نهاية رَجل. “قصة قصيرة”

كان عمّ جابر ذو الخمسة والأربعون عامًا، رجلًا بيتوتيًا إلى حدّ كبير، فبرغم من كونه صعيديًا أصيلًا من أسوان، وحتى أنه لا يخلع تلك العباءة والعمة التي ورثها من أبيه، إلا أنه ليس كباقي أهل الصّعيد في هذا السنّ، فهو لا يجد ما يشابهه في هذا المجتمع منذ صغره، فأبوه الرجل الصعيديّ الشّديد أعطاه فكرة عن كيف يجب لمستقبله أن يكون، مما لم يرقْ له تمامًا، فاعتبر غرفته هي ملجأه الوحيد في شبابه، لا يخرج منها إلا للطعام أو للذهاب للصلاة وسماع دروس شيخ المسجد المجاور. ظلّ على هذا الحال حتى أتاه أباه في يوم ليعرفه على “عروسته”، الست جميلة، وهي فعلًا جميلة، لم يصغِ جابر حينها لحكايات أبيه عن أصلها وفصلها، فاكتفى بالجمال، وظن أنه ربما يكن في جوازه بها شيئاًا جديدًا يبعث فيه الحياة..

وتتوارى الأيام وينجب جابر ستة أطفال، أو “دستة عيال يعينونا في الكبر” كما كانت الست جميلة دائمًا تقول، وظلّ كل شيء كما هو عليه، وكان المستجدّ الوحيد هو رغبة جابر في العمل، فبالرغم من أنه يملك ما يكفي عيشه من الأراضي الزراعية، إلا أنه قرر الخروج لساحة العمل، وحينها، ترك بيته وأولاده، ووعدهم بأن يطلّ عليهم كل أسبوعين، متجهًا نحو القاهرة..
وهناك، حيث كانت الحياة تعج بالزحام، شعر جابر أنه وحيد، تائه، فهو لم يفكر في أي وجهة أساسًا..
ظلّ يومين يبيت في الشوارع والاستراحات، يسأل هنا وهناك عن وظائف خالية لرجل لا يعرف في الحياة سوى قسوتها..

طلّ عليه يومًا رجل خارج من محلّ مجوهرات، ويبدو عليه الغنى والحكمة، عرض عليه وظيفة “بوّابًا لعمارته الخاصة” وغرفة بدلًا من نومه في الشارع هكذا وبراتب مُجزٍ..

كانت نفس جابر تعز عليه بعض الشيء، فحياته كانت عزًا وكان الخدم والحشم يحيطون به في بيت أبيه، لكنه قرر أن يكون من العصاميين، الذين بدأوا من الصفر، فوافق أن يكون صفره كبواب لتلك العمارة.

كان عم جابر راضيًا جدًا في أيامه الأولى، حتى أنه أجّل زيارته لأهله، كانت الغرفة مريحة، والسكان بشوشين، والآن أصبح له كيانه الخاص يذكر به لا كيان عائلته، فهو “عم جابر البواب” الرجا الصعيدي الأصيل الذي يخدم الجميع بصدر رحب.
كانت وحدة عم جابر بدأت تتلاشى، بدأ يشعر بالأنس بعض الشيء.. وبعد انقضاء قرابة شهر في العمارة، زاره أحد أبناء السكان،
-إزيك يا عم جابر؟ أنا سامح، ابن الدكتور عبدالعزيز في الدور الثالث.
-يا أهلًا بالأحباب، أكيد عارفك يا ابني، اتفضل، اعملك معايا شاي؟
-يزيد فضلك، يا ريت عشان هنتكلم شوية.
بدأ عم جابر في غلي الماء بالشاي، منتظرًا من سامح أن يبدأ هو في الحوار،
-إلا قولي يا عم جابر، انت بتكلم أهلك في الصعيد؟
-لا للأسف، كنت واعدهم إني أزورهم كل أسبوعين، بس الشغل لبخني بقى ومفيش وقت.
-طب ما لو في تليفون ليهم ممكن تكلمهم؟
-آه في تليفون أرضي عندهم، بس مش عايز أضيع القرشين اللي بكسبهم في مكالماتهم كل شوية من الكُشك، فمستنّي شوية كده بإذن الله ولما انزل هجيب موبايل على قدّي كده واعرفهم رقمه وابقى اكلمهم.
-ممم، كويس. طب هوا انا كنت جايبلك هدية، واتمنى انك مترفضهاش مني.
سحب سامح من جيبه موبايل، يبدو أنه مستعمل لكنه جيد، وأعطاه لعمّ جابر..
-بس ده كتير اوي يا سامح يا ابني! وغالي كمان، لا لا انا مش عايز اكلفكم.
-ده بطيب خاطر مني، الاسبوع الي فات فاكر الولد الي كان ماشي ورا اختي وانت شوفته وضربته؟.. اعتبر دي هدية شكر ليك على الي عملته ده.
ظل جابر صامتًا لفترة، خجلانًا من كونه أساسًا جاهلًا بهذه الأشياء ويخاف أن يفسده، لكن سامح سارع قائلًا:
-وأنا هنزل كل يومين كده اقعد معاك اعلمك تستعمله ازاي، وهعرفك كمان تدخل نت وكله ازاي، بس دلوقتي قولي رقم اهلك عشان تكلمهم تطمنهم..
كان جابر فرحًا لأول مرة في حياته يشعر بهذا الأنس، ولأول مرة كذلك يفعل شيئًا ويجازيه أحد عليه خيرًا، وكان سامح هذا شاب سَمح، حسن المظهر وطيب الطبع، وبالفعل كان يطل كل يومٍ على عم جابر، يدخله على شبكة الواي فاي الخاصة بهم، وييسر له الطريق في التعامل مع هاتفه الجديد.. كما كان إن مرّ بيومٍ صعب في كليته، كلية العلوم، مرّ على عمّ جابر ليفتح له قلبه ويزيح الحمل عن عاتقه.. فصارت حياة عمّ جابر زاخرة بالأحداث عن ذي قبل.
كما أنه أنشأ له صفحة على الفيسبوك، وجعلها كما طلب منه عم جابر باسم مستعار، وصورة مستعارة، وحتى سنّ مستعار، فلم يرغب في أن يعرف هويته أحد في هذا المكان الذي بدا له غامضًا في البداية.

