هل يمكن لسلوك الآباء أن يترك أثره في الأبناء لأجيال؟

ما فوق الجينات "Epigenetics" وعلاقتها بالتوريث

“الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”. مقولة ربما تحمل بعدًا آخر غير الذي نعرفه. ففي دراسة سابقة تمت على أزواجٍ بريطانيين أنجبوا أطفالًا في بدايات تسعينات القرن الماضي، ظهر أن الآباء الذين بدأوا بالتدخين وهم دون الحادية عشر، أي قبل البلوغ، كانت أوزان أولادهم فوق المعدل عند بلوغهم التاسعة.

وفِي ذات الدراسة قام الباحثون بتتبع عائلات في مناطق بعيدة شمال السويد لثلاثة أجيال، ووجدوا أن الأشخاص الذين عانى أجدادهم من شُح الغذاء في سن ما بين التاسعة والثانية عشر، عاشوا لسنوات أكثر. كما أن التأثير ارتبط بالجنس؛ حيث أن تغذية الأجداد الذكور ارتبطت بطول حياة الذكور من الأحفاد. بينما أثّرت تغذية الجدات على الحفيدات الإناث.

وفي دراسةٍ حديثة أجراها لاري فيغ من جامعة Tuft في ماساتشوستس، وجد أن الرجال الذين تعرضوا لأربعةٍ أو أكثر من عوامل التوتر في الصغر (كالتعرض للإساءة أو طلاق الوالدَين) كان لديهم عددٌ أقل من نوعين من microRNA. ورغم أنه لا يعلم دور هذين النوعين تمامًا، إلا أن microRNA في العموم تلعب دورًا في تطور الجنين. كما أن هذين النوعين يتواجدان فقط في الحيوان المنوي وليس في البويضة. لذا فإن بويضة الأم لا يمكن أن تعوّض هذا النقص.

فكيف يمكن لسلوكيات الآباء أو الظروف التي مروا بها أن تترك أثرها في الأبناء؟

يولد أكثر من 76 ألف طفلٍ سنويًا استُخدِمت وسائل صناعية للحمل بهم، وغالبيتها تتضمن تلقيح بويضة الأم خارج الرحم بحيوانٍ منوي مأخوذٍ من الأب. وبعد عدة انقسامات يتم زرع الجنين المتكون داخل رحم الأم. ولكن في بعض حالات عقم الأب الناتج عن عدم قدرة الحيوانات المنوية على السباحة، يتم انتزاع الحيوانات مباشرة إما من الخصية أو من البربخ.

يُخلَق الحيوان المنوي في الخصية ثم يرتحل لمدة أسبوعين في قناة متعرجة يصل طولها لحوالي ستة أمتار تدعى البربخ. للبربخ دوران؛ إتمام إنضاج الحيوانات المنوية وتخزينها. ورغم أن التركيب الجيني للخلية المنوية لا يتغير (ككتاب إرشادات الاستخدام) عبر قناة البربخ وكذلك عبر حياة الإنسان كاملة، إلا أن قرار كيف ومتى ولماذا تعمل الجينات فهي قصة أخرى يمكن أن تتغير وهو ما يعرف بالظاهرة فوق الجينية أو Epigenetics، والتي قد تفسِّر كيف أن توأمًا متشابه الجينات وفِي نفس البيئة يمكن أن يختلفا في الشكل أو السلوك. وفِيها قد يكمن أيضاً تفسير كيف أن بعض سلوكيات الآباء قد تترك أثرها الوراثي في الابناء .

إعلان

محاولة كشف السر:

أحد العناصر المهمة في Epigenetics هو مجموعة جزيئات تدعى ال RNA الصغرى. هذه يمكنها حجب المعلومات الجينية، فلا تقوم الخلية بتنفيذها وكأن الجينات غير موجودة. وفِي محاولة لكشف الأثر الوراثي  للسلوك الأبوي، قامت اوباسنا شارما من جامعة ماساتشوستس للطب في العام 2016 بتتبع تركيب ال RNA الصغرى في الحيوانات المنوية لفأر منذ خروجها من الخصية وأثناء مرورها بالبربخ. حيث قامت شارما وفريقها بعزل الحيوانات المنوية في مراحل مختلفة. بعضها خارجٌ للتو من الخصية وأخرى في الجزء الأول من البربخ وثالثة في الجزء الأخير منه.

كانت المفاجأة عندما تبين أن العديد من جزيئات الRNA الصغرى تم التخلص منها أو دُمِّرت في الجزء الأول من البربخ. ثم تم استبدالها بجزيئات RNA صغرى جديدة أثناء إكمال رحلتها عبره، والتي عكست الحالة الجسمية العامة للفأر الأب. أي أن الحيوانات المنوية حُمِّلت أثناء عبورها في البربخ بمعلوماتٍ فوق جينية من خارجها .

وللتأكد من الأمر، قام الفريق بإضافة علامات كيميائية لمجموعةٍ من جزيئات الRNA الصغرى الموجودة في البربخ. ثم قاموا بتتبعها. وكما كان متوقعًا فإن بعضًا من هذه الجزئيات التحقت بالحيوانات المنوية.

فهل تؤثر مرحلة الحيوان المنوي في البربخ على إنجاح الحمل؟

في دراسةٍ أخرى مكمِّلة للدراسة السابقة، قام كولين كوناين من نفس الجامعة بالبحث فيما إذا كان استخدام حيواناتٍ منوية غير ناضجة من فأر سيكون له أثر في الفئران المولودة.

قام كولين وفريقه باستخلاص ثلاثة أنواعٍ من الحيوانات المنوية؛ الأول من الخصية مباشرة، والثاني من بداية قناة البربخ، والثالث من نهايته، ثم حقنوها في بويضات. جميعها استطاعت تخصيب البويضات. لكن عندما قام كوناين بنقل الأجنّة الناتجة إلى أرحام الأمهات، فإن تلك الناتجة عن تلقيح حيوانات منوية أُخِذت من المرحلة الثانية (من أول البربخ)، لم تنجح في الانزراع في جدار الرحم. بينما تلك الناتجة عن تلقيح حيوانات منوية من المرحلتين الأولى والثالثة حالفها النجاح.

فكر كوناين، جميعها استطاعت تلقيح البويضات، إذن لا بد أن يكون العطب الذي لم يسمح بانزراع الأجنة الناتجة عن تخصيب النوع الثاني من الحيوانات المنوية متعلقًا بنقص جزيئات الRNA الصغرى فيها. فربما لو قاموا بتعويض هذا النقص سيُكتَب للأجنة الناتجة النجاح.
لفحص هذا، قام الباحثون بأخذ جزيئات RNA صغرى من نهاية البربخ وحقنها في الأجنة المخصَّبة بحيواناتٍ منوية مأخوذة من بداية البربخ. ولدهشتهم نجحت هذه الأجنة في الانزراع في جدار الرحم بل وأنتجت مواليد فئران مشابهة لتلك التي نتجت عن بويضات تم تخصيبها بحيوانات منوية أُخِذت من نهاية البربخ.

تقول البروفيسورة مولي مانير، والتي تقوم بدراسة المادة الوراثية في الحيوانات المنوية في جامعة جورج واشنطن، ولم تشارك في البحث “هذه الدراسة تزيد من فهمنا لكيفية انتقال معلومات غير جينية من الآباء للأبناء”.
وتقول البروفيسورة هايدي فيشر من جامعة ماريلاند “هذه التجارب المُعدّة بعناية تُسلّط الضوء أيضًا على دور أعطاب البربخ في حالات العقم غير المُفسّر لدى الرجال”.

إعلان

مصدر مصدر مصدر مصدر
فريق الإعداد

إعداد: رائده فضه

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا