هل حدث الخروج الجماعي من مصر؟

يُشكل الخروج الجماعي للإسرائيليّين ليس فقط حدثًا فريدًا في الكتاب المقدّس العبريّ، حيثُ خُصصت له ثلاثة أسفار كاملة لروايته، بلْ أيضًا الحدث الأكثر مركزية في التاريخ الديني الإبراهيميّ، حيث وجّه الإله الضربة الأخيرة القاصمة للطغيان وحرر شعبه المختار من نير العبودية قبل أن يفتح له أبواب الأرض الموعودة ويبتدئ تاريخًا جديدًا لشعبه، تاريخًا من المجد والازدهار والعَظَمة.

ولا تزالُ مشاهد الضربات العَشرة وشقِّ البحر بعصا موسى مشاهد حيّة متقدة في ذاكرة أتباع الديانات الإبراهيميّة. وكيف لا وهي تمثل الظهور العملي الأول للإله لشعبه المختار بالكامل لا فردًا واحد من أفراده، والتجليات الأبرز لهيمنة الإله على الطبيعة والبشر.

لقد أصبح الخروج، كما يصفه دونالد ريدفورد، بمثابة نموذج أصلي للخلاص، ورمزًا للحريّة والجوهر الأصلي لديانة عالمية عظيمة. ولكن مع ذلك يظل بالنسبة للمؤرخ أكثر الأحداث البارزة مراوغةً في التاريخ الإسرائيليّ. فمن المفترض أن هذا الحادث قد وقع في مصر، ومع ذلك لا تعرف المصادر المصرية عنه شيئًا. فهل تمثل تلك الأحداث تاريخًا حقيقيًا وقعت في مكان وزمن واقعيين؟ هل هناك شخص فعلًا يُدعى موسى قاد مليونين من الإسرائيليين للخروج من مصر؟ ببساطة، هل حدث خروج جماعي للإسرائيليين من مصر بأي شكل كان؟

أسئلةٌ غير مشروعة

على مدار عقود، وتحت سطوة النص، بذل الباحثون جهودًا ضخمة في محاولات الإجابة عن أسئلة لم يتحققوا من مدى مشروعيتها ومشروعية طرحها من الأساس دون مساءلة تاريخية الخروج نفسه أصلًا. فالخروج حدث قطعًا وما علينا سوى ملء بعض الفراغات ببعض التفاصيل حتى تصير لدينا رواية تاريخية مكتملة. فأراقوا الكثير من الحبر في محاولة الإجابة عن أسئلة من قبيل: تحت ظل أيّ من الأسر المصرية كان صعود يوسف إلى السلطة؟ من كان فرعون الاضطهاد؟ ومن كان فرعون الخروج؟ من كانت ابنة فرعون التي انتشلت موسى من الماء؟ لو تحرّى المرء الموضوعية سيجد أنَّ تلك الأسئلة لا تقل في سخافتها عن أسئلة من قبيل: من كان قناصل روما عندما سحب آرثر السيف من الصخرة؟ وأين وُلد الساحر ميرلين؟ (ريدفورد) من كان أمير ساكسونيا عندما خرج الفتى الذي أراد أن يتعلم الخوف في حكايات الأخوين غريم؟

ويمتاز المسلمون بحيلة للالتفاف على الأمر برمته ألا وهي تعليق الحكاية –مع غياب التفاصيل عن الرواية القرآنية ذات الإيقاع الشعريّ- في فضاء تاريخي غير محدد لإنقاذ الحكاية -تحت وطأة البيّنات الأركيولوجية والتناقضات التاريخية- من الوقوع في فخ عدم التاريخية متناسين أن محاولة كتلك هي ما ستجعل من الحكاية مجرد أمثولة أدبية في حين أن ما يميز الحكاية عن القصص الفلكلورية التقليدية هي الإيماءات الجغرافية والتاريخية المنثورة في ثنايا الحكاية التوراتيّة.

إعلان

الخروج الجماعي أركيولوجيًا

ماذا يخبرُنا علم الآثار عن قصة الخروج؟ هل تصف أوضاعًا وظروفًا تعود للفترة الرعمسيسية فعلًا كما تذهب كل الفرضيات التي تقول بحدوث خروج جماعي للإسرائيليين في عهد رعمسيس الثاني؟ أم تصف أوضاعًا متأخرة؟.

في الواقع، تنطبق أوصاف قصة الخروج الجماعي آثاريًا أفضل ما تنطبق على القرنين السابع والسادس قبل الميلاد أي بعد الزمن المفترض لحدوث الخروج الجماعي بستة قرون وذلك لعدد من الدلائل:

وفقًا للرواية التوراتية، شارك العبيد الإسرائيليون في بناء مدن بي-رعمسيس (بيت رمسيس) وفيثوم (بيت أتوم). وتُطابق الأخيرة اليوم من قِبل معظم علماء الآثار مع تل المسخوطة بوادي الطوميلات. وتٌظهر التنقيبات في تل المسخوطة أنها قد سُكنت في عهد الدولة الوسطى ثم شهدت فترة فراغ استيطانيّ قبل أن يُعاد استيطانها في عهد الأسرة السادسة والعشرين بالقرن السابع قبل الميلاد.

هذا الذكر المتكرر للجِمال لاسيما في قصة بيع يوسف، ومن المعروف أن الجِمال لم يشع استخدامها كدواب لحمل الأثقال إلّا في عصر الحديد الثاني إبان الهيمنة الآشورية على المنطقة. وقد كشفت التنقيبات التي تمت في موقع تل الجمة، الذي كان مَخزنًا مهمًا على طريق التجارة بين الجزيرة العربية والبحر المتوسط، عن زيادة كبيرة في عظام الجِمال في القرن السابع.

بعض المواقع التي لعبت دورًا رئيسيًا في قصة تيه الإسرائيليين إنما سُكنت للمرة الأولى في القرن السابع قبل الميلاد كواحة عين القديرات التي طوبقت مع قادش برنيع التوراتية.

لم تصبح ممالك الضفة الشرقية للأردن مواقع مشهورة وآهلة بالسكان إلّا في القرن السابع قبل الميلاد كما هو الحال مع أدوم، إذ تروي التوراة أن موسى أرسل مبعوثين من قادش برنيع إلى ملك أدوم طالبًا منه السماح بعبور أراضيه.
وفقًا لدونالد ريدفورد، يُشتق اسم جاسان الوارد في الرواية التوراتية في سياق حكاية الخروج من اسم جيسيم، اسم الملكية القيدارية. ومن المعروف أن العرب القيداريون قد توسعوا في الدلتا إلى حواف الأراضي الشرقية منذ بدايات القرن السابع قبل الميلاد حيث صاروا عاملًا مُهيمنًا.

بعض الإشارات الفرعية تتمثل في الخوف المصري من الغزو من جهة الشرق. ومن المعروف أن مصر لم تتعرض أبدًا للغزو من جهة الشرق قبل هجمات الآشوريين. إلّا أنَّنا نجد في قصة يوسف تصعيدًا لتوتر مفاجئ عندما يتهم يوسف إخوته الذين وصلوا لتوهم من كنعان بأنهم جواسيس. ويعبر فرعون إبان الخروج عن خوفه من أن يتعاون الإسرائيليون مع العدو.

ذكريات قديمة

إلا أنه لا يمكن إنكار أن تقاليد الخروج كانت قائمة لمدة طويلة قبل وضع الحكاية على الورق على نحو ما يذهب إليه فنكلشتاين محتذيًا في ذلك حذو دونالد ريدفورد في اعتقاده بأن قصة الخروج لم يتم خلقها خلقًا في نهاية القرن السابع قبل الميلاد أو في السبي كما يذهب بعض الباحثين، بل أن الموتيفة الأساسية كانت معروفة قبل ذلك مما نلحظه في التلميحات إلى الخروج الجماعي والتيه في البرية التي تضمنتها أسفار عاموس وهوشع قبل قرن. ولكن علام استندت موتيفة الخروج؟

يرى كلًا من فنكلشتاين وريدفورد أنَّ الأحداث العظيمة لاحتلال الهكسوس لمصر ثم طردهم العنيف منها بقيت أصداؤها تدوي لقرون عديدة في أذهان الكنعانيين حتى أصبحت ذكرى مركزية لدى كل شعب كنعان. فذكريات هذا الحدث الضخم في تاريخ المشرق لم تستمر على قيد الحياة في المصادر المصرية وحسب، بل أيضًا في الفلكلور الكنعاني. حيثُ كان ليكون غريبًا لو أنَّ سكان فلسطين حيث خرج الهكسوس لم يحتفظوا هم أيضًا بذكريات عن تلك اللحظة المجيدة عن أقرانهم السامييّن.

في الحقيقة، أمام الخروج، نجد أنفسنا أمام الرواية الكنعانية، لا الإسرائيلية فقط، عن طرد الهكسوس، كسردية وطنية عن لحظة من لحظات المجد متمثلة بالخروج الطوعي وغرق فرعون في المطاردة، لا الطرد المخزي. وبمقدورنا العثور على آثار لتلك الذكريات في شكل تيمات وموتيفات لتلك الذكرى في التقاليد غير الإسرائيلية التي يوردها ريدفورد. فسترابو يحتفظ لنا بذكرى عن جيش غرق في البحر على الشاطئ الفلسطيني. وتحفظ لنا أسطورة فينيقية نزول فتاة تدعو يو وزواجها من الملك الحاكم وتسجل قوائم احفادها ابنها إبافوس (أبوفيس) وقد حكم نسل يو مصر لمدة أربعة أجيال وبعد ذلك انسحب حفيدها البعيد أجينور إلى فينيقيا حيث أصبح ملكًا عظيمًا ورحل أخوه ببيلوس (بعل) إلى بلاد الرافدين، وقد فر داناوس بن بيلوس إلى أرجوس عقب مشاحنة مع أخيه إيجيبتوس. وإبافوس نفسه نجده في مرحلة من مراحل سيرته مقيمًا في بيبيلوس بينما كادوس بن أجينور يقود بالاتفاق مع داناوس الأجانب المطرودين من مصر.

وهكذا جرى توظيف تلك الذكرى عن الكنعانيين الذين صعدوا للسلطة في مصر وحكموها كوسيلة لبث روح المقاومة والصمود في نفوس الكنعانيين ممن يزحرون تحت نير الخضوع لمصر خلال العصر البرونزي المتوسط والأخير قبل أن يتم تطويرها لخدمة أهداف الإحياء القومي اليهوذية في القرن السابع قبل الميلاد.

إله وفرعون

كان القرن السابع قبل الميلاد عهد إحياء عظيم في كلًا من مصر ويهوذا. ففي مصر، وبعد مدة طويلة من الانحطاط، وسنوات من الخضوع للإمبراطورية الآشورية، استولى الملك بسماتيك على السلطة وحوّل مصر إلى قوة دولية رئيسية من جديد على الطراز الرعمسيسي. وعندما بدأت الإمبراطورية الآشورية بالانهيار، تحركت مصر لملء الفراغ السياسي فاحتلت أراض آشورية سابقة، وأسست فيه حكمًا مصريًا دائمًا بين 640-630 قبل الميلاد، ليحل النير المصريّ محل النير الآشوريّ.

Death of king Josiah as illustrated by Francesco Conti

وفي يهوذا، وفي عهد يوشيا الملك، كانت العقيدة بأن يهوه سَيفي في النهاية بوعوده التي أعطاها للآباء ولموسى ولداوود بتحويل شعب إسرائيل لشعب كبير وموحد يعيش آمنًا في أرضه، عقيدة سياسية وروحية راسخة (فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يَذْهَبُ بَيْتُ يَهُوذَا مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، وَيَأْتِيَانِ مَعًا مِنْ أَرْضِ الشِّمَالِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي مَلَّكْتُ آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا – ارميا). من هنا بدأ يوشيا محاولة طموحة لتوحيد كل الإسرائيليين تحت حكمه مستفيدًا من الانهيار الآشوري. حيث هدف إلى التوسع إلى المناطق الشمالية ليحقق حلم إقامة حكم ملكي متحد موحد ومجيد تحت ظل دولة كبيرة وقوية لكل الإسرائيليين الذين يعبدون إله واحد في معبد واحد في عاصمة واحدة – أورشليم – يحكمها ملك واحد من ذرية داوود.

وبناء على ما سبق، كان هناك تعارض مباشر بين طموحات مصر الجديدة لتوسيع إمبراطوريتها وطموحات دولة يهوذا الصغيرة. لذلك وقفت مصر السلالة السادسة والعشرون بتطلعاتها الإمبراطورية في وجه تحقيق يوشيا لأحلامه. هنا أصبحت صور وذكريات الماضي ذخيرة هامة في الامتحان الوطني لصمود وإرادة بني إسرائيل في وجه فرعون وقواد عجلاته الحربية.

بناء على ما سبق، من الممكن النظر لقصة الخروج من منظور جديد تمامًا، إلى حدّ مدهش تمامًا، كما تمت كتابة قصص الآباء بدمج عدة تقاليد نصية قديمة متفرقة مع بعضها البعض لتؤدي وظيفة إحياء وطني، كُتبت قصة الخروج. الرب لن ينسانا وسيغرق فرعون كما أغرقه من قبل.

نعم؛ وكما رأينا؛ بزغت قصة الخروج تحت ضغط النزاع المتصاعد بين يهوذا ومصر في القرن السابع قبل الميلاد. ومن ثم فقصة الخروج ليس حقيقة تاريخية، وليست مجرد قصة أو خيال قصصي رومانسي محض، بل تعبير قوي متعدد الإيقاع عن الذاكرة وعن الأمل، بلغت ذروته في المواجهة بين يوشيا – نخاو الثاني / موسى- فرعون، ومن ثم يمكن النظر لغرق فرعون كنبوءة إسرائيلية لم تتحقق أبدًا. فقبيل المواجهة الأخيرة، صعد يوشيا إلى مجيدو حيث اصطدم بنخاو الثاني قبل أن يتلقى سهم ويموت ويموت معه حلم يهوذا، وتفشل نبوءة النبي ارميا.

الهوامش
1. قصة موسى بالتأكيد واستلامه ألواح الشريعة نرى أنها قصة منفصلة وقصة أقدم من الخروج، كانت متداولة شفاهة قبل دمجها في قصة الخروج فيما بعد ليكون الباسفور (عيد الفصح) مرتبطًا بذكرى الخروج لا عيدًا زراعيًا.
2. هناك تيمات مشابهة في الفلكلور المصري. انظر كتاب ريدفورد.
المصادر
1. التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها – إسرائيل فنلكشتاين
2. مصر وإسرائيل وكنعان – دونالد ريدفورد
3. Who Were the Early Israelites and Where Did They Come From? - William G. Dever
4. The Quest for the Historical Israel: Debating Archaeology and the History of Early Israel (Archaeology & Biblical Studies) - Israel Finkelstein & Amihai Mazar

 

إعلان

اترك تعليقا