بيروت مدينة العالم: حياة المدينة وموتها

الموت مقترنا بالحياة

في لوحته “حياة وموت” يقدّم الرسام النمساوي “جوستاف كليمت” شخصيّتين معروفتين بتضادّهما، فشخصية الحياة متعدّدة الألوان والأعمار والوجوه، لها أجساد نابضة بانفعالات شتّى، أما الموت فله وجهٌ واحد ورمز واحد ووقفة واحدة. يتوازى الاثنان ووراؤهما خلفية رمادية تتوزّع بدرجات مختلفة من الممكن أن ترمز للتاريخ، ورغم اختلاف سبل التعبير الفنّي، تبقى هناك فكرة تجمعها ألا وهي “محاولة الإمساك بالزمن وتثبيته وإدراك التغيّرات التي يصنعها بنا”، وهذا ما يقوم به ربيع جابر في ملحمته الثلاثية “بيروت مدينة العالم”.
يستند ربيع جابر في روايته إلى العمليّة التي تحدث في الزمن، عملية الزوال والانمحاء ثمّ البناء على ما تهدّم.

بيروت مدينة العالم حقًا رواية تاريخية؟

تقول الناقدة اللبنانية يمنى العيد في كتابها “الرواية العربية.. المتخيل وبنيته الفنية” أنّ “بيروت مدينة العالم” ليست تاريخية بما يمكن أن توحي به كلمة تاريخية، فالرواية لا تعالج أيّ أشخاص تاريخيين حقيقيين، ويؤكد ربيع جابر ذلك كثيرًا، فيذكر أنّ ما يكتبه هو رواية خيالية وإن كان التاريخ وأحداثه وشواهده حاضرين في هذه الملحمة الضخمة فحضورهم لا يكون إلا لغرض التوثيق لما كان في بيروت النصف الأول من القرن التاسع عشر، من البداية، توثيقًا يستهدف استعادة حياة الأسلاف وحواريهم وبيوتهم ومواسم تجارتهم في الحرير ومدى استجابتهم لِما كان يتمّ من تغييرات في مدينتهم ضمن عملية “الهدم والبناء”.

فبيروت تشهد أوّل ما تشهد نزول الجيش المصري فيها بقيادة إبراهيم باشا في سياق حربه الطويلة مع السلطنة العثمانيةتنزل العساكر المصرية فتتغير بيروت، وميناء بيروت يزدحم بالسفن القادمة من الإسكندرية، يقام المحجر الصحي وفي السوق العمومي تنتشر بيوت البغاء. يحدث ذلك فتتغير بيروت للأبد. 

سرد ضدّ توراتي

” وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ ً” سفر التكوين، الإصحاح الثامن
قبل ذلك بستّ سنوات يأتي لبيروت رجل بذراع واحدة يدعى “عبد الجواد أحمد البارودي” قادمًا من دمشق هاربًا من جريمة قتل، هذا الهروب يؤسس للعائلة ولحارة البارودي فيما بعد، يؤسّس عبد الجواد البارودي بذراع واحدة بيتًا، ويبدأ تجارة ويتزوج وينجب ثلاثة ذكور ويتزوج مرّات أخرى فينجب الكثير من البنات، ويحقّق ربيع جابر بذلك سردًا “ضدّ توراتي”، فعلى العكس من الكثرة التي تكون في ذرية إبراهيم لا ينجب البارودي إلا ثلاثة ذكور، يموت اثنين منهما والابن الباقي ينجب ذكَرين؛ “حسين وعبد الغني” يموت واحد منهما. وينجب عبد الغني إناثًا فقط فتندثر عائلة البارودي البيروتية بعد قرابة الثمانين عامًا في بيروت.
مع تقدّم السّرد تسير أسرة البارودي في اتجاهين، الأول هو الزوال الذي يتهدّدها مع الكوارث والحروب التي تتكرّر في برّ الشام، والثاني هو ثراؤها على يد عبد الجواد البارودي وابنه الأوسط عبد الرحيم.

