت من بعدي مبشّرات”، ولما سُئل عنها النبي قال:- “هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى لهُ”- كما ذكره أبو حامد الغزالي. وعن عائشة أنّ الرؤى هي سبب اعتكاف سيدنا محمّد في غار حراء حتى فاجأه الوحي أثناء نومه. وحديث “من رآني فقد رآني”. وذُكرت في القرآن قصّتين مشهورتين عن رؤيا سيدنا إبراهيم ويوسف اللتان تؤكّدان للبعض صدق الرؤيا بالإضافة إلى الأحاديث والقصص الشعبية، والغريب أنها ليست بين العامّة فقط إنما أيضًا بين الملوك وحاشيتهم. والذي يزيد هذه المعضلة هو تفسير “فخر الدين الرازي” للآية: “لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة”- سورة يونس الآيه 64. وقال بأنّ البشرى هي الرؤيا الصالحة، حتى استقرّت هذه المفاهيم في أذهان العامة وأصبحت مقدّسة لا يمكن نقدها باعتبار أنّ الرؤيا من عند الله.

شذّ المعترلة عن المسلمين في تفسير الأحلام، كطبيعتهم، وباعتماد على العقل والمنطق، لم يعطوا للأحاديث اهتمامًا، وقالوا أنّ الأحلام أوهام وأنّ الإدراك الصحيح لا يأتي إلا وقت اليقظة، وأنّ الإدراك والنوم ضدّ ولا يجتمعان. ولكن كما تعوّد الجميع أنّ هناك لكلّ جماعة رأي ولأخرى الرأي المضادّ، فيقول المتصوفة أنّ العقل هو منبع الأوهام وقد يُفضّل الجنون عليه أحيانًا، وأنّ النوم يقظة واليقظة نوم، والنفس البشرية مشغولة أثناء اليقظة بالهموم، أما في النوم فتُفتح لها آفاق الزمان وتحلّق في سماء المعرفة.

ويقول الغزالي أنّ ما يبصره الإنسان خلال نومه أَولى بالمعرفة ممّا يُدرَك عن طريق الحواس، وأنّ الرؤيا طور ضعيف من أطوار النبوة، فبذلك كلّ البشر أنبياء بتفاوت الدرجات، وكلّما تخلّصت النفس من الأمور الدنيوية ارتفعت إلى سلّم النبوة والوحي. وبكمالةِ المتصوّفة يجب المرور على رأي “ابن عربي” لشدّة خطورته ويقول: “إنّ الوحي لا يهبط على الأنبياء من خارج أنفسهم، فالله موجود داخل النفس وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، ويوحي إلى عبده المخلص بدون وسيط”. واستند على قصة سيدنا إبراهيم.

وأشهر من كَتَب في تفسير الأحلام عند المسلمين هو الفقيه “ابن سيرين” الذي توفّي عام 108 هجريّ، وكان هناك تشابه شديد بين مؤلّفاته ومؤلفات الإغريقي ارطميدورس، وقد نُسبت إليه بعد موته أيضًا كتب عديدة زورًا، فمن الممكن أنّ التقارب بينهما نشأ بسبب التباس ما. وهناك أيضًا تقارب شديد عن الأحلام بين المعتزلة وأرسطو، والصوفية والرواقية، ولكنّ هذا ليس موضوعنا.

ومن الطرائف التي ذُكرت في كتاب توفيق الطويل “الأحلام” في الشّرع، أنّه إذا رأى المرء في حلمه ما يضرّه فيقول “أستغفر الله من شرّ رؤياي…” ثم يبصق نحو اليسار ثلاث مرات. وموضوع آخر أنّ من كذب في قصّ رؤياه فذكر أمورًا لم يَرَها في الحلم، وقعت له العديد من الحوادث والكوارث.

ويحكي “علي الوردي” عن رجلٍ شديد الذكاء في أيام المهدي العباسي، ذهب وتنبّأ الرجل للمهدي بأنّ خلافته ستدوم ثلاثين عامًا، وطلب المهدي الدليلَ، فقال الرجل أنه سيرى في منامه كأنّه يقلّب عددًا من الياقوت ويعدها فيجدها ثلاثين، وعدد الياقوت في الحلم يشير إلى عدد سنين الخلافة. وفي نفس الليلة حلم المهدي بما أنبأه به الرجل، فاستدعاه في الصباح وولّاه منصب القضاء. وبعدها سُئل الرجل عن الطريقة التي خدع بها المهدي، قال “إنه حين أنبأته بخبر اليواقيت، ظلّ يحدّث نفسه بها قبل النوم، وهذا ينعكس على أحلام الإنسان”. ويقول “أحمد فريد الرفاعي” أنّ الأحلام هي التي دفعت المأمون إلى ترجمة الكتب اليونانية، عندما حلم أنّ أرسطو جالس معهُ على كرسي، وتحدّثا..، وهدّد بعدها المأمون ملك الروم بحرب مدمّرة إذا لم يرسل لهُ الكتب. وجاء في رؤيا للرسول قبل غزوة بدر أنّ الكفّار عددهم قليل، فشدّ هذا من نفسه لخوض الحرب. وقبل فتح مكة جاءت رؤيا للرسول وهي أنّ المسلمين يدخلون المسجد الحرام ويؤدّون المناسك، فحكى الرؤيا لأصدقائة، وقرّر بعدها فتح مكة.

 

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ألبير يوسف

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا