مراجعة رواية “وكالة عطية” لخيري شلبي..

في البداية، لا أجد ما أقوله عن رواية “وكالة عطية” للرائع خيري شلبي أو عن مدى تأثيرها في ذهني، حتى أنني في بعض الأحيان حين أنتهي من كِتاب مكثتُ بداخلهِ وتعلقت به ألتزم الصمت، تلك الحالة التي تشعر بها عندما يستعصي عليك أن تعبّر عن مدى المتعة والإثارة التي حصلتَ عليها عقب انتهائك من قراءة كتاب ما.

“منتشيًا في قاعدة ليليّة، أنتفض، أتفحص الوجوه، أهرول مسرعًا عبر الطرقات والأزقة، أعبر سكة حديد، أتبول بجوار مبنى إداريّ قديم مهجور، أخاطب أحد الكلاب الضالة بأن يخفض نباحه، أتسكع مترنحًا يمينًا ويسارًا، أرقص، أُغنّي، أكاد أموت من فرط البهجة والسعادة، يا له من إحساسٍ يصيب المرء في دنيا الشقاء”.. ذاك إحساس مشابه بالذي شعرت به عند قراءة “وكالة عطية”، إنها قادرة على إعطائنا جرعة كافية من السعادة حتى ولو مؤقتة، فهي كالمنقذ الذي ينتشلنا من الغرق في هول الحياة.

حصلت رواية وكالة عطية على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2003م، وصدرت بالإنجليزيّة عام 2007م.

 

خيري شلبي في سطور

أما كاتبُنا الكبير خيري شلبي فهو من أبرز الكُتّاب المصريين، بل ويفضله البعض على غريمه صاحب نوبل -وأنا من ضمنهم-. كتب في فن الرواية والقصة والمسرح وله عدة دراسات حول تلك الفنون، بل أيضًا استكشف نصّ محاكمة عميد الأدب العربي طه حسين، ومسرحيّة للزعيم مصطفى كامل.

كان قارئًا نهمًا؛ يقرأ في شتى المجالات، كتب في السيناريو أيضًا والتمثيليّات الإذاعيّة، وهو صاحب إنتاج ضخم متعدد. من أشهر أعماله هذه الرواية “وكالة عطية” و”صالح هيصة” و”ثلاثيّة الأمالي”. تُرجمت أعماله إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة والروسيّة وعدة لغاتٍ أُخرى.

إعلان

يُعرف عن خيري شلبي أنه شيخ الحكائين وذلك لقدرته الخارقة على “الحكي”؛ معتقدًا اعتقادًا كاملًا بأنّ هذه الحياة مجرد حكاية، وأن الذي يجعل الإنسان يشعر بإنسانيّته هو الحكي، فالأدب يُمثل له الحياة كما تُمثل له الحياة الأدب؛ بذلك استمد خيري شلبي من حياته ومن واقعه كل ما يمكن الكتابة عنه؛ فقد كان عاشقًا مولعًا بالحياة وتفاصيلها، متوغلًا في أعماقها، فقد شَغْل عدةَ مهنٍ شعبيّة، وعاش هنا وهناك من الريف إلى الحضر متنقلًا في أرض مصر المُحببة إليه، ليُخرِج لنا أدبًا حيًا، أدبًا حقيقيًا، أدبًا مصريًا بكل ما تعنيه الكلمة.

 

الرواية بين مَن وكيف وماذا..

يبدأ خيري شلبي الرواية باعتداء طالبٍ بمعهد المعلمين على أحد معلميه ليُطرد من المعهد ويبدأ حياة التشرّد، ليأخذنا خيري شلبي في جولة لأحد عوالمه في حواري دمنهور -ووكالة عطية بالأخص- لنتعرف على ذلك العالم ونغوص فيه وفي شخصياته المثيرة.

خط سير الرواية: هي حياة ذلك الطالب الريفيّ -التي أكاد أجزم أن تكون هي حياة الكاتب نفسه- والذي بمجرد معرفته بالوكالة وماضيها وَجَد قوةً خارجةً عن الطبيعة تسحره نحوها، وإذ فارقها مدة عاد إليها ملتهفًا كما لو كان قضى فيها طفولته.. لتبدأ مغامرته مع سكان الوكالة.

المكان: في إحدى المدن المصريّة، بالتحديد في مدينة دمنهور، متوغلًا في قاع المدينة، يختلق المبدع خيري شلبي وكالة من وحي خياله تُدعى بوكالة عطية. من وصفه المُتقن للمكان وسكانه وعاداتهم وتقاليدهم، يجعلك تؤمن إيمانًا قاطعًا بأنها فعلًا مكان حقيقيّ. تلك التيمة إحدى سماته، فهو قادر على التلاعب بالقارئ أيّما شاء، قادر على دمج الواقع بالخيال في صورة مشهدية واحدة.

الزمن: هو زمنٌ تفشّى فيه الفساد بكل أنواعه، اكتسحت الساحة السياسيّة جماعة الإخوان والليبراليون والماركسيون، وعلى الجانب الآخر فاشيّة الحكومة والقمع والردع لحرية الرأي الآخر وكل ما هو ضدّها، وذلك في ضوء مشاكل وثورات الشرق الأوسط أجمع.

الشخصيات: الشخصيات بكلّ حذافيرها هي شخصيات مصرية حقيقيّّّة، شخصيات مهمشة لا تملك ما يسدّ رمقها، صعاليك سوقيون “عربجية” لصوص ونَوَر جرابيع وأوباش ودراويش بل أيضًا أفنديّة وباشاوات وأنواع شتى من مخاليق ربنا.

الحوار: تعتمد الرواية على الحكي، فلانُُ يحكي عن “علان وترتان”، الآخر يُصغي السمع منفرجَ الأساريرِ أو غاضبًا في اشمئزاز عن كذا وكيت.

الوصف: كذلك يملك خيري شلبي ملَكة الوصف؛ إذ لا يصف لك الشيء مهما كان إلا وتجد نفسك مستمتعًا بهذه القدرة الوصفيّة البارعة، وله نمط خاص في رسم الوجوه عن طريقة الكتابة فيما يعرف باسم البورترية، إذ يصف لك ملامح شخص ما بدقة تقريبية متقنة، فتندهش وتفرح إذ صادفك أن وجه فلان كالفطيرة المشلتتة أو ثدي فلانة كالبطيخة.

الموروث الشعبي: استطاع خيري شلبي صياغة التراث الشعبيّ في كتابته، بل أتقن استخدامه، من أمثالٍ وحكم إلى أغانٍ وأزجال شعبيّة موروثة.

إنّ البلاغة اللغوية عنده مكنّته من إمساك اللغة من مزمار رقبتها والتحكم فيها بكل أريحيّة. ساعده على ذلك قراءة كتب التراث قراءةً جيدة، وحفظه للمواويل الشعبيّة، وفحصه في قواميس اللغة العاميّة من أفواه الشعب نفسه، ليمزج الدارج العامي بالبليغ الفصيح، ليخرج لنا قطعًا فنيّة في غاية الروعة.

ولأنه من الفقراء، عاش وتَرّبى بينهم، فقد أخذ على عاتقه الحديث عنهم وعن آلامهم وعن كمّ المعاناة التي يتعرّضون لها من أجل قوت يومهم، أو من أجل كسرة خبز لسدّ رمق جوعهم، هؤلاء الجياع يتألمون ولا أحد يسمع استغاثتهم، فيضطرون إلى البحث عن سُبل لنجاتهم من الموت.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ‏أحمد سيد‏

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا