مدخل لفهم طبيعة الوعي 2

في المقال السابق أدركنا أن مفهوم الوعي ليس محدد، ولكن لدراسة هذه الظاهرة وتحديد ابعادها (قدر الإمكان) علينا الانطلاق من الحالات التي لا نكون فيها واعيين أصلا، وكيف يتغير الوعي إذا ماحدثت تغيرات عصبية ، عندها فقط نستطيع تحديد مفهوم الوعي وفهم ابعاده لنتمكن من دراسته بشكل موضوعي من منشأه أو أساسه العصبي …

سنحاول استعراض بعض الحالات وبالاستناد إليها سنحاول تحديد مفهوم الوعي ، وهذا المفهوم إن أعطى الوعي حقه بالتعريف أو لا فهو سيكون إضافة جيدة للمكتبة العصبية في محاولة تحديد تعريف أو مفهوم الوعي .

وسنبدأ باستعراض إحدى أكثر الحالات لفتا للانتباه وأي عالم بهذه الحالات _التي سنستعرض بعضها_ يصعب عليه جدا الإيمان بأن الوعي ليس منشأه الدماغ خصوصا عندما نستعرض الحالات المخبرية منها .
العمى النصفي :
في بعض حالات السكتات الدماغية التي تحدث تلفا في المناطق التي تصيبها في الدماغ ينتج عنها مايعرف (بالعمى النصفي) المعاكس للجهة التي أصابت الدماغ ، يعني إن أصيب الدماغ بسكته دماغية في الجانب الأيمن ونتج عنه عمى نصفي فسيكون هذا العمى للجانب الأيسر ، وفي هذة الحالة لايكون المريض يرى الجانب الأيسر ، طبعا بالبداية يبدو الامر سخيفا وسطحيا وتستطيع أن تقول حسنا يمكنه أن يزيح وجهه للجانب الأيسر وسيرى ، ولكن الحقيقة أعمق من هذا بكثير فالمريض لايعاني من أي مشكلة في الإبصار ولا في عينيه ، ويستطيع أن يرى كل شيئ ، ولكنك إن سالته عما يراه الأن في الغرفة فسيعد لك الاغراض التي تقع على يمينه فقط ، ومهما حاولت من إقناعه أن هناك أغراض في اليسار فلن يراها، لأنه باختصار غير مدرك لوجود جانب أيسر من الأساس، وكان من الأدق تسميته عمى الإدراك النصفي، حيث أن المريض لايدرك وجود نصف آخر للأشياء ، وليس أنه لايراه ، أي أنه غير واعي على الجانب الأيسر للأشياء .
في إحدى الجلسات العلاجية طلب من سيدة تعاني العمى النصفي الأيسر رسم قطة فرسمت فقط نصف قطة والغريب أنها كانت ترى أن القطة هكذا مكتملة ولاينقصها شيئ ، إن هؤلاء المرضى لم يعودوا يعرفون الجانب الأيسر بل بتوصيف أدق هم لايدركون وجود جانب آخر اسمه الايسر وليسوا واعيين عليه إطلاقا ، بات خارج وعيهم ومسح من حياتهم ، أي أن وعيهم مشوه .
هناك حالة اخرى لتشوه الوعي ملفتة ، وهي العمى الشكلي وهذه الحالة تظهر بعد تضرر مناطق معينة بالدماغ فيكون المريض يرى كل شيئ ولكنه لايستطيع التعرف على شيئ، أو بتعبير أدق هو يعتقد نفسه لايرى أي شيئ وهو مدرك نفسه أنه أعمى، ولكنك إن طلبت منه تخمين ما في الغرفة فسيصيب الهدف بنسبة 90% كما أظهرت دراسات عالم النفس العصبي لورانس وايسكراينز .
أي إن المريض غير واعي إطلاقا على مايراه ويعتقد أنها صور هو من شكلها (من خياله)، أي أنه يعي ذاته، ولكن لايعي قدرته على الرؤية بل يعي أنه أعمى .

لنأخذ حالات الفصام ، فالشخص المصاب بالفصام سيتحول لشخص اخر، ولنفترض أنه سيتحول لقائد عسكري، فهو يعي ويدرك تماما نفسه على أنه قائد عسكري، ولايدرك إطلاقا أنه ليس كذلك، أو أنه مريض بالفصام حتى ..

انتبهوا الان لو كان مريض الفصام هذا يدرك ان حالة القائد العسكري هذه التي تتقمصه هي من وهم المرض، ولكنها تسيطر عليه لكان شخصا واعيا رغم حالة الفصام ، ولكنه لايعي ولايدرك نفسه الحقيقية بل لديه وعي اخر تماما .
يعرف كريستين تيمبل الفصام على أنه خلل في العملية التكاملية للانفعالات والأفكار والسلوك حيث أن الإدراك الذي يفصل بين ماهو واقعي وماهو خيالي يبدأ بالتلاشي، ويصاحب هذا هلاوس واعتقادات وهمية ناتجة عن تشوه الواقع ، (وطبعا تشوه الواقع هو بسبب تشوه الوعي ) … ويكمل كريستين ليقول أن هذه الاعتقادات الوهمية تنتج أيضا من واقع وهمي ليس فقط مشوه .
حالات الفصام من أكثر الحالات التي لايمكن فيها فصل الوعي عن الدماغ، وتبين كيف أن الوعي إذا ماشوه سيتشوه معه الواقع كله ، وأن لو الشخص هذا كان يعي أن مايحدث معه ويسيطر عليه هو من تاثير المرض لكان شخصا ذو وعي سليم ، ولكنه لايعي هذا إطلاقا، بل هو مدرك لواقع اخر بوعي وهمي ومشوه اخر تماما ، ابقوا هذة الفكرة في رؤوسكم لأننا سنستخدمها في تحديد مفهوم الوعي .

إعلان

هناك حالة غريبة أخرى وهي أن يشعر المريض بأنه طفل ، هناك أشخاص ترى أنفسها أطفالا أو مراهقين وهم بكامل وعيهم بأنهم مراهقين حقا ، ولكن الحقيقة أن أعمارهم بالخمسين والستين ، ويصيبهم الفزع إذا مانظروا بالمرآة،  هم في وعي اخر مشوه ليس لهم أي علاقة بالواقع، أو بوعيهم على أنفسهم في هذا الواقع بل واعيين تماما، ولكن بشكل وهمي ومشوه .

إن كل تلك الحالات هي حالات ناتجة عن تلف في أماكن بالدماغ كانت كفيلة بتشويه وتغيير وقلب الوعي رأسا على عقب .
لناخذ حالات الهلوسة الهامة جدا أيضا لأننا يمكن تخليقها وافتعالها بالمختبرات ، الهلوسة مادة دسمة لدراسة الوعي واوردت سوزان بلاكمور من جامعة بليموث البريطانية أن من يدرس الهلوسة وتأثيرها على الوعي يصعب عليه جدا التصديق بثنائية ديكارت بأن الوعي شيئ والدماغ شيئ اخر ، فبتأثر الدماغ بضرر ما أو بشكل متعمد عن طريق حبوب الهلوسة أو التحفيز الكهربائي لمناطق في الدماغ يتغير أو يشوه الوعي تماما.
الهلوسة باختصار هي أن تشعر وتعيش وتختبر بشكل حقيقي حالة وهمية كاذبة ، أي أن تسمع أصوات من الجدار أو أن ترى فيلة تطير أو أن تتحدث مع أشخاص آخرين وتراهم الخ
وتختلف هذة التأثيرات من شخص لآخر  بحسب اختلاف ثقافته ومايؤمن به ، فأظهر تحفيز الجزء الأمامي من الفص الصدغي مخبريا (وهو الجزء الذي يدعم شعورنا بذاتنا وتصورنا عن العالم ) إن هذا يؤدي لتغير الواقع بالنسبة للشخص الذي هو تحت التجربة إلى واقع تبدو فيه الأشياء أكثر عمقا والالوان أكثر عمقا ، ويعطيها معاني أكبر بكثير من حجمها الحقيقي ، وبالتالي يرافق هذا عاطفة عالية جدا تجاه هذة الأشياء وأبعاد فلسفية (الفلسفة تأتي عادة هنا لتفسير العمق والمعنى الذي يشعر به الشخص تجاه هذا الأمر ) مما يجعله يربطها بقوى روحية أو دينية أو يرى آلهة أو غيرها ، نعم عاطفة البشر خداعة لدرجة تستفزني أحيانا فشعورنا بشيئ غامر لايمكن وصفه يجعلنا نعزوه لأمر خارق، ونصفه بأوصاف خارقة أيضا لايمكن وصفها ، والشعراء أكبر دليل، وأنا شخصيا تنتابني بعض حالات الخشوع والتخدير أحيانا عند سماع بعض المقطوعات الموسيقية ، ولو لم أكن أعلم بمايحدث بدماغي لاعتقدت جازما أن قوة خارقة ما أو الهة ما هي من لحن هذه الموسيقى الخارقة ، أو اوحت للملحن بطريقة ما ، والأمثلة لاتنتهي ، وهذة حالات تصيب أناس عاديين واعيين على انفسهم المفروض فكيف لو حدث ذلك لاناس ذو وعي مشوه؟ ، من تلك الحالات حالة لفتتني وهو شخص بالعشرينات كان يعاني من مرض الصرع الذي كان يفتعل عنده نشاطا عشوائيا في فصه الصدغي ، واعتقد نفسه نبيا مرسلا ويشعر أنه فيلسوفا بعد النوبة وأن الاله هو من يرسل له تلك الرسائل ، وهو أحد مرضى عالم الأعصاب الشهير راماشندران( عليه وثائقي) .
واجريت عملية ناجحة لزرع رقاقة إلكترونية تعمل على ضبط النشاط الكهربي في الدماغ على يد الدكتور محمد القبيسي رئيس قسم الصرع في مشفى جورج واشنطن ، وكانت النتائج تخفيف نوبات الصرع بنسبة 98%