شاهين وعمر.. أولاد البارودي من حرب لحرب

يهرب شاهين البارودي بسبب غضب أبيه عليه، فيذهب للمحاربة مع الجيش التركي والبريطاني ضدّ الجيش المصري. يموت شاهين في معركة بحرصاف بالنسبة لعائلته ويذهب عبد الرحيم لإحضار جثته فيدفن شخصًا آخر ظنّ أنه هو.
بالنسبة لعائلة البارودي كان شاهين قد مات عام 1840، ولكن بالنسبة لربيع جابر الذي يدرك أنه يكتب رواية ولا يحكي تاريخًا، ففي الإمكان تأجيل موته حتى حرب أخرى هي حرب القرم 1853.
يمثل فقدان شاهين لذاكرته دلالة رمزية بالغة الأهمية، وتثير سؤالًا بالغ الأهمية لا يخص أسرة البارودي فقط بل وبيروت كلها أيضًا.
في كتابها، تقول الناقدة “يمنى العيد” عن موت شاهين:
“يلتبس موت شاهين، كما تلتبس حقيقته حين يعود إلى الرواية، كأنه بذلك حمولة وجود وحركة زمن.
حين يعود شاهين إلى بيروت، يجدها بلا سور، مختلفة.. فيقول “كان ذلك حلمًا إذًا! لا يعرف هذه الأرض. لكنه يعرف أرضًا تشبهها” ج2 ص 73 .
ينطلق شاهين البارودي باحثًا عن هويته وأرضه وأسرته، يظنّ نفسه تركيًا وبهذا الظن يرتّب ربيع جابر لقاء له مع أخيه عمر في حرب القرم 1853.
يسقط سور بيروت ويضيع شاهين ويموت عبد الجواد بعد زيجات متعددة وموت ثلاثة من نسائه في حياته، ويترك الأمور لعبد الرحيم الذي ترتفع في عهده حارة البارودي وخان التوتة، وتنمو تجارة العائلة.
يحارب عبد الرحيم حرب أبيه. تأخذه التجارة والحسابات والدكاكين بينما يكبر الأولاد والبنات، وهو لا يدري، يخوض كفاحًا كبيرًا لن يعوضه عنه أحد.
“تقضي الحياة وأنت تتعارك مع العشب، وماذا يصير؟ أنت تموت والعشب ينمو” من الرواية، الجزء الثاني
يذهب عمر عبد الجواد البارودي لحرب القرم، يركب البحر الذي يعرف فنون السباحة فيه جيدًا، لكنه يذهب لبحر لا يشبه بحر بيروت أبدًا.
تتغير طبيعة عمر، يفرد ربيع جابر مساحة كبيرة لما شاهده عمر والفرقة البيروتية التي ذهبت تحارب من أجل السلطانـ وعاد منها ثلاثة كان عمر البارودي واحدًا منهم، لكنه يعود بشعر يكثر فيه اللون الأبيض وبصمت طويل وغامض.
يتقن ربيع جابر تلك اللعبة، يعرض شخصياته للموت وينجيهم منه لكنهم لا يعودون هم هم.

حرب الستين

في عام 1860 تندلع فتنة بين الدروز والمسيحيين الموارنة في مدن عدة من برّ الشام، تحرق مدن وقرى وبيوت ويموت آلاف البشر موتًا مجانيًا. تفرّ عائلات من موت محقّق، ينزلون بيروت، يتغير وجه بيروت مرة أخرى، يكثر الناس، نازحون في كل مكان، تساعد الإرساليات التبشيرية وأهل بيروت في علاجهم وتسكينهم وتوفير أشغال لهم ويصير الكثير بيروتيًا.
في الجزء الثالث يتعرّض حسين للموت، يتهم أنه قتل مسيحيين ولكنه لا يموت، قبل أن يقبض على حسين يكون قد مارس الجنس لأول مرة مع امرأة نازحة لا يعرف اسمها، تتابُع الحدثين يذكّرنا بلوحة جوستاف كليمت ويذكرنا كيف يوازي الموت الحياة.

الهواء الأصفر

تصيب الكوليرا بيروت، تعصف بها وبمدن شامية أخرى، يموت من لم يمت في حرب القرم أو حرب الستين، تنتزع أوراق شجرة البارودي ورقة فورقة، يصل عبد الرحيم لافتتاح قناة السويس وهو يعرف أنه قد ضيّع شيئًا ما، لا يعرف ماذا هو.. ويعود لبيروت ولم يعرفه.
تتغير بيروت، ويتغير العالم. يضيق وتضيع أسر وذكريات وصور بين موانئ شتّى، وتتبدد حارة البارودي.
ترى، كم من إنسان تبددت سيرته كما تبددت سيرة عبد الجواد البارودي؟
وكم من مصريّ قضى في حرب إبراهيم باشا أو حرب القرم ولم يلتفت له أحد؟

إعلان

اترك تعليقا