مكيافيلي وكتابه الأمير الذي وصل تأثيره إلى هتلر وستالين

مكيافيلي حياته وأفكاره

هذه هي الرسالة التي بعثها مكيافيلي إلى صديقه فيتوري بعد أن انقلب طالعه ونُفي عن مدينته فلورنسا حينما تولى آل ميديتشي الحكم.
“مازلت أعيش في الريف منذ خروجي من المنفى، أستيقظ مبكرًا عند الفجر وأمضي إلى الغابة الصغيرة لأرى ما قام به الحطابون من عمل، وبعد أن أتبادل الأقاويل والشائعات مع الحطابين أمضي وحيدًا إلى أحد التلال حيث أقرأ لدانتي أو شيراك أو تبيولوس أو أوفيد، وبعد أن أتناول غداءً بسيطًا أمضي إلى الحانة حيث أتحدث إلى الطحان وصاحب الحانة والقصاب وبعض عمال البناء وأقضي معهم طيلة الوقت بعد الظهر في لعب الورق والنرد حيث نتقاتل على الدريهمات.

وعندما يحل المساء أعود إلى البيت وأدخل المكتبة بعد أن أنزع عني ملابسي الريفيّة التي غطّاها الوحل ثم أرتدي ملابس البلاط والتشريعات وأبدو في صورة أنيقة فأدخل المكتبة لأكون في صحبة هؤلاء الرجال الذين يملأون كتبها فيقابلونني بالترحاب وأتغذى على الغذاء الذي هو في الحقيقة ما أعيش عليه والذي جعل مني الإنسان الذي هو أنا. وفي وسعي أن أتحدث إليّهم وأن أوجه إليّهم الأسئلة عن أسباب أعمالهم فيتلطفون عليَّ بالإجابة. إنني لم أعد أخشى الموت أو العوز وقد تمكنت بالملاحظات التي دوّنتها من أن أضع كتابًا صغيرًا أسميته (الأمير)”.

من هو مكيافيلي (Machiavelli)؟

منذ ما يزيد على الخمسين عامًا ونحن نطلق على مَكيافيلي اسم (مؤسس علم السياسة الحديث) كما يُعد أحد مؤسسي طريقة تحليل التاريخ الحديث.

وُلد مكيافيلي في فلورنسا عام 1469م من أسرة توسكانيّة عريقة، ولم يكن من الناحية الأولى كاتبًا أو صاحب نظريات بل كان مشتركًا اشتراكًا فعليًّا في الحياة السياسيّة المضطربة وغير المستقرة التي مرت بها مدينته. عارض أحد أسلافه وصولَ أبناء أسرة مديتشي إلى الحكم ودفع ثمن ذلك أن لقى حتفه في السجن. ولم يكن المَكيافليّون موالون لتلك الأسرة بما فيهم والدهُ. تأثر مكيافيلي بتاريخ الرومان وقرأ الترجمات اللاتينيّة لمختلف الكتب الأغريقيّة القديمة. وقد شبّ في عهد الأمير المديتشي “لورنزو العظيم” كما يسميه الفلورنسيّون والذي كان عهده هو العصر الذهبيّ للنهضة الإيطاليّة.

اُنتخب مكيافيلي سكرتيرًا للمستشاريّة الثانيّة لجمهوريّة فلورنسا التي تشرف على الشئون الخارجيّة العسكريّة وأضحى من واضعي السياسة ومخططيها حتى أنه اُختير في 24 بعثة دبلوماسيّة من بينها أربع بعثات لملك فرنسا والإمبراطور الروماني “ماكسيميليان الأول” -وربما الأهم منهما- زعيم الحرب الإيطاليّ الشهير “سيزار بورجيا” الذي كان أحد النماذج الواقعيّة التي استلهمها مَكيافيلي في كتابته “الأمير” وهو أمير فظيع ووحشيّ حيث استدرج أعداءه إلى مدينة سينيغاليا بالهدايا ووعود الصداقة ثم اُغتيلوا جميعًا.

إعلان

كل شيء كان محطِمًا تمامًا!

في ذروة مسيرة مكيافيلي عادت عائلة ميديتشي إلى السلطة، وأطاحت بحكومة فلورنتين المنتخبة في عام 1512م وقضت على مثيري الشغب المحتملين، وبعد أقل من شهرين خسر مكيافيلي منصبه وسرعان ما أصبحت الأمور أسوأ.

كانت قائمة المتآمرين ضد ميديتشي التي صاغها شابان فلورانتيان تضم اسم مَكيافيلي، وسُجن مكيافيلي في زنزانات بارجيلو وسجن فلورنسا كما تعرض للتعذيب. وبعد 22 يومًا أُفرج عنه، ولم يكن هناك أي دليل على تورطه في أيّة مؤامرة.

ولكنه مُنح حريةً محدودةً فقط، وغادر مَكيافيلي إلى فيلا صغيرة كان يملكها خارج فلورنسا. وقد كتب في رسالة إلى أحد أصدقائه المقربين يقول فيها: “كل شيء كان محطِمًا تمامًا”.

شخصية مكيافيلي وأفكاره:

تميّز مكيافيلي بأنه لا يستخدم الكلمات في إخفاء حقيقة أفكاره فهو واضح في معانيه كل الوضوح، وقد يكون في النتائج التي يصل إليها احيانًا ما لا يُستساغ أو يُقبل لكنها على درجة كبيرة من الجلاء والبيان بحيّث تشبه اللكمة التي يتلقاها الإنسان على أُذنه.

وكان المعروف والشائع عن مكيافيلي نفسه أن سمعته موضع الطعن والشُبهات لا سيّما وقد غدت المكيافيلية نعتًا يجمع من المعاني ما تحمله كلمة الشيطان “مفيستوفاليس” في رواية “فاوست” المشهورة، وقد كتب ماكولي الكاتب الإنجليزي المشهور مقالًا ضمنه فكرة تقول أن الشيطان قد أُسمي ب”نيك العجوز” لأن نيكولو هو الاسم الأول لمَكيافيلي.

ولا ريب في أن شكسبير في روايته “زوجات وندسور المرحات” عندما أطلق على لسان أحد شخصياته قوله: “أأنا مخادع؟ أأنا مَكيافيلي؟!” لم يكن يضفي مديحًا على نيكولو.
وسأشرح فيما بعد العوامل التي أدت لأن يلحق الكسوف والخزي باسم مَكيافيلي وكتابه الأمير.

لا يهتم مكيافيلي بتثقيف المواطنين؛ إذ أنه يعتبرهم جامدين هامدين. وليست الدولة في رأيه آداة للوصول إلى حياة طيبة، وإنما هي قوة فعالة بل وحدة ديناميكية مفتونة. ويرى البعض أن مَكيافيلي كان أقرب إلى الطريقة العلميّة من أرسطو أو غيره من سابقيه؛ فحسب رأي أرسطو ثمة شروط ثلاثة يجب أن تتوفر في كل من يملكون السلطة المطلقة في الدولة وهي:

  • الإخلاص لنظام الدولة.
  • الكفاءة لأداء مهام وظائفهم.
  • الفضيلة والعدالة (بالمعنى الذي يتفق مع نظام الدولة). 

وعندما يتحدث أرسطو عن خير السبل للمحافظة على نظام الدولة يقول: “خير ما يصون هذا النظام هو تعليم المواطنين على روحيّة الدولة؛ إذ دون هذا التعليم تغدو أحسن القوانين وأكثرها حكمة غير مجديّة”.
لكن مكيافيلي أحدث انقلابًا على هذه التقاليد المتوارثة؛ إذ تؤلف الدولة في عقل مَكيافيلي حقيقةً نظريةً مجردة ًبل مبدأًً ثابتًا يمثل حقيقة العلم بالأمارات والجمهوريّات! وفي هذا الكثير من الصحة والصدق.

المَكيافيليّة:

وفقًا للمَكيافيليّة فإن الغايات تبرر دائمًا الوسائل مهما كانت هذه الوسائل قاسيّةً أو وحشيّةً أو غير أخلاقيّة.
لقد فرّق مَكيافيلي تمام التفريق بين السياسة والشئون الأخلاقيّة وأكّد عدم وجود رابط بيّنهما، وهنا نجد أنفسنا قد خضنا في سلسلة من التناقضات السيكولوجيّة والتي وصل إليها مَكيافيلي عن طريق إحساسه الواقعيّ الشديد.

عندما كتب مكيافيلي كتابه “الأمير” ومبادئه الداعيّة إلى السلطة في القرن السادس عشر كان يمثل رجل دولة في المنفى يتنقل للحصول على وظيفة في حكومة فلورنسا، كان أمله أن يتمكن سيّد قويّ -كما هو موضح في كتاباته- من إعادة فلورنسا إلى مجدها السابق.

الأمير:

كتب مكيافيلي بخطوط عريضة الصفات التي اعتقد أنها تجعل الإنسان قائدًا فعالًا وتُعزز من القوة والنفوذ، وعلى عكس الأُمراء النبلاء الذين يتم تصويرهم في الحكايات الخرافيّة على أنهم متواضعون ونزيهون وأخلاقيّون فإن الحاكم الناجح للإمارة -كما هو مذكور في كتاب الأمير- هو وحشيّ وبربريّ وعند الضرورة لا أخلاقيّ إطلاقًا.
-كما كتب- إن القائد يجب أن يكون داهية وإذا ما أراد أمير أن يحافظ على حكمه فيجب أن يكون مستعدًا كي لا يكون فاضلًا وأن يستخدم هذا أو لا حسب الحاجة.