وبالعودة للتحفيز الكهربائي ففي حالات التحفيز الكهربي عبثنا بالوعي وخلقنا وعيا وهميا أنتج واقع وهمي، وتلك الأضرار الدماغية أيضا شوهت الوعي وجعلت المريض يعايش واقعا اخرا ، ولكن مايهمني من هذا هو التمييز بين هاتين الحالتين :
لو كان مريض الهلوسة أو أي مريض من الحالات المذكورة يدرك أن مايحدث معه هو بسبب المرض ، يعني هو غير قادر على ألا يسمع تلك الأصوات أو على أن يرى الجانب الأيسر، ولكنه يعرف بأن هذا بسبب مرضه فهو إذا شخص واعي، ولكن مايحدث هو أنه لا يعي أصلا أنه يرى وليس أعمى أو ان هناك أصلا جانب أيسر في الحياة أو أن تلك الأصوات والصور هي من وهم المرض إذا نحن أمام وعي مشوه هنا .
ولا أريد أن أطيل كثيرا في السرد، ولكن هناك أيضا بعض الحالات تم افتعالها بالمختبرات مثل احساس الخروج من الجسد وحتى تجارب ما قبل الموت التي أدى التحفيز الكهربي إلى كشف أن تجارب ما قبل الموت تكون تبعا لما يؤمن به الشخص، فالمسيحي سيرى المسيح وهو يشعر انه بوعي كامل ، والهندوسي سيرى الهه وكل سوف يرى مايؤمن به ، والملاحده يشعرون بذاك النوع من العاطفة الغامرة اللاموصوفه ( التي يصفها الناس بكلمة روحية )، ولكن لايرون أي اله أو أي حياة أخرى ، وهذا مايدل على دور الثقافة فيما يتعلق بالايحاءات الذهنية ، وهناك تجربة اجريت على دماغ ريتشارد دوكنز ضروري أن نذكرها، ولكن سوف نذكرها في سياق اخر .

إذا ما هو مفهوم الوعي الان : من خلال ما استعرضناه نستطيع أن نقول أنه إن كان الشخص مدركا لذاته و لهويته في زمان ومكان ما ، او اذا كان مدركا لنفسه متعرفا على ذاته الحقيقية في الزمان والمكان الحقيقيين . فهذا شخص واعي
أما إن كان يدرك ذاته، ولكن في زمان ومكان اخر كأن تدرك نفسك وتعيها تماما ، ولكن تحسب نفسك في قريش وأنت في ال 2018 فأنت تعيش بوعي مشوه واعي، ولكن وعي مشوه ، أو أن تعي نفسك غير الحقيقية في زمان ومكان ما ، كحالات الفصام فهذا أيضا يعيش بوعي مشوه ، أما الشخص الغير مدرك لذاته ولا لزمانه ولا لمكانه فهو لا يعي نفسه ، لا يستطيع أن يدرك نفسه ضمن زمان ومكان ، إذا الوعي هو أن تكون قادرا على إدراك ذاتك وشخصيتك ضمن زمان ومكان .
إن أدركت ذاتك الحقيقية ضمن زمان ومكان حقيقيين فانت وعيك سليم ، أما إن أدركت ذاتا غير ذاتك او زمان ومكان وهميين فأنت واعي، ولكن وعي مشوه …
هذا ضروري جدا أن نفهمه حتى نستطيع أن نفهم كيف لنشاط الدماغ أن ينتج لنا عقلا .
ما أريد التركيز عليه أن الوعي لا يمكن فصله عن الدماغ، بل ويمكن التلاعب به وتشويهه إذا ماتم تخريب منشأه العصبي أو التأثير عليه، ويبقى السؤال هنا : وكيف لهذا المنشأ العصبي أن ينتج لنا تجربة ذاتية واعية ؟
في الاجزاء القادمة ستبدأ الإجابة عن هذا السؤال بالتبلور وإن لم يكن بعد هناك جواب كامل له ، ولكنه سوف يصبح أوضح خصوصا عندما ندرس كيف أدمغتنا تخرج لنا الواقع .

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى للكاتب، نرشح لك

كيف يمكنك التحكم بالأحلام، دراسة تخبرنا كل ما تريد معرفته

هل محتم علينا أن نكون ما نحن عليه ؟ “الجينات والسلوك 4”

هل البرمجة اللغوية العصبية … عصبية ؟

إعلان

اترك تعليقا