إعلان

بدأ عم جابر ينهمر في البحث في صفحات الفيسبوك، ومن هذا لذاك، أصبح يكتب بعض الشيء على صفحته الخاصة، يكتب عن آلامه، عن وحدته. أخرج صوت ذاك الشاب الذي لم يغادر غرفته إلى العنان، شعر بالحرية، والسعادة، فالناس تحتويه وتطيب خاطره في تعليقاتهم، والكثير يشاركونه نفس المشاعر..
قلّت زيارات سامح له، لكنه كان يحدّثه طيلة الوقت على الانترنت، يشاركه هذه الأحزان، ويتعجب أنها تبقى حبيسة الرجل من شبابه حتى عجزه بهذا الشكل..

كانت آلام عم جابر تكبر كلما تعمّق فيها ليتحدث عنها، كان يختنق بها، فأحسّ أنّ عمره ذهب هباءً، فلم يعمل ما يحبّ، ولم يتزوج من يحب، ولم يتعلم سوى عن الألم والحزن، مما لا يحب بكلّ تأكيد، حياة الشاب التي ذلفت كانت تخنقه، كما أنّ صدره لم يعد رحبًا، فقد ضاق أشد الضيق من هذا العمل، ومن هذا المكان، حتى أنه في بعض تدويناته، كان يلعن الزمان، ويتمنى لو يتوقف به للحظة واحدة، ليتفهم ما يحدث له كل هذا الزمن.

أصبح كلّ أصدقاء جابر على الفيسبوك شخصيات مثله تمامًا، مستعارة، مكتئبين من كل أرجاء الأرض، ومنهم سامح بالطبع، ناقمين على الحياة بكل ما فيها، يسبّون الزمان والبشر طيلة الوقت..

حتى أتى هذا اليوم، الذي أرسل فيه سامح رسالة لمقولة لمجهول، تقول “وفي النهاية لا يحتاج المرء سوى الشجاعة لقتل نفسه.” وبدأ الحديث بين الشبان عن مدى شجاعة ومروءة المنتحر، وكم يتمنون لو يملكونها، وأنهم سيأخذون أول من يفعلها منهم قدوة ويتبعونه كلهم..
ظلّ جابر يتخيل كونه بطل الشجعان، كونه هذا البطل الذي ينير الطريق لهؤلاء التائهين، كما أنه رأي لذةً في إيقاف كل هذا الألم الذي نما بداخله، كما أنه تخيل أنه ربما إن فعلها، سيتفهم هؤلاء الشبان مدى سهولة الموت، مدى كونه شيئًا سريعًا لا يرحم أحدًا، وربما، يكون هذا دافعًا لهم لئلا يكونوا مثله، وإن لم يكونوا، فسيلحقون به، وسيكونون صحبة في السماء، بلا أسماء مستعارة..

وبعد يومين من هذا الحوار، كان الدكتور عبدالعزيز وزوجه وأولاده على سفر، فقريب لهم في محافظة الشرقية قد توفي، لكنهم سيتركون سامح لأنّ عنده امتحانات. وكان هذا بمثابة الفرصة لعمّ جابر..

انتظر عم جابر حتى رحيل الأسرة، وكلّم السّت جميلة، يودّعها وداعًا غير مبرر، ويوصيها على أبنائه، ويوصيها ألا تجعلهم يضيّعوا شبابهم، وأن تسعدهم بكل ما أوتيت من قوة، ولم يتسنى لجميلة الإجابة على شيء وأغلق سريعًا..
صعد بهدوء للدور الثالث حيث سامح وحيدًا، طرق الباب فسمح له بالدخول،..
-سامح، لأول مرة هطلب منك طلب، وكلي توسل إليك إنك تنفذه..
-خير يا عم جابر! إنت تؤمرني..
-أنا قررت أنتحر، قررت أكون أول الشجعان الي هيعملوا كده، قررت أنهي كل التعب والأسى ده، وأنا عايز تكون مرشدي دلوقتي، وتبلغ الناس عني من بعدي..
صمت سامح لبضع دقائق، محاولًا إستيعاب ما يحدث.. ثم عقب متهتهًا:
– عظيم يا عم جابر!.. لكن.. الأمر مخيف نوعاً ما، وانا مش عايز أخسرك!..
-ده الي كنت هقولك عليه، لو بعد موتي محستوش بتغيير، او ملقتوش سبب لسه لحياتكم، اتبعوني، ووقتها هنكون صحبة في السماء.. حتى لو في الجحيم يا ابني، هنكون صحبة، وده المهم.
ارتبك سامح نوعًا ما، فطيش الشباب لا يقارن بطيش رجل قارب الخمسين من عمره، هذا الطيش جادّ وحازم، ولم يُرد سامح أن يبدوا كالطفل الذي يقول شيئًا ثم يغيره، فقد كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب، لكنه لم يكن يعلم ذلك على أية حال.. فبدأ يتحدث مع جابر عن طريقة موته المفضلة..

رفض جابر كلّ الطرق التقليدية، حتى أخبره سامح أن بعضًا من الناس يواجهون أشد الأشياء التي تخيفهم قبل مماتهم.. فوجد جابر الحل..
كان يهاب ظلمة القبر، أن يوضع في مكان بلا هواء ولا ضوء، فكونه حبيس غرفته، يشعره دومًا أنّ هذه هي النهاية.. فسأل سامح إن كان يعلم أين غطاء سيارتهم القديم، فهو يتذكر أنه كان من الجلد القيم، بدأ سامح يبحث عنه حتى وجده مرميًا تحت سريره كل هذا الوقت وهو لا يعلم.. طلب منه جابر أيضًا شريطًا لاصقًا، فأعطاه إياه..
وهنا استلقى جابر، وطلب من سامح أن يلفه بغطاء السيارة، وأن يلفه باللاصق من رأسه وحتى أخمص قدمه بهذا اللاصق المتين.. ووصاه أن يصوره بهذا الحال، وينشر صورته مصحوبةً بالمقولة التي دعته للتفكير في كل هذا، وشكره على ذكرها.. ففي النهاية كانت الشجاعة لجابر..

ودّع سامح عم جابر، ووضع على فمه رباطًا حتى لا ينازع بصوت عالٍ عندما يبدأ الهواء في النفاذ كما طلب منه..
كان سامح يرتجف، لكنه ولآخر ربطة، لم يرد أن يستسلم لنفسه، فحافظ علي جديته، وأتم تغطية عم جابر باللاصق..
وحينما كان جسد عم جابر المغطى يرتجف، كان سامح منهارًا من البكاء، يتمنى لو تنقضي به الحياة لفعلته، لم يكن متفهمًا إصراره على ترك عم جابر يذهب سدى، لكنه لم يرد نهائيًا إنقاذه، لكنه كان حتمًا يفتقده من هذه اللحظة، ويملأ الذنب قلبه..
بدأ جسد عم جابر يهدأ، ففهم سامح أنها النهاية، فكما أهداه الأُنس في حياته، كان أنسه يوم مماته، التقط صورة لهذا الجسد البالي المغطى، ونشرها معلقًا:
فكما قال ألبير كامو: “في النهاية يحتاج المرء المزيد من الشجاعة لكي يحيا لا لقتل نفسه.”.. وللأسف كان عم جابر أقلنا شجاعة لمواجهة هذا العالم، ربما عرفتم شخصيته المستعارة في هذا العالم، لكن شخصيته كعم جابر، كانت وستظل ملهمةً لي، حتى في موته، لأن الشباب للحياة، وإن لم نحيا في شبابنا، فلن نحيا بتاتًا، وسنكون فقط مثله، منسيين في هذا العالم، ننتظر مغادرته بفارغ الصبر، فلا نجد سبيلًا سوى الانتحار.. ادعوا له بالرحمة والمغفرة، وانشروا قصته، لعلها تنجي أحدهم من كبيرةٍ كهذه.”
وانطلق حاملًا جثة عم جابر نحو أقرب قسم شرطة، راجيًا منهم دفن هذا الرجل، وسجنه، لأنه وبطريقة يجهلها، قتله.

إعلان

اترك تعليقا