يقول مكيافيلي: “من الأفضل أن تكون مخيفًا على أن تكون محبوبًا، إذا لم يكن بإمكانك الحصول على الاثنين”.
كما قال: “التجربة تُظهر أن أولئك الذين لا يحافظون على كلمتهم يحصلون على الأفضل من أولئك الذين يفعلون ذلك”.
وكتب يقول: “يجب أن يبدو الأمير دائمًا أخلاقيًا للغاية حتى وإن لم يكن كذلك”.
وأخيرًا: “يجب على القادة ألا يعتمدوا على الحظ، بل يجب أن يشكلوا ثروتهم الخاصة من خلال الكاريزما والمكر والقوة”.

وكما رأى مَكيافيلي كان هناك متغيّريّن رئيسيين في الحياة:
الحظ والفضيلة.

وقد قدّم هذا الكتاب إلى أحد أفراد أسرة مديتشي آملًا بذلك أن يدعوه للعودة إلى الخدمة العامة والجاه والمنصب وضمّنه إهداءً إلى لورنزو الجديد ولكن من المشكوك أن هذا الكتاب قد وصل إليه فعلًا. لكن مَكيافيلي لم يجد جمهورًا لعمله قبل وفاته ولم تستعد فلورنسا مجدها السابق في حياته.
تم نشر كتاب الأمير في عام 1532م (أي بعد خمس سنوات من وفاة مَكيافيلي).
وفي 1559م تم وضع جميع أعمال مَكيافيلي على فهرس الكتب المحظورة للكنيسة الكاثوليكيّة، وأدانت الكنيسة البروتستانتيّة التي تم تشكيلها مؤخرًا الأمير، وتم حظره في إنجلترا الإليزابيثيّة. ومع ذلك كان الكتاب يُقرأ على نطاق واسع وأصبح اسم المؤلف مرادفًا للمكر والسلوك عديم الضمير.

أثر الأمير:

احتفظ هتلر بنسخة من الأمير في سريره ليقرأ منه كل ليلة قبل أن ينام، ومن المعروف أن ستالين قد قرأ الكتاب أيضًا.
ووصف موسوليني الأمير بأنه “المرشد الأعلى للدولة” على الرغم من أنه وضعه فيما بعد في فهرس الفاشيّة للكتب المحظورة. كما تم العثور على نسخة منه لدى نابليون في ووترلو وقد أطلق على الكتاب اسم “كتاب المافيا” مع رجال العصابات.

ويقترح بعض العلماء أن الأمير كان في الواقع عملًا ساخرًا وكان المقصود منه بمثابة تحذير لما يمكن أن يحدث إذا تُركت السلطة دون رادع.

ورغم أن فرانسيس بيكون (عالم وفيلسوف) من بيّن أولئك الذين قدروا انعكاسات مَكيافيلي الصريحة في وقت مبكر قال: “نحن مدينون كثيرًا لمَكيافيلي والآخرين الذين يكتبون ما يفعله الرجال وليس ما يجب عليهم فعله”.

لكن أيًّا من فرسان الأدب والنقد في القرن ونصف القرن الحاليّين لم يقم بأي محاولة لتحسين سمعة مَكيافيلي، ولعل من سوء حظ مَكيافيلي أن هذا الكتاب على وجه الخصوص قد طغى على جميع مؤلفاته وأضحى المؤلَف الوحيد الذي تستند إليه سمعته، فقد كتب مَكيافيلي ثلاثَ مسرحياتٍ هزليّة، وعدة أعمال خياليّة، وتاريخ لفلورنسا، وعدد من القصائد الطويلة على مواضيع طريفة، وكوميديا مَكيافيلي وهي من بين الأعمال الدراميّة الإيطاليّة الأولى التي تجمع بين الشخصيات الواقعيّّة والهيكل الكلاسيكي المألوف اليوم، وغالبًا ما يُنظر إليّها على أنها أفضل الأعمال الدرامية الإيطاليّة في عصر النهضة.

ومع أننا نعلم -ويعلم الكثير من الناس- فإن الحياة السياسيّة وشئون الأمم تتطلب الكثير من الأساليب والحيّل والممارسات الغير نبيلة وهذا هو شأن السياسة الواقعيّة، وإن كل ما فعله مَكيافيلي في الأمير هو التعبير عن ذلك بطريقة رسميّة وصادقة وغير مشوبة إلى حد ما.

وأخيرًا لم يكن بإمكان الدبلوماسيّ نيكولو مكيافيلي أن يحلم بأن الرسالة القصيرة عن فن الحكم الذي كتبه في عام 1513م إلى لورنزو سيكون لها حياة طويلة جدًا.
مات مكيافيلي من مرض في المعدة في عام 1527م عن سن 58 عامًا.

إعلان

مصدر مصدر 1 مصدر 2
فريق الإعداد

إعداد: لمياء عبد السادة

